المعارضة السورية والرؤية القاصرة للحدث العالمي “الأزمة الأوكرانية” 

 المعارضة السورية والرؤية القاصرة للحدث العالمي “الأزمة الأوكرانية” 

شكل الغزو الروسي لأوكرانيا بداية لمتغيرات كبيرة تخص التوازنات الكبرى على الساحة الدولية، وتغييرات في سياسات الدول العظمى، أمريكا والصين وروسيا والهند والاتحاد الأوروبي… باتجاه تشكيل تحالفات وتقاربات جديدة؛ وتبحث الدول الإقليمية، تركيا وإيران وإسرائيل، والدول العربية، عن مصالحها، مستغلة الخلافات بين الدول الكبرى.
يشكل الملف السوري واحداً من الملفات الشائكة التي تتقاطع حولها مصالح الدول العظمى والإقليمية؛ فمنذ اتفاق موسكو لوقف إطلاق النار في إدلب في آذار 2020، ظلت حالة الركود السياسي والعسكري مسيطرة على المشهد السوري، وترسخت خرائط النفوذ بتوافق ضمني بين الدول اللاعبة فيه، وما زال الوضع مستمراً، مع تعنّت الروس في تنفيذ التزاماتهم حول اتفاق جنيف 1 والقرار الأممي 2254، ورفْضِ الأمريكيين والأوروبيين للحل الروسي بإعادة تعويم النظام، وتردُّد العرب ثم امتناعهم عن إعادة العلاقات مع دمشق، خوفاً من عقوبات قانون قيصر.
زاد الأمريكيون والأوروبيون من تصعيدهم ضد نظام الأسد، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، لتشديد الضغط على روسيا، بتفعيل ملف المحاسبة وتشديد العقوبات، لقطع أية مساعٍ روسية في هذه المرحلة لإعادة تعويم النظام وعودة اللاجئين وإعادة الإعمار؛ ولا تغيير في السياسة الغربية تجاه سوريا، والمتمثلة في إعاقة الحل الروسي، بل هناك تشدُّد في تنفيذها.
زاد التقارب الإسرائيلي الروسي بزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى موسكو، للعب دور الوسيط بين موسكو وكييف، ولم تعلن تل أبيب تأييداً واضحاً للموقف الأمريكي والأوروبي، بسبب امتعاضها من التغاضي الأمريكي عن سياسة إيران التوسعية في المنطقة، واقتراب العودة لإحياء الاتفاق النووي الموقع في 2015. فإضافة إلى ضمان بقاء التنسيق الروسي- الإسرائيلي حول السماح لتل أبيب بتنفيذ ضرباتها على المواقع الإيرانية في سوريا، وكان آخرها الأسبوع الماضي، تراهن إسرائيل على الموقف الروسي الجديد المعرقِل لمساعي العودة إلى الاتفاق، بعد أن كانت موسكو وسيطاً خلال الأشهر الماضية، كما كانت قبل سبع سنوات حين أنجز الاتفاق الأول، حيث تشترط روسيا على واشنطن تقديم ضمانات مكتوبة بألا تشمل العقوبات التي يفرضها الغرب على موسكو بسبب غزوها لأوكرانيا، العلاقات التجارية والعسكرية والتقنية بين موسكو وطهران.
بات الغرب أكثر حاجة إلى إحياء الاتفاق النووي، للاستفادة من موارد الطاقة الإيرانية، كبدائل عن النفط والغاز الروسيين؛ وطهران بدورها متشوقة إلى رفع العقوبات عن اقتصادها، ودخولها الأسواق الدولية، وامتلاء خزائنها بالمال، اللازم لاستكمال سياستها التوسعية في المنطقة، وللاستفادة من غلاء أسعار النفط والحاجة الأوروبية له. وهنا تفترق إيران مع روسيا؛ وبالتأكيد هذا له انعكاساته في علاقتهما كشريكين متنافسين في سوريا.
النظام السوري، بدوره، يجيد استغلال الفرص، فهو يعتاش على التناقضات بين الحليفين الداعمين له، روسيا وإيران، ويرى الحضن الإيراني أكثر دفئاً من الحضن الروسي؛ ورغم إعلانه الدعم الكلي لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، بإخراج مسيرات تأييد ترفع صور بوتين وأعلام روسيا، أرسل، في الوقت نفسه، نائبه الأمني، علي مملوك، إلى طهران، واستقبل قائد الحشد الشيعي العراقي في دمشق، في ظل انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا.
هناك أيضاً تقارب إسرائيلي- تركي، تمثَّل بزيارة فريدة لرئيس إسرائيل إلى أنقرة؛ فتركيا، العضو في حلف الناتو، تتلاقى مع إسرائيل في امتعاضها من الغرب، ولديها خلافاتها مع أمريكا، ضمن حلف الناتو وخارجه، وكلا البلدين، إسرائيل وتركيا، يسعيان إلى لعب دور الوساطة في الأزمة الأوكرانية. تركيا حليف لروسيا في سوريا، ورغم أنها لا تأمن جانب الناتو، لكنها تفضل البقاء في الحلف الغربي، وقدمت طائراتها المسيرة، بيرقدار، إلى حكومة كييف، وحاولت تبرير ذلك تجنباً لغضب روسيا، الأمر الذي سينعكس سلباً على توافقات البلدين في سوريا، خاصة ما يتعلق بالمخاوف التركية على حدودها، من أن تلعب روسيا بالورقة الكردية. وبالتالي تركيا تضع نفسها على الحياد، قدر المستطاع، ريثما تتضح ملامح تهدئة، تبدو بعيدة، في أوكرانيا.
ومثل تركيا وإسرائيل، فضّل مجلس التعاون الخليجي البقاء على الحياد، خاصة مع التباعد الأمريكي- السعودي والإماراتي، بسبب تغاضي واشنطن عن هجمات الحوثيين في اليمن على البلدين، وتستمر إدانة واشنطن للسعودية خلفية قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، وانتهاكاتٍ لحقوق الإنسان، وهذا التباعد تصاعد في الآونة الأخيرة، مع رفض السعودية زيادة إنتاج النفط لتخفيض سعره عالمياً، والذي قوبل بزيادة التنديد الأمريكي بانتهاكات حقوق الإنسان في السعودية. لكن الرياض، ورغم اهتمامها بشريكها الروسي، باعتبارهما العضوان الأكثر تأثيراً في تحديد سعر النفط في منظمة أوبك+، ما زالت تميل إلى التحالف مع الغرب والولايات المتحدة، وتريد استثمار الحاجة الغربية إلى الدور السعودي.
قد تنتهي الحرب في أوكرانيا، بدخول بوتين إلى كييف، أو بالتوصل إلى اتفاق بين بوتين وزيلنسكي؛ لكن هذا لن يوقف حالة التوتر الدولية، بين روسيا وحلف الناتو، ومن المبكر التنبؤ بإمكانية جلوس الطرفين على طاولة الحوار لإقرار حدود ومجال كل طرف. هذا يعني أن لا متغيرات كبيرة حول الوضع السوري، بل المزيد من الاستنقاع والتأزم، وابتعاد أكبر عن الحل، مع تعمق الخلاف الأمريكي الروسي.
رغم أن هذا الظرف الدولي، أي إعادة تشكيل التوازنات الدولية، مواتٍ لحراك سياسي سوري معارض، يمكن أن يستثمر في الخلافات الدولية الراهنة، يضاف إليه حالة الضعف الشديد للنظام، سياسياً واقتصادياً وشعبياً؛ لكن غياب الإرادة السورية عن الفعل، بسبب حالة التصحر السوري المعارض، تمنع مثل هذا الحراك. فقيادات المعارضة المكرسة في الخارج مرتهنة لإرادات الدول الداعمة لها، وذلك يشمل كل مؤسساتها، من الائتلاف وهيئة التفاوض ووفد اللجنة الدستورية ووفد أستانة. في حين أن قوى الأمر الواقع في الداخل، في مناطق النفوذ الثلاثة، تمنع أي حراك شعبي ممكن، ويسود الداخل السوري حالة يأس وإحباط، بعد فشل تجربة الثورة الأولى، وما جرى بها من قتل وتنكيل، وتقسيم قسري للجغرافية السورية، وما رافقه من تغيير ديمغرافي. وليس لتيارات المعارضة العاملة في الداخل أي تواجد على الساحة السياسية السورية، لأنها تعمل في ظل النظام، وتتقي قمعه.
مؤسسات المعارضة المكرسة في الخارج تحتكر العمل السياسي، ويتبادل أفرادٌ بعينهم المناصب القيادية فيها. فقد فشلت محاولة رياض حجاب مثلاً، بدعم قطري، عبر مؤتمر الدوحة الأخير، للانقلاب على هؤلاء الأفراد المسيطرين في المعارضة، وإنهاء دورهم، والبحث عن تشكيل جديد؛ وذلك بسبب التمسك التركي بالائتلاف وشخوصه ومسارات التوافقات مع روسيا.
هذا يعني أن المعارضة السورية في الخارج، فاقدة لأية إرادة سياسية مستقلة، ورهنت نفسها بالكامل للأجندة التركية التي تدور في الفلك الروسي إلى الآن. في حين أن الأمريكيين لا زالوا يعترفون بأن سوريا منطقة نفوذ لروسيا، وليس في جعبتهم خطة تجبر روسيا على تنفيذ المقررات الدولية، غير ممارسة ضغوط كبرى تمنع إعادة تعويم النظام. ويغيب الحراك السوري كلياً عن دائرة الفعل؛ وبالتالي أمام الوضع السوري، في الفترة القريبة المقبلة، المزيد من الاستنقاع والتأزم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.