في خضم التحولات المتسارعة التي شهدتها سوريا مؤخرًا، تحاول إدارتها الجديدة بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إعادة صياغة علاقاتها مع العالم، والانفتاح على الجميع بفتح صفحة جديدة في علاقات الدولة السورية مع العالم، في محاولة لتجاوز عقدة العزلة الدولية الخانقة بفعل العقوبات والحرب والانهيار المؤسسي. 

وتواجه البلاد عقبات معقدة تتمثل في العقوبات الغربية، التحديات الاقتصادية، والضغوط السياسية، إضافة إلى تضارب المصالح الدولية في البلاد والذي بشأنه أن يؤثر على مساع استعادة الاستقرار واستعادة سوريا مكانتها.  

فتح صفحة جديدة 

في الآونة الأخيرة، تصدّر المشهد انطلاق سلسلة من الزيارات الرسمية التي قادها الرئيس الانتقالي ووزير خارجيته إلى العديد من الدول، وحملت هذه الزيارات رسائل عدة، أبرزها رغبة الإدارة السورية الجديدة في فتح صفحة جديدة مع الدول الغربية والعربية وبخاصة الدول الخليجية وتعزيز التعاون معها في ملفات الطاقة والاستثمار والأمن الغذائي. 

وأعلنت الحكومة السورية، عبر وزارة الخارجية، استعدادها للتعاون الوثيق مع المجتمع الدولي، مؤكدة أن الدعم الذي تلقته من عدد من الدول بعد تشكيل الحكومة الجديدة يمثل دفعة قوية نحو مواصلة الإصلاحات الداخلية واستعادة الاستقرار. 

وجاء في بيان رسمي أن دمشق تعتبر هذا الانفتاح الدولي فرصة لإعادة بناء العلاقات السياسية والاقتصادية، والانخراط في جهود إقليمية ودولية تهدف إلى تعزيز الأمن وتحقيق التنمية في البلاد، التي أنهكتها سنوات الحرب والعقوبات، وأكدت الخارجية السورية أن الحكومة تسعى إلى العمل المشترك مع الشركاء الدوليين لتلبية احتياجات الشعب السوري، ومواجهة التحديات الإنسانية والاقتصادية الراهنة. 

يعكس هذا الإعلان الرسمي مساعي الإدارة السورية نحو الانفتاح ومحاولة كسر العزلة الدولية التي تحيط بالنظام السوري منذ سنوات، وبين التفاؤل الحذر والتوجس السياسي، تبقى الأنظار موجّهة إلى مدى جدّية هذا التوجه، ومدى استجابة المجتمع الدولي لدعوة دمشق في ظل خارطة إقليمية معقدة ومصالح متشابكة. 

سقوط الأسد بين المكسب والخسارة 

على الرغم من استمرار تصنيف القيادة السورية الجديدة ممثلة في “هيئة تحرير الشام” وزعيمها أبو محمد الجولاني، تنظيمًا إرهابيًا، إلا أن الدول الغربية تفتح قنوات التواصل مع السلطات بشكل حذر وهو ما يعكس وجود أولويات غربية تجاه سوريا. 

حقق سقوط الأسد مكاسب لبعض القوى الإقليمية كتركيا وإسرائيل، بينما حقق خسائر استراتيجية لأخرى وعلى رأسها روسيا وإيران، والآن تتداخل المصالح المتنافسة للدول الإقليمية والدولية في سوريا، فتتواجد قوى مثل روسيا وتركيا وإيران والولايات المتحدة، ولكل منها أجندتها الخاصة وأهدافها الاستراتيجية. 

وبالنسبة للدول العربية في مقدمتها السعودية وقطر والإمارات والأردن، شهدت العلاقات مع الجمهورية السورية حالة من الانتعاش واتجهت لمسار غير المعتاد بعد أن كانت مُتأزمة، عندما كانت تحت حكم عائلة الأسد. 

تقوم العلاقات مع سوريا الجديدة على أساس تقاطع المصالح الاستراتيجية، أكثر من كونها علاقة قائمة على الألفة الشخصية، حيث تنظر دول الخليج إلى استقرار سوريا كضرورة لأمن الإقليم. 

يرى الأردن في التحول السياسي السوري فرصة لتعزيز التعاون الاقتصادي وإعادة الإعمار. 

صراع النفوذ والمكاسب الاقتصادية 

بينما تسعى تركيا إلى الحفاظ على نفوذها في شمال سوريا ومواجهة التهديدات الأمنية التي تراها من الجماعات الكردية، أما الولايات المتحدة، فتركز على مكافحة الإرهاب وضمان عدم عودة تنظيم “داعش”. 

وعلى الصعيد الاقتصادي، فيبدو أن تركيا تسعى أن تلعب دوراً هاماً في ملف إعادة الإعمار لسوريا إذا ما تم رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها، فضلا عن جذب المزيد من المستثمرين السوريين الذين دخلوا تركيا بعد العام 2011، والعمل على إعادة بناء الاقتصاد بالبلاد ما سيعود بالنفع على الجانبين. 

ولروسيا مصالح اقتصادية وعسكرية كبيرة في سوريا وخصوصا القاعدة العسكرية التابعة للبحرية الروسية في مدينة طرطوس، والموجودة هناك منذ فترة الاتحاد السوفييتي، إضافة إلى المصالح الاستراتيجية، وتسعى إلى استعادة النفوذ السياسي بعد أن كانت من داعمي النظام السوري السابق، من أجل تأمين مصالحه الرئيسية في سوريا، وخاصة استخدام القواعد العسكرية، وقد عرضت موسكو التعاون مع القيادة الجديدة في دمشق، وترغب في تقديم نفسها كلاعب عملي راغب في التكيف مع ديناميكيات القوة الجديدة. 

موقف أميركي غامض  

لم يتم تحديد المسار المستقبلي لإدارة ترامب الثانية فيما يتعلق بسوريا بعد، ولم تشكل المناقشات حول هذا البلد أولوية في واشنطن، ومع ذلك، فإن السياسة الأميركية قد تتغير فجأة؛ وعلى وجه الخصوص، قد يؤثر هذا على الوجود العسكري الأميركي في سوريا والتعاون مع “قوات سوريا الديمقراطية”.  

تشير المؤشرات الأولية إلى أن إدارة ترامب أقل تركيزا على “الانتقال الشامل” وأكثر اهتماما بالأمن والمصالح الجيوسياسية، وتتمثل الأهداف الأساسية في ضمان عدم تحول سوريا إلى ” مصدر للإرهاب الدولي ” وضمان أمن إسرائيل. 

وحدد رئيس لجنة السياسة الخارجية في “مجلس الشيوخ” الأميركي، جيم ريش، قائمة بشروط الولايات المتحدة لتخفيف العقوبات على سوريا، شملت القضاء على النفوذ الروسي والإيراني داخل البلاد، خصوصاً مع توجه الحكومة الجديدة في دمشق إلى التعاون مع موسكو بما يحقق مصالح الطرفين. 

كما تضمّنت القائمة تقديم أدلة على أن الحكومة المؤقتة لن تسمح لسوريا بأن تصبح منصة إطلاق لهجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة وشركائها، وتدمير مخزون نظام الأسد من “الكبتاغون”، ومعرفة مصير المواطنين الأميركيين الذين اعتقلهم نظام الرئيس السابق بشار الأسد، بما في ذلك الصحافي أوستن تايس. 

وقد ركّزت الولايات المتحدة على أهمية إبعاد روسيا عن لعب أي دور في سوريا، خاصة وأن موسكو تحاول أن تتبنى دوراً مغايراً عن السابق بدلاً من أن تنسحب من المشهد السوري. 

النفوذ الإيراني هو الأضعف 

مع سقوط نظام الأسد، فقدت إيران نفوذها المباشر في سوريا، وتسعى حاليا إلى إقامة اتصالات مباشرة مع الحكومة الانتقالية في دمشق، وقال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، إن نهج إيران “يعتمد على سلوك الجانب الآخر”، في إشارة إلى استعداد طهران لاستعادة العلاقات التي قطعتها الإطاحة بالأسد إذا أتيحت الفرصة.  

ولكن دمشق أظهرت اهتماما ضئيلا بإعادة العلاقات مع طهران؛ وحتى لو تم إحياء مثل هذه العلاقات، فإن نفوذ إيران سيكون أضعف بكثير من ذي قبل، ونظراً لأن الجمهورية الإسلامية تفتقر إلى الموارد الاقتصادية اللازمة لتقديم حوافز ذات مغزى، فمن المرجح أن يظل دورها في سوريا محدوداً، وسوف تقود جهود إعادة الإعمار جهات فاعلة تتمتع بموارد مالية أكبر تحت تصرفها. 

ولدى ألمانيا وشركائها في الاتحاد الأوروبي مصلحة قوية في ضمان استقرار سوريا وضمان توقف البلاد عن تشكيل تهديدات لجيرانها وأوروبا، وشكل سقوط نظام الأسد فرصة فريدة لتحقيق هذه الأهداف، لكن هناك تهديدات من خطر اشتعال الصراعات المسلحة من جديد، مما يدفع الجهات الإقليمية والدولية إلى التدخل عسكريا مرة أخرى، ومن شأن هذا السيناريو أن يؤدي إلى استمرار اقتصاد الحرب وموجات جديدة من النزوح، وفي الوقت نفسه، ستظل سوريا بمثابة ملجأ آمن وأرض تجنيد لتنظيم “داعش” والجماعات الجهادية الأخرى. 

فرصة أوروبية 

لذلك تسعى ألمانيا والاتحاد الأوروبي نحو اغتنام الفرصة الحالية للمساهمة في استقرار سوريا مع تنسيق نهجهما مع أطراف أخرى منها الولايات المتحدة وتركيا ودول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، وينبغي أن يكون الهدف هو تهدئة التنافسات الجيوسياسية بدلا من تفاقمها، مع دعم وحدة أراضي سوريا وسيادتها. 

يتعين على ألمانيا والاتحاد الأوروبي تمهيد الطريق لزيادة المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار سوريا التي دمرتها سنوات من الحرب الأهلية، خاصة وأن التحسن السريع في الوضع الاقتصادي للبلاد أمرٌ حاسم لاستقراره.  

وفي أواخر شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، اتخذ مجلس الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي خطوة حيال ذلك عندما وافق على خارطة طريق للتخفيف التدريجي للعقوبات القطاعية والمؤسسية؛ وفي أواخر الشهر التالي، تم تعليق بعض العقوبات الأوروبية في قطاعات الطاقة والنقل والمالية، على الرغم من عدم رفعها بالكامل. 

عقبة العقوبات الأميركية 

تظل العقوبات الأميركية تشكل عقبة رئيسية أمام إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي، لكن بإمكان ألمانيا والاتحاد الأوروبي الضغط على واشنطن لرفع تلك العقوبات، وفي حال بقائها، ينبغي لهما تطوير آليات قابلة للتطبيق لتعزيز المساعدات الإنسانية وتمهيد الطريق للتعافي المبكر. 

مع اختلاف مواقف دول الجوار تجاه التحول السياسي السوري، تتفق معظم الأطراف على أن استقرار سوريا يمثل ضرورة إقليمية، إلا أن الأطراف التي خسرت نفوذها في سوريا قد تحاول إجهاض هذا التحول عبر تغذية الفوضى، وهذا يتطلب من الإدارة السورية الجديدة تعزيز الاعتدال والانفتاح، لتجنب عزلتها إقليمياً ودولياً. 

المستشار الاقتصادي، الدكتور أسامة القاضي، قال خلال حديث خاص لموقع “الحل نت”، إن سوريا بعد خمسين عامًا من الانغلاق على المجتمع الدولي والانفصال عن العالم فتحت شهية كل دول العالم أن يكون لها موطىء قدم فيها، خاصة الدول العربية وتركيا.

تنافس إيجابي 

أضاف المستشار الاقتصادي، أن القدر الجيوسياسي بين سوريا وتركيا التي ترتبط حدودها معها بمسافة تتجاوز 900 كيلو متر، جعل من الصعب إبعاد الجار التركي من المشهد السوري، خاصة وأن سوريا في طور إرهاصات بناء الدولة.

عن السياسة الدولية المتبعة سابقًا خلال عهد الأسد، أشار إلى أنه لم يكن في سوريا دولة مؤسسات حقيقية، لكنها كانت عبارة عن منظومة فساد يحكمها عصابة عزلتها عن العالم، وكانت تتبع سياسة ابتزاز الأشقاء والأصدقاء، وجعلتها بلا هوية سياسية أو اقتصادية ميولها نحو إيران وتغازل العرب.

المستشار الاقتصادي، الدكتور أسامة القاضي

وبيّن أن هناك تنافس إيجابي للدخول إلى السوق السورية من بوابتها الاقتصادية، سواء من الطرف العربي على رأسه المملكة العربية السعودية التي استبشرت خيرا بزوال نظام الأسد وانهيار المشروع الإيراني في سوريا واستقلالها، مرجحا أن يكون لها دورًا هامًا في سوريا الجديدة.

بوابات جديدة للشراكة

أضاف أن انطلاق شرارة التحرير جاءت من مناطق النفوذ التركي، ما يعني أن أنقرة معنية بالاستقرار السوري، وهو ما له بُعد قومي بعدم السماح لأي جزء من سوريا بالانفصال، وتشكيل كيان انفصالي على حدودها.

بجانب الاستقرار الأمني والسياسي، أشار إلى أن تركيا تهدف إلى فتح بوابات جديدة لشركاتها خاصة في ظل الوضع الاقتصادي التركي المتعثر، كما أصبحت السوق السورية مغرية لهذه الشركات في ظل القرب الجغرافي بين البلدين.

وأفاد بأن أوروبا أيضًا وبخاصة ألمانيا وفرنسا لديهم دوافع كبيرة لدخول السوق السورية سواء عبر تعزيز البنية التحتية أو التكنولوجية أو الصناعية، مشيرًا إلى أن السفارة الألمانية كانت من أولى السفارات التي فتحت أبوابها في سوريا، وأيضا فرنسا عبر مجموعة شركات “توتال انرجي” تريد أن تعقد شراكة مع الحكومة السورية للاستثمار في قطاع النفط.

إقبال الشركات الأميركية على العودة 

أما بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، فأوضح أن شركاتها مُقبلة للتدخل والعودة في مجال الاستثمارات النفطية، خاصة حقل “كونكو” الذي كانت تديره شركات أميركية، إضافة إلى شركة “تكساس” المتخصصة في إصلاح الآبار خلال عهد الرئيس الأميركي السابق جو بايدن ترغب أيضًا العودة إلى السوق السورية، مؤكدًا أن هناك طيف واسع من الدول تريد الاستثمار في سوريا.

وأكد أن وجود الاستثمارات العربية والأجنبية إلى جانب السورية يضمن الأمان والاستقرار للبلاد، فإذا تزعزع سيضر بمصالحهم جميعا، ما يدفع نحو التدخل لوقف أي اضطراب أو تدخل سافر من أي دولة.

هناك ضرورة أن تكون أولويات الإدارة السورية الجديدة خلال هذه المرحلة، وضع رؤية تنموية وقوانين جاذبة للاستثمار وتطوير البنية التحتية، وما يتبقى مهمة تنظيم العمل الاقتصادي ووضع الرؤية الاقتصادية التي تعتمد على التعليم والتصنيع والتكنولوجيا مع التركيز على بقية القطاعات والتنمية في كل المحافظات وأن لا يكون هناك أي تمييز بين محافظة وأخرى.

يشكل التحول السياسي في سوريا اختبارًا معقدًا للعلاقات الإقليمية. فبين الفرص الاقتصادية والتحديات الأمنية، تظل مواقف دول الجوار محكومة بالمصالح المشتركة والمخاوف المتبادلة. ومع ذلك، يبقى نجاح هذا التحول مرهونًا بقدرة الإدارة السورية الجديدة على بناء علاقات متوازنة، تستند إلى التعاون الإقليمي وتجنب سياسات الإقصاء والعداء. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة