يدور في فلك الأحداث الآنية في قطاع غزة أحداثٌ حول العالم ترتبط جميعها بشكلٍ أو بأخر بما يحدث في غزة، فمنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر والمجتمعات الأوروبية تشهد انقسامات حادة بين أفراد وجماعات هذه المجتمعات، والعربية كذلك.

وتزايد هذا الانقسام بعد الهجوم الذي شنّته إسرائيل على القطاع. وهو ما رأى البعض أنه تجاوزٌ لحدود الدفاع عن النفس، وهذا ما أقرّه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وخرجت تظاهرات عديدة تطالب بوقف إطلاق النار.

وما أخاف المجتمعات الأوروبية هو صدور “مجلس مسلمي أوروبا” الذي أسّسه يوسف القرضاوي، المعروف بدعمه وتنظيره لـ “الإخوان المسلمين”. وبحسب تأسيسه فإن “المجلس” هو الذراع السياسي للإسلام السياسي في أوروبا، ومقرّه بروكسل. وأعطي “المجلس” تفويضاً مباشراً بتنظيم مظاهرات تندد بالحرب الإسرائيلية على غزة، دون رفع لافتات مخالفة للقوانين في أوروبا، أو شعارات يحظرها القانون وتعطي انطباعاً بمعاداة السامية. وبدت تعليماتهم مدروسة، وهو التظاهر في حدود إدانة العنف بالطريقة التي يسمح بها القانون بأوروبا.

كذلك، أثارت تحركات الإسلام السياسي داخل أوروبا مخاوف الحكومات الأوروبية، وخاصة برلين، بسبب حالة الخصوصية التي تتميز بها حيال الحرب المستمرة في غزة. وكان عليها أن تعمل على الحدّ من قوى الإسلام السياسي داخل المجتمع الألماني وتجنّب الانقسامات بين المجتمع، فأعلنت الحكومة الألمانية مؤخراً، أنها ستتوقف عن استقبال الأئمّة القادمين من تركيا إلى مساجدها، وتنظيم تدريب وإعداد الأئمّة في ألمانيا وعلى أراضيها وضمن بنية الثقافة والمجتمع الألماني.

وقبل هذا القرار، كان “الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية”، والمعروف بالاختصار “ديتيب”، يستقبل معظم الأئمّة من تركيا، وكانت رواتبهم جميعها مقدمة من الهيئة الحكومية للشؤون الدينية في أنقرة، مما يعطي للأمر انقساماً في ولائهم، الأمر الذي يمكن أن يأخذ بعداً سياسياً إلى جانب البعد الديني والاجتماعي. 

تدريب الأئمّة في ألمانيا

قالت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر “نحتاج وعاظاً يتحدثون لغتنا ويعرفون بلدنا ويدافعون عن قيمنا، وتُعد هذه ركيزة أساسية لاندماج ومشاركة الجاليات المسلمة في ألمانيا” وحسب ما تعلنه فيزر فإن هذا القرار يهدف إلى خروج الأئمة من داخل المجتمع الألماني، ليكونوا على وعي بتكوينه، فمن بين 1100 إمام يعملون في ألمانيا هناك فقط 110 يتحدثون الألمانية، ومن الضروري أن يكون لهذا دورٌ في الانقسام داخل المجتمع الألماني، حيث تنغلق مجموعة ما داخل نفسها وتصبح غير مؤهّلة للاندماج الاجتماعي، وهو أمر يهدد أي مجتمع يهدف إلى الاستقرار والاتزان.

وتزامن هذا القرار مع محاولات ألمانيا للحدّ من التطرف وأعمال العنف التي جاءت كردّ فعلٍ على الحرب الآنيّة في غزة، وبالسؤال عما إذا كانت هذه القرارات أتت كحصيلة مباشرة لما يحدث في غزة؟ أجاب الباحث في الشؤون العربية والإسلامية بمركز العلمانيات المتقدمة بجامعة لايبزيغ في ألمانيا، والمحاضر بجامعة كولن، حسام الدين درويش لـ “الحل نت” قائلاً: “في ظني أن محاولة ألمانيا لتدريب الأئمّة عندها ليست حصيلة مباشرة لما يحدث الآن في غزة، وأثره على العالم ككل، فمحاولة تدريب الأئمّة مستمرةٌ في ألمانيا منذ سنوات بطريقة أو بأخرى، ويتصاعد تدريجياً، وقد شاركتُ في ورشة بإحدى المؤسسات الألمانية المدعومة من الحكومة، لمناقشة كيفية تفاعل الأئمّة أو الشخصيات الدينية والإسلامية مع الاختلاف والاندماج في ألمانيا، وهناك أكثر من طرف أكاديمي وغير أكاديمي يتعاونون مع الحكومة الألمانية لتحقيق هذه الأغراض، فهذه المسألة لها مسيرة طويلة وليست ردّ فعل آني”.

وكان هناك نقاش سابق حول انتماء الإسلام لألمانيا أو لا في عام 2010، ورأت الحكومة أن الإسلام لا ينتمي لألمانيا؛ ومن ثم ظهرت محاولة لتقديم نسخة ألمانية من الإسلام، أو ما يمكن أن نسميه ألمنة الإسلام بمعنى ما، وجاءت هذه المحاولة بمعنى ما ردّاً على أسلمة ألمانيا؛ وتهدف هذه المحاولات لألمنة الإسلام ليكون متّسق مع التوجهات القانونية والدستورية والأخلاقية العامة في ألمانيا، المفترض أنها قيمٌ عالمية.

وقال أستاذ العلوم الإسلامية بمركز الدراسات الإسلامية بجامعة ماربورغ الألمانية، عاصم حفني، في تصريح خص به “الحل نت”: “هو قرار متوقع وله إيجابيات عديدة، خاصة أن ألمانيا أدخلت بالفعل دراسات العقيدة الإسلامية في الجامعات الألمانية، بهدف تخريج أئمّة ومدرّسي دين إسلامي مؤهّلينَ داخل ألمانيا، على إلمام باللغة الألمانية وطبيعة المجتمع الألماني ونُظمه الفكرية، وإذا كان هذا بحثاً عن المشترك الإنساني فهو أمرٌ جيد بلا شك، ولكن عليه أن يهتم بالإسلام الذي عرفه المسلمون في أنحاء العالم ولا يتعارض معه، ولا يقدم نسخة خاصة تتعارض مع العقيدة الإسلامية لكي لا ينشأ نوعٌ أكبر من الاغتراب وعدم الاندماج”.

النزاع السياسي

إن وجود أئمّة مموّلينَ من قِبل الحكومة التركية لهم دور في تحديد إطار المجتمع وتوجهاته، يهدد ألمانيا بلا شك ووحدة المجتمع الألماني، وما يثير حالياً في ألمانيا ليس فقط محاولة زرع قيم عالمية في المجتمع الألماني، بل إنه كما يقول، الدكتور حسام درويش، يُعبر عن صراعٍ بين توجهات سياسية مقابل توجهات سياسية؛ التوجهات السياسية الألمانية من المعروف عنها أنها من الدول التي يحظى فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنسبة كبيرة من المؤيدين، وهذا لا يمكن عزله عن وضع الأئمّة بوصفهم معيّنين من قبل الحكومة التركية نفسها ويأخذون رواتبهم منها، والتوجهات السياسية لهؤلاء الأئمة ليست متناسبة مع التوجهات السياسية للحكومة الألمانية.

ولذلك فإن هناك طريقة للتغلب على الانقسام داخل المجتمع الألماني، حيث لا يكون المسلمون في طرف وبقية المجتمع الألماني في الطرف الآخر، أو تكون توجهات الحكومة الألمانية مضادة لتوجهات حكومة أخرى لها بعض السيطرة داخل ألمانيا، طبقاً لدرويش.

ولهذا الغرض تمت محاولة ألمنة التمويل وإنشاء الأئمة وتعيينهم، وبالتالي محاولة التخلص من دول الخارج، وهذا ما حدث لمحاولات تمويلات سعودية سابقة كانت لمؤسسات دينية سابقة في ألمانيا وغيرها، والتي كانت محافظة جداً وتأخذ أحياناً شكلاً عِدائياً ولا يمكن أن نسميه إسلاماً سياسياً، لكنه إسلام سلفي، أي أنه لا ينتمي إلى جماعة “الإخوان” أو غيرها من جماعات الإسلام السياسي، لكن هناك ارتباطات فكرية وليست تنظيمية بين الأطراف، يضيف درويش.

وفكرة وجود أئمة أو خطباء ينتمون إلى دولة ما داخل دولة أخرى في حدّ ذاتها تعني وجود تهديد للدولة الحاضنة، ولعل هذا ما انتبهت إليه ألمانيا، خاصة في الأحداث الجارية التي تضعها في حالة تأهب واستعداد. 

وعبّر عن هذا، الباحث المصري في العلاقات الدولية، منير أديب، لـ “الحل نت” عن أن الدعوات التي يرفعها بعض الأئمّة الذي يتم استيرادهم أو انتدابهم من دول أخرى في ألمانيا قد تنشر اتجاهات الإسلام السياسي في هذه الدول، مثل تركيا على سبيل المثال، أو ربما تكون لديهم رؤية للإسلام قد تكون مختلفة عن الرؤية الغربية للإسلام، وخاصة ألمانيا، التي تعد تهديداً واضحاً للمجتمع الألماني والحكومة الألمانية، وليس لألمانيا على وجه الخصوص، بل لأي دولة. ومن الضروري أن تتمتع كل دولة بالسيادة الكاملة على أرضها ومجتمعها.

ألمانيا لديها مشكلة مع الأئمّة الواردين من الخارج، ومن تركيا على وجه الخصوص، لِمَ هي معروفة به حيال تبنيها للإسلام السياسي. وقد يحرض بعض الأئمّة على العنف، أو يسعون إلى بناء شعبية لا يمكن تصوّرها للإسلام السياسي في ألمانيا، وهذا ما يجعل المخاوف أكبر.

وهذا ما يبرّر ما فعلته فرنسا قبل ألمانيا في ذلك، من خلال محاولة ما يمكن أن نسميه فرنسة الأئمّة والدعاة. وتُعد هذه المحاولات ردّاً على محاولة أسلمة أوروبا، خاصة أن بعض هذه الدول لديها تصوّرٌ عن المجتمعات الإسلامية بأنها مجتمعات قائمة على فكر الإسلام السياسي، وأن الأخير هو المعبّر عنها وما تختاره طوعاً في أي عملية ديمقراطية تتم داخلها؛ ومن ثم فألمانيا لديها مشكلة مع الأئمّة الواردين من الخارج، ومن تركيا على وجه الخصوص، لِمَ هي معروفة به حيال تبنيها للإسلام السياسي. وقد يحرض بعض الأئمّة على العنف، أو يسعون إلى بناء شعبية لا يمكن تصوّرها للإسلام السياسي في ألمانيا، وهذا ما يجعل المخاوف أكبر.

وتُعد هذه محاولة لاستيعاب الأئمّة ليكونوا جزءاً من ألمانيا في الداخل من دون أن يكونوا موجّهينَ من الخارج، وهذا مهمٌ جدا خصوصاً بعد تصاعد النقاش حول انتماء الإسلام في ألمانيا في فترة تدفق اللاجئين أعوام 2014 و2015، وتصاعد كثيراً بعد أحداث كولن حيث الاعتداء والهجوم من قبل لاجئين (اعتداءات وتحرشات على نطاق واسع)، وتصاعد الحديث عن اختلاف الثقافات التي تتأثر ببُعد ديني، فيمكن القول إن ما يحدث حالياً هو محاولة ألمانية لاحتواء هذه الاختلافات للحدّ من العوامل السلبية والإضافية التي تنتج عنها.

وهنا يأتي التساؤل المهم عن حدود العلمانية المطلوبة، فإذا كانت العلمانية أن لا يتدخلوا في شؤون المتدينينَ، فهنا العلمانية تأخذ شكل التدخل، لكن هذا التدخل أحياناً يكون لحماية كل الأطراف، وتارة يكون لنشر إسلام ما، فثمة نسخة من الإسلام يتم الترويج لها وفقاً لما يفهمه المجتمع الألماني، على أنه دينٌ روحاني لا علاقة له بالتشريع أو الشريعة أو السياسة والحرب، ولكنّه دينُ قيمٍ أخلاقية وروحية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات