قنصلية

حسام موصللي

بعد مرور ما يُقارب العام على توقيعه لعقد عمل مع قناة تلفزيونية مهمّة في ألمانيا، استطاع أن يُكحّل عينَي صورتِه في جواز السفر بفيزا لا تتجاوز مدتُّها شهرين. تملأ دموع الفرح عينيه، وأحياناً يقرص يده ليؤكد لنفسه وهو يتأمل جواز سفره للمرّة للعاشرة أنّه لن يستيقظ مجدداً من حلم كان جميلاً في البداية قبل أن يستحيل إلى أرقٍ بفضل الموظّف السوري في القنصلية الألمانية، فضلاً عن بيروقراطية الاتّحاد الأوروبي التي، في أحسن الأحوال، لن تبلُغ سرعة إخراج بيان حصر الإرث لعائلة سورية، كبيرة نسبياً، من الدوائر الحكومية في العاصمة دمشق.

لم يُعجب الموظف السوري في القنصلية الألمانية في اسطنبول بالموقف السياسي لصديقنا، مع أن الأخير لم يكُن ليكشفه لولا أن سيرته الذاتيّة لا تعجُّ بنشاط إعلامي في محطات تلفزيونية وإذاعية مُعارِضة. وما كُنّا لنعرف أن تلك هي العلّة في تأخير الموافقة على طلب السفر، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن قنصليّةً لدولة ديموقراطية على غرار ألمانيا لن تضع موظّفاً يتحكّم رأيه السياسي بمصير الناجين من أبناء بلدِه، بيدَ أن ما سمعناهُ من انتقادات، وما شاهدناهُ من حالات رفض، لأشخاص لم نعرِف عنهم سوى أنهم ينتظرون منذ سنة، وبعضهم أكثر، على باب السفارة، ولا يفعلون شيئاً بخلاف التنهيدات تارة وبعض الشتائم الموجّهة لبشار الأسد والموظفّ الذي يمارس دور الحواجز العسكرية والأمنية من خلال حصارهِم في منفاهُم؛ سواء كانوا طلّاباً أم عمّالاً أم عجزة يطلبون لم الشمل لعلّهم يجتمعون من جديد بعائلاتهم التي سبقتُهم إلى ألمانيا عبر طُرقات البحر والموت.

الأقلية أمام باب القنصلية هي من “العرب السنّة” وفق ما يبين المنتظرون، بيد أن أحداً لا يأتمِر ليُناقش أمور حمايتهم، كما أنّه لا يتمتعون بأي ميزة سوى وصمة الإرهاب التي تُلاحِق جوازات سفرهم!

منذ فترة، وخلال نوبة مُراجعة للقنصليّة، أغرقَت العاصفة الثلجية التي أصابت مدينة إسطنبول التركية المُراجِعين المصطفين أمام الباب بشتّى جنسيّاتهم، وأبرزها السوريّة والعراقيّة، وذلك لعدِم وجود أي شمسيّة أو واقٍ لهؤلاء الواقفين يومياً بانتظار الفرج لساعات طوال؛ باب القنصلية الذي كان في الأصل مَدخلاً لكراج السيارات الدبلوماسية. ولم تستثنِ العاصفة المُترجِمين أيضاً، وجلُّهم من السوريين والعراقيين، الذين كما أخبرنا أحدِهم: “أقِف عند باب القنصلية من الساعة الثامنة صباحاً وحتى انتهاء الدوام الرسمي. أمرّ أحياناً في يومَي العطلة الرسميّة للقنصلية، لعلّي أجد زبوناً تائهاً أكثر من البقية الذين مازالوا قادرين على تمييز أيام الدوام من أيام العطلة!”.

أما “ريزان” الذي يبحثُ الجميع عنه، فيكفي أن تقِف بين الناس لمدة قصيرة، ساعة تقريباً، حتى تعرف أنّه مُترجم من مدينة عفرين في ريف حلب؛ بَدين قليلاً ويرتدي سترة جلديّة بنيّة اللون. يزعُم البعض أنّ “ريزان” سافر إلى أربيل، بينما يقول آخرون أنّه عاد إلى عفرين. والنتيجة في نهاية المطاف: لا أحد يملك أيّ معلومات مؤكدة بصدده سوى أنّه أغلق خط هاتفه واختفى بعد أن احتال عليهِم بحجة تسريع أمور الفيزا بمبالغ أدناها “300 دولار أميركي” وأعلاها لا يعلمُه إلا الله وريزان وضحاياه الذين وكأنما على رؤوسهم الطير.

لا ينحصرُ هذا المشهد في القنصلية الألمانية فحسب، بل يتعدّاها إلى مختلف سفارات العالم الأول وقنصلياته، فضلاً عن معظم المنظّمات المعنيّة بحقوق الإنسان، واللاجئين بصفة خاصّة، مما يدفع الهاربين من قبضة الموت في بلادِهم إلى تسليم أرواحِهم لتُجّار موتٍ آخرين، قاذفين بأنفسهم في غابات العالم وبحاره وصحاراه، على مبدأ أنك إذا سلكَت الطريق القصير فربما سيُباغِتُك الذئبُ وربّما لا، أما الطريق الطويل فغالباً ستكتشف أنّ نهايته بعكس ما كُنتَ تتوقّع أو أنّه مُجرد متاهة لا حصرَ لحلقاتِها.

أثناء ابتعادِنا عن باب القنصلية، ووسطَ استعجالِ صديقي الذي عانقَ جوازَه ثمّ طار بِه في مخيّلته، مَررتُ بجانب رجل عجوزٍ كُنتُ قد تعرّفت إليه هُناك وعرفتُ منه أنّ زوجتُه وأولادُه في ألمانيا وهو ينتظر الآن الموافقة على لمِّ الشمل، وأنّه تعرّض للسرقة في مطارِ بيروت في لبنان حيثُ ضاعَت مُعظم أوراقه الرسمية، وذلكَ قبل أن يصل إلى تُركيا فيفترسَهُ “ريزان”  ويقتنصَ منه مبلغ “300 دولار أميركي” لقاءَ ترتيب مُقابلة مُستعجلة مع “مسؤول التسفير!”. كان الرجلُ يحادثُ زوجته باكياً ويقول لها: “والله تعبت من كل هالتعقيدات.. تعالي وخلينا نرجع على بيتنا”.

 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.