انكساراتُ الثورة.. إذ تغيبُ إرادة السُّوريين الفاعلة عن المشهد

انكساراتُ الثورة.. إذ تغيبُ إرادة السُّوريين الفاعلة عن المشهد

الواقع السوري شديدُ البؤس اليوم؛ بات الخروج منه، أو تحريكه بالحد الأدنى، يعتمد على حصول توافقات سياسية بين القوى الدولية الفاعلة في الملف السوري، والتي لا تتطابق مصالحُها مع ما يحتاجه السوريون اليوم، للنهوض بواقعهم المزري.

يغيبُ النقاش حول أهمية أن يكون للسوريين دور فاعل في تقرير مستقبلهم؛ كل النخب السياسية التي تواجدت على الساحة السورية، سواء في الداخل أو الخارج،  تعوّل على التغيير عبر التوازنات الدولية.

فيما يقتصر النشاط الحقوقي، على مطالبات ونضالات في المحافل الدولية حول تحقيق العدالة والديمقراطية والمواطنة، أما منظمات المجتمع المدني، فترفع شعار تمكين المواطنين، لكن مشاريعها، ذات التمويل السخي في 2011، راحت تشحُّ في الأعوام الأخيرة، وهي عبثية وبلا جدوى.

هناك تحليلات تستسهل القول بأن الشعب السوري، والعربي عموماً، متخلّف وغير مؤهل ليكون ضمن دائرة الفعل في التاريخ؛ يتناسى هؤلاء أن الثورة في بدايتها كانت شعبية وواسعة، وأنهم فوجئوا بها، بعكس النظام الذي كان مستعداً لمواجهتها وقراءة المشهد الدولي بدقة والاستفادة منه للبقاء في الحكم، حتى لو كان ذلك تحت الاحتلالات.

بالتالي كل المشهد السوري الذي تغيّر بعد 2011 وإلى الآن، هو بسبب ثورة السوريين، وإنّ مصادرة إرادة الشعب، وعدم تمكينها هو سبب حالة العجز والفشل، وصولاً إلى الاستنقاع الأخير.

هناك أسباب موضوعية لغياب إرادة السوريين عن المشهد، يمكن حصرُها في ثلاثة مستويات متفاعلة؛ الأول يتعلّق بإدراك النظام لضرورة إفراغ الثورة من محتواها الشعبي ومصادرة قدرتها على تطوير ذاتها، فكان أن دفع إلى الطائفية، عبر استفزاز مجتمع الثورة من خلال تأليب مؤيديه ضده، وعبر استخدام العنف المفرط دفع نحو التسليح، ونحو الأسلمة، بإخراج الإسلاميين من سجونه، واعتقل ولاحق ناشطي التنسيقيات الأوائل، ومارس القمع الوحشي ضد المدن والبلدات الثائرة.

المستوى الثاني، ذاتي الطابع يتعلّق بعجز النخب السياسية عن إدراك لحظة الثورة وحاجاتها، وأن التعويل يجب أن يكون على فاعلية الشعب؛ المعارضة المكرّسة ظلّت حبيسة طروحات ما قبل الثورة، والمتعلقة بالديمقراطية خصوصاً، مع بعض التوافقات المبهمة حول شكل الدولة ودستورها، وبالتالي لم تدعم الثورة، عبر نقدها خصوصاً، بقدر ما استغلتها في طرح مشاريعها الغوغائية غالباً.

مشاريع النخب السورية غوغائية، لأنها لم تمتلك تحليلاً سياسياً دقيقاً للواقع الدولي؛ فقسم من المعارضة (المجلس الوطني ومن دار في فلكه لاحقاً) وضع كل رهانه على دعم دولي للإطاحة بالنظام، وهو أمر غير ممكن في تلك اللحظة، بل الممكن هو العكس، أي تدخل لمصلحة بقاء النظام.

القسم الثاني من المعارضة المكرسة (هيئة التنسيق والتيارات المشابهة) كان برنامجها لاءات ورفض وشعارات، أشبه بالتخويف من الحراك، أكثر منه برامج سياسية ودور قيادي فاعل.

أما النخب الثقافية والناشطين المدنيين، فقد أجهز النظام على قسمٍ منهم، وخرج القسم الباقي من البلاد؛ واستطاعت المعارضة المكرسة تحييدهم، أو تذويبهم في سلوكها السياسي، ولم يتمكنوا من إقامة مؤسسات حقيقية تدعم الثورة، بسبب سيطرة أمراض تتعلق بالشللية وظهور الأنا، تعززت خصوصاً مع توفر أشكال من التمويل الخارجي سواء العسكري أو الإعلامي أو السياسي أو الإغاثي.

المستوى الثالث، يتعلّق بالتواطؤ الدولي على دور الشعب؛ حيث تختلف الدول المتدخلة في سوريا حول ملفات كثيرة، ومنها محاسبة الأسد على جرائمه أو تبرئته، وعلى دور إيران وتركيا، وعلى إعادة العلاقات مع النظام أو رفضها، وعلى أمن إسرائيل، لكن كلُّها تتفق على إبقاء الشعب السوري مقموعاً، وخارج دائرة الفعل في تقرير مصيره.

بشار الأسد يفهم هذه الحقيقة ويحسن استغلالها، حيث قدم صورة هزلية مقصودة لانتخاباته، التي لم يعارضها الشعب، خاصة في المدن الكبرى، أراد منها إيصال رسالة إلى المجتمع الدولي بأنه لا يزال ديكتاتوراً صالحاً لأداء دوره الوظيفي المعتاد بقمع الشعب، وأن لا بديل عنه.

الديكتاتوريات العربية هي الأكثر تخوُّفاً من ثورات شعوبها، وهذا ما دفعها إلى دعم النظام في مراحل مختلفة، وصولاً إلى إعادة العلاقات الدبلوماسية معه، مع إبداء شراهة تجاه ملفات إعادة الإعمار، والتي يحول قانون قيصر الأميركي دون حصولها.

وهناك دور متعاظم لمنظمات المجتمع المدني، أو غير الحكومية، في إقصاء الشعب عن دائرة الفعل؛ أولاً بفكرها الاستشراقي الاستعلائي، وأنها وسيلة الغرب المتحضر لنشر ثقافته الحداثية في دول العالم الثالث المنكوبة.

وثانياً، بقدرتها على سحب الشباب الفاعل في الحراك، وتفريغ طاقاته في مجالات الإغاثة والعمل الإنساني، وتقديم الرواتب الكفيلة بإبقاء هؤلاء الشباب مرتبطين بتلك المنظمات، خاصة مع غياب فرص العمل الأخرى.

من المعروف أن مشاريع هذه المنظمات عبثية، ومنفصلة عن بعضها، ولا تؤدي دوراً في تمكين المجتمع، كما تدعي، بل العكس، لها دور تخريبي، عبر تعزيز الفساد. ودورها هذا يتعاظم، ومن المتوقع أن يتضخم أكثر مستقبلاً، إذا ما تم التوصل إلى حل سياسي، وباتجاه تعزيز التقسيمات العشائرية والطائفية والمناطقية، وذلك قياساً بما يحصل بدول أخرى منكوبة، كما في إفريقيا، حيث أصبحت تلك المنظمات أدوات احتلال وترسيخ للتخلف.

ليس من السهل أن ينهض من تبقى من الشعب، في مناطق النفوذ الثلاثة، مجدداً، رغم اشتداد صعوبة الحياة الاقتصادية واستمرار التضييق الأمني، وذلك بسبب صورة الفشل الراسخة في الذاكرة القريبة لكل السوريين، وإحساس العجز المسيطر، بعكس ما كان عليه الأمر في 2011، حين كان الأمل بالتغيير هو المسيطر.

ما يحتاجه السوريون للخروج من حالة اليأس والتقاط بصيص الأمل، هو فترة مراجعة نقدية، وهذه مهمة النخب السورية.

المراجعة الثورية تتطلب فترة طويلة من الهدوء، والتي قد يوفرها الحل السياسي، إذا ما تم الاتفاق عليه؛ أيضاً، تتطلب أن تكون عملاً جماعياً، وهذا غير متوفر في حالة شتات النخب السورية، وفقدان لغة الحوار بين أفرادها، وسواد نوع من استسهال التحليلات، وإلقاء اللوم على الآخرين.

يبدو أن المشوار ما زال طويلاً؛ فرغم فشل سياسات المعارضة وطروحات شرائح واسعة من المثقفين، والتي ذكرتُها أعلاه، فما زالت تلك النخب لا تلقي بالاً لدور الشعب، وتضع كل أملها في التغيير، أو كلَّ عَتَبِها، على المجتمع الدولي، الذي يصفونه بالمتخاذل.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.