على إثر الحرب التي اندلعت بين إسرائيل وحركة “حماس” في قطاع غزة، عقب هجمات الأخيرة على الأولى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أثيرت مخاوف كبيرة لدى الحكومات الأوروبية من استغلال قوى الإسلام السياسي للمشهد والتغلغل داخل المجتمعات هناك، وذلك من أجل تحقيق عدد من الأهداف التي تسعى إليها هذه التنظيمات وبدعم من بعض الدول والأحزاب السياسية من خلال أنشطتها المختلفة والمشبوهة.

ونتيجة لكل ذلك، اضطرت العديد من الدول الأوروبية إلى اتخاذ بعض الإجراءات والقرارات، من أجل منع تنظيمات الإسلام السياسي من تنفيذ أجنداتها تحت مسمى دعم “القضية الفلسطينية”.

وتبعاً لذلك، قررت فرنسا مؤخراً وقف استقدام الأئمة من الدول الأخرى اعتباراً من بداية العام الجديد 2024، ويأتي هذا القرار بالتزامن مع قرار الحكومة الألمانية وقف استقبال الأئمة القادمين من تركيا إلى مساجدها، وتنظيم تدريب وإعداد الأئمة في ألمانيا وعلى أراضيها وضمن البنية الثقافية والمجتمع الألماني.

ولا شك أن هذا القرار يأتي في إطار “مواجهة” نشاط التنظيمات الإسلاموية، وهو ما يفسره المحللون أيضاً على أنه موقف فرنسي متشدد تجاه هؤلاء، في أعقاب قيامهم بتنظيم وتعبئة التظاهرات في أوروبا من أجل مهاجمة الحكومات الغربية من منطلق ما دعم الفلسطينيين في غزة.

فرنسا والتصدي للإسلامويين

بحسب ما أوردته “وكالة الصحافة الفرنسية”، فإن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان في رسالة إلى الدول المعنية بالملف، أوضح أنه بعد الأول من نيسان/ أبريل 2024 لن يتمكن الأئمة الأجانب الذين أوفدتهم دول أخرى من مواصلة الإقامة في فرنسا “بصفتهم تلك”.

وكان الرئيس إيمانويل ماكرون قد أعلن في مطلع عام 2020 عن رغبته في إنهاء مهام نحو 300 إمام أرسلتهم دول مختلفة (الجزائر وتركيا والمغرب، وغيرها)، وزيادة عدد الأئمة المدربين في فرنسا.

كما وأكد ماكرون عزمه التصدي لما سماها “النزعة الانفصالية الإسلامية”، عبر سلسلة من الإجراءات ضد “التأثيرات الأجنبية” على الإسلام في فرنسا، بدءاً من الأئمة الأجانب، وصولاً إلى تمويل المساجد.

وبالعودة إلى دارمانان، فإنه أشار إلى ذلك “الإشعار المسبق” الصادر قبل ثلاث سنوات لمنح المساجد والدول المعنية مهلة كافية، وأكد قبل أيام، أن القرار “سيطبق فعلياً اعتباراً من الأول من كانون الثاني/ يناير 2024 الجاري”.

أما الأئمة الأجانب الذين ما زالوا في فرنسا، فسيتعين عليهم تغيير وضعهم، وسيتم اعتباراً من الأول من نيسان/ أبريل وضع إطار خاص للسماح للجمعيات التي تدير المساجد بتوظيف الأئمة بنفسها على أن تدفع لهم رواتبهم مباشرة.

الهدف من هذا القرار الفرنسي ليس منع الأئمة الأجانب من الوعظ في فرنسا، بل ضمان عدم حصول أي منهم على رواتب من دولة أجنبية يكونون فيها موظفين حكوميين، وفق دارمانان.

إلا أن محللين في شؤون الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة يفسرون القرار عكس ذلك، وفي هذا الصدد يرى الباحث السياسي في شؤون التطرف الديني، سامح مهدي، القرار الفرنسي أنه أداة لمواجهة الأجندات التي تنتهجها المنظمات الإسلامية، وخاصة المنتمين لجماعة “الإخوان المسلمين”، الذين يتزعمون من خلال مراكزهم وجمعياتهم عمليات استقطاب وتدريب الأئمة في فرنسا.

وفي حديثه لـ”الحل نت” يوضح مهدي أن فرنسا تتجه نحو تجفيف منابع الإرهاب والتطرف الإسلاموي، بهدف منع خلق بيئة “انعزالية” ترفض الاندماج مع قيم “الجمهورية” في فرنسا ومبادئ العلمانية والمواطنة والقانون.

الدور البراغماتي التركي

وفي ظل هذه البيئة المتشددة وجيوبها الضيقة المنغلقة، التي يقوم أئمة التطرف وهم يخدمون قوى إقليمية لها أجندة دينية مسيسة مثل تركيا، فإن فرنسا تكون مرشحة طوال الوقت للاستهداف كما سيصبح المدنيون في فرنسا كما في أوروبا والغرب عموماً أمام وفي مواجهة هذا “اللغم الذي قد ينفجر في أي لحظة، والسخط الإسلامي الذي يغذيه رجال دين لا يردد أي منهم سوى خطاب التطرف عوضاً عن خطاب التسامح والاعتدال وقبول الآخر، وفق مهدي.

وبطبيعة الحال تتحول هذه البيئة إلى نقطة حيوية لتجنيد وتعبئة المتطرفين إلى مناطق النزاع كما حدث من انتقال كثيرين إلى سوريا والانضمام إلى تنظيم “داعش” الإرهابي.

ليس ثمة شك أن الدور التركي الداعم للإسلام السياسي يلعب على فكرة الدين، ويعتمد على المساجد والمراكز الدينية والثقافية الإسلامية بهدف نشر خطاب ديني من وجهة نظر قوى سياسية وإقليمية لها طموح محدد في تعيين خصومها وحلفائها بشكل تلفيقي وانتهازي.

فنجد أن تركيا سوف تقوم بتعميم خطابات دينية داعمة لحركة “حماس” والإخوان وتتجاهل جرائمهم السياسية والحقوقية والانتهاكات العديدة بحق المدنيين والقوى الوطنية، ومنها على سبيل المقال اغتيال القياديين في اليسار التونسي محمد البراهمي وشكري بلعيد فضلاً عن قضايا فساد وتسفير الإرهابيين لمناطق التوتر والنزاع والحروب في ليبيا وسوريا، وتمويل الإرهاب والتي يخضع بسببها قادة الحركة وعلى رأسهم الزعيم التاريخي لـ”حركة النهضة”، راشد الغنوشي أمام جهات التحقيق وتم توقيفه، كما سنجد أنقرة في إطار دعمها للإسلامويين ستتماهى مع خطاباتهم وتبني رواياتهم المختلفة في الحوادث السياسية كما يحدث الآن في غزة.

ضرورة حلّ التوجهات الإسلاموية

يرى بعض المحللين والباحثين في شؤون التطرف الديني والجماعات الإرهابية، أن القرار الفرنسي والألماني بوقف استقدام الأئمة من الدول الخارجية، هو رداً على محاولة بعض الأطراف الخارجية “أسلمة أوروبا” وتمرير أجنداتها بما يتوافق مع أهدافها وطموحاتها السياسية، خاصة وأن نسبة كبيرة من الأئمة يأتون من دول تعتنق الإسلام السياسي.

وفي أعقاب حادثة ذبح المدرس صامويل باتي، بدأت الحكومة الفرنسية إجراءات حلّ العديد من المؤسسات والجمعيات الإسلامية التي اتهمتها بالتطرف، وجميعها جمعيات ذات ولاءات أو تمويل أجنبي.

ويبدو أن التشديد الفرنسي على هذا الأمر قد زاد بعد وقوع عدة حوادث في البلاد، ولعل أبرزها الحادث الأخير الذي وقع أواخر عام 2023 في باريس، حيث نفّذ شخص هجوماً بالقرب من برج إيفل، مما أسفر عن مقتل سائح ألماني فلبيني طعناً وخلّف جريحين آخرين.

أحد المساجد في أوروبا- “الصورة من أ ف ب”

هذا بالإضافة إلى حادثة الهجوم التي وقعت في مدينة أراس شمالي فرنسا وأودت بحياة مدرس بعد أقل من شهرين من حادثة الطعن في باريس. ووُضعت فرنسا آنذاك في حالة تأهّب تحسباً لهجوم وشيك، وقررت الحكومة تالياً نشر 7 آلاف جندي في الداخل بعد هجوم أراس الذي وقع منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وذلك في مواجهة خطر انعكاس الحرب بين إسرائيل و”حماس”، توتراً على أراضيها.

ولعل فرنسا ارتأت في قرارها الأخير بخصوص إيقاف الأئمة من الدول الخارجية، وسيلة جيدة لمواجهة نهج الجماعات الإسلاموية والحد من نشر التطرف في مجتمعاتها، عبر الأئمة المنتمية لهذه التنظيمات التي لم تكف يوماً عن نشر أيديولوجيتها في أي مجتمع ينتشرون فيه، خاصة وأن كثيرا من فئة الشباب (المراهقين خاصة) يتأثرون بسهولة بخطب الأئمة في المساجد والعديد من المراكز والجامعات التي ينشطون فيها.

ومن ناحية أخرى، يخشى مراقبون من أن تكون جماعة “الإخوان المسلمين” أكبر المستفيدين بشكل غير مباشر من قرار الحكومة الفرنسية بمنع استقدام أئمة المساجد من خارج البلاد، لأنها تمتلك سلسلة من معاهد تدريب الأئمة في فرنسا وفي الدول الأوروبية المجاورة، وفق تقارير صحفية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات