تشير العديد من التقارير والأحداث الاجتماعية لنهاية الإسلام السياسي على أرض الواقع في البلدان العربية، خاصة أنه مُنح فرصة الصعود إلى السلطة في مصر وتونس والمغرب عقِب أحداث “الربيع العربي”، وبمثوله في السلطة ظهرت تناقضاته التي جعلت شعبيته تتضاءل حدّ الاختفاء، بل إن لفظ المجتمعات والقوى السياسية له جعله أقرب إلى التّهمة التي يتبرأ منها كل ثوري أو كل فصيل سياسي.

وهذا ما حدث مؤخرا في أحداث السودان، حيث اهتم كل فصيل بنفي صفة الإسلام السياسي عنه. بيد أن له حضور واقعي في أوروبا حتى في ظل التضييق عليه إثر فشله السياسي وتضامن الجماعات الجهادية معه بأعمال العنف، ويرجع هذا لإدراكه لطبيعة القانون الأوروبي والمجتمعات الأوروبية ومحاولة الاندماج داخلها.

الإسلام السياسي في أوروبا

تتّسم تحرّكات الإسلام السياسي في أوروبا عن غيرها من البلدان العربية، في أنها ذات آلية عمل شبكية وليست هرمية كما هي في البلدان العربية، فليست هناك قيادة عامة أو مظلة إسلامية سياسية في أوروبا يعمل من خلالها الإسلام السياسي، بحيث تعطي أوامر وتضع الخطط لمن هم أقل في التسلسل الهرمي للتنظيم كما حدث في مصر، والمغرب، وتونس، وغيرهم.

مجموعة من المسلمين في أوروبا يصلون في الشارع- “إنترنت”

تدعيما لذلك، قال الباحث في شؤون الجماعات الجهادية أحمد زغلول شلاطة، لموقع “الحل نت”، إنه نتيجة القيود والتضييق على أنشطة وعمل الجماعات الإسلاموية في أوروبا، دفع ذلك هذه الجماعات إلى أن يكون لها تنظيم شبكي بدلا من التسلسل الهرمي. فالعلاقة بين الجمعيات الدينية أو الثقافية أو المساجد التي تتبنى الإسلام السياسي علاقة شبكية ترابطية تعتمد على بعضها البعض في جمع التبرعات، أموال الزكاة، في الإنفاق على الأعمال الاجتماعية عموما.

ويظهر هذا بوضوح في أوكرانيا ضمن “جمعية الرائد”، حيث يشارك البعض في تشجير الشوارع ضمن حملة أعلنت عنها الدولة للتشجير، أو حملة تبرع بالدم أو نشاطات اجتماعية أخرى، فالعلاقة الشبكية تمكّنها من الاندماج في المجتمع حسب القانون الأوروبي عامة.

ومن ناحية أخرى يتخذ الإسلام السياسي في أوروبا صفة وجود المسلمين كقوة ضمن التعددية الثقافية للتنظير لشرعية وجوده، وتقديم أفكاره، فـ”مجلس مسلمو أوروبا” مؤسّسه يوسف القرضاوي المعروف بدعمه وتنظيره لـ”جماعة الإخوان المسلمين”؛ ويتحدث هذا المجلس باسم مسلمي أوروبا ويجمع العديد من المراكز الدينية (مجالس الأئمة والمجالس الفقهية في أوروبا) وثمّة قيادي معروف بانتمائه لتيار الإخوان وهو خالد حنفي، شغل منصب رئيس مجلس الأئمة، ويشغل حاليا رئيس لجنة الفتاوى بألمانيا.

وحسب تأسيسه يُعد “مجلس مسلمو أوروبا” الذراع السياسية للإسلام السياسي في أوروبا ومقره بروكسل، كما أن ثمة “جمعية الرائد” في أوكرانيا، ومن المعروف أن المجلس أعطى تعليمات مباشرة بتنظيم “المظاهرات المنددة بالهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة”، دون رفع لافتات تخالف القوانين في أوروبا، أو شعارات محرمة قانونا وتعطي انطباع “معاداة السامية”، فكانت تعليماتهم واضحة في ذلك وهي التظاهر في حدود إدانة العنف بالشكل الذي يسمح به القانون في كل دولة.

وهذا ما أكده أحد مستشاري “وزارة الداخلية الألمانية” لشؤون العنف والإرهاب في حديث خاص لـ”الحل نت” قائلا: لا يغفل على أي عاقل محاولات الحشد من الإخوان حول العالم، وهذا ما يجعل أمر التظاهر معقّدا من الناحية الأمنية، حيث يكون غير معروف توجهه أو مأمونة عواقبه. إذا كان الإخوان في الدول العربية غير موجودين على مستوى الحِراك الشعبي، ولكنهم موجودين كتنظيم سرّي وبارعين في هذا.

“جمعية صامدون” التي تم حظرها في ألمانيا لمناصرتها حركة “حماس”، كانت عملية حظرها تُدرس منذ فترة.

أحد مستشاري “وزارة الداخلية الألمانية” لـ”الحل نت”

ويخرج عدم وجودهم هذا من قوة النظام ولفظ المجتمع لهم، ولكنهم موجودين في السياق الأوروبي، ولعل المرونة الكافية التي يتمتع بها القانون الأوروبي هي التي تعطيهم إمكانية الوجود بشكل مباشر، على العكس من البلدان العربية التي لفظتهم عن تجربة في الحكم، على حدّ تعبير  المستشار في “وزارة الداخلية الألمانية” الذي فضّل عدم ذكر اسمه.

وأوضح المصدر ذاته أن “جمعية صامدون” التي تم حظرها لمناصرتها حركة “حماس”، كانت عملية حظرها تُدرس منذ فترة، كما لا يغفل على الحكومة الألمانية ووزارة الداخلية وكل عاقل تقريبا عن أن “حماس” كذلك هي أحد تيارات الإسلام السياسي وصنيعته.

هذا وأعلنت وزيرة الداخلية الألمانية، مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، أن ألمانيا حظرت أنشطة “حماس”، وكذلك “شبكة صامدون” للدفاع عن الأسرى المؤيدة للفلسطينيين. وقالت الوزيرة نانسي فيزر في بيان “فيما يتعلق بحماس، حظرت اليوم الأربعاء، الموافق لـ 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023 بشكل كامل أنشطة منظمة إرهابية هدفها تدمير دولة إسرائيل، وسيجري أيضا حل الفرع الألماني لشبكة صامدون”.

الهولوكوست والمسألة الفلسطينية

تُعد الخصوصية التي تعرفها العلاقة الألمانية اليهودية معروفة لدى الجموع، وهذه الخصوصية تخرج من الحرب العالمية الثانية وما فعلته النازية باليهود من محارق سميت بـ”الهولوكوست”، حيث سعى أدولف هتلر (القائد الألماني) إلى إبادة اليهود جميعا والسيطرة على العالم، وهذا ما يجعل ألمانيا بعد هزيمة هتلر مطالبة أكثر من غيرها بإثبات عدم معاداتها للسامية، خاصة أن “معاداة السامية” يمكن أن يقال إنها بعد الحرب العالمية الثانية أضحت تمثّل قضية العصر، والجريمة التي على الجميع إثبات تبرؤه منها.

وهذه الخصوصية تجعل ألمانيا في موقف حرج من حيث اتهامها بالتواطؤ مع إسرائيل خشية الوقوع في “معاداة السامية”، أو تفسير سماحها للفلسطينيين بالتعبير عن نفسهم بالطريقة التي تعبّر عن غضبهم، بـ”معاداة السامية” من قبل المجتمع الدولي.

“شبكة صامدون” تحشد الجالية الإسلامية في ألمانيا للتظاهر ضد إسرائيل ودعم فلسطين- “شبكة صامدون”

فيما يتعلق برد فعل الحركات الإسلامية على أحداث غزة في أوروبا وخاصة ألمانيا، لا يمكن الحديث بدقة عن مثل ردود الفعل هذه؛ لأنه لا توجد بيانات أو حركات رسمية تتحدث بشكل مباشر عن هذه الأمور، خاصة في ألمانيا، لم لذلك من تداعيات سياسية، تعود إلى ما يجوز تسميته بالعُقدة التاريخية لألمانيا تجاه إسرائيل واليهود وما يعرف بـ”الهولوكوست”، فضلا عن أن ألمانيا تشدد جدا القوانين فيما يتعلق بالتعبير عن الرأي في الأزمة الجارية في غزة.

وفي هذا الصدد، شدد الدكتور عاصم حفني أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة ماربورغ الألمانية في حديثه لـ “الحل نت”، على أن ما يُعرف بالحركات الإسلامية ليس لها تنظيمات معينة؛ فلا توجد حركة تقول إنها حركة إسلامية، بيد أن ثمة مساجد تمثّل بعض التيارات، ويوجد أفراد أيضا لهم توجهات معينة.

وبالحديث عن المساجد في الأيام الماضية يقول حفني: “نجد تعاطف شديد مع ما يحدث في غزة، والإصابة بخيبة الأمل من ردود فعل أوروبا خاصة ألمانيا في عدم إدانة إسرائيل؛ لا توجد أفعال أو حتى أقوال مباشرة ضد إسرائيل لأنها تقع تحت طائلة القانون في ألمانيا، فهي مكتومة في الداخل ولا تظهر خوفا من أن تطولها يد القانون، كل ما تستطيع أن تفعله المساجد ورأيته في الأيام السابقة؛ الدعاء طبعا بلا شك، وإقامة صلاة الغائب، وإقامة عزاء بصفة دائمة، فكل من يزور المساجد أو من يرتادها بكثرة له أصول فلسطينية أو غزاوية بمعنى أدق”.

ذلك لأنه معروف أن كثير من الفلسطينيين مهاجرون في أوروبا، ونتحدث عن ألمانيا هنا فعددهم ليس بالقليل، ولذلك قلما تجد فلسطيني بألمانيا لم يمت له فرد أو عدة أفراد، ولذلك فمصابهم جلل بكل تأكيد. فهناك جلسات عزاء دائمة، وفي جلسات العزاء يظهر بطبيعة الحال “الغل والكراهية ضد إسرائيل” لأنها ليست مراقبة، أما في خطب الجمعة فيصعب الحديث بشكل فيه نقد شديد أو سب وقذف شديد لأنها مراقبة، وهناك عمل آخر يدخل في دولة التعاطف مع غزة وهو جمع التبرعات، فثمة أكثر طريقة من جمع التبرعات وإرسال الأموال إلى غزة، يضيف حفني.

من يقيّد القانون الألماني؟

تميّز الحكومة الألمانية بين فلسطين و”حماس”، حيث تجرم جماعة “حماس” وتضعها على قائمة الإرهاب، وهو ما يجعل القانون الألماني متعارضا ورافضا لدعم الحركة الإسلامية، في حين أن دعم فلسطين أمرٌ غير مجرم قانونيا في ألمانيا. وحسب ما صرح حفني لـ”الحل نت” من شوهد في بعض المظاهرات يرفع علم “حماس”، قُبِضَ عليه مباشرة من الشرطة في ألمانيا.

أما الغالبية فيرفعون علم فلسطين وهذا غير ممنوع قانونا، ومن ردّد عبارات معادية لإسرائيل أيضا قبض عليه لأنها تقع تحت طائلة القانون ومجرمة فيما يعرف بـ”معاداة السامية”، سواء كان رسومات أو عبارات أو ما إلى ذلك فتدخل تحت “معاداة السامية”، وهو فعل مجرم في ألمانيا، وفق ما قاله أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة ماربورغ الألمانية.

ألمانيا مطالبة أكثر من غيرها بإثبات عدم معاداتها للسامية، ولعل هذا ما يجعلها لأن تضع الحدود للمظاهرات الداعمة لفلسطين حتى لا تتحول لأعمال عنف.

عاصم حفني أستاذ الدراسات الإسلامية لموقع “الحل نت”

فالمُجرم في ألمانيا هو “معاداة السامية”، وألمانيا كما ذُكِرَ أنفا مطالبة أكثر من غيرها بإثبات عدم معاداتها للسامية، ولعل هذا ما يجعلها لأن تضع الحدود للمظاهرات الداعمة لفلسطين حتى لا تتحول إلى أفعال عنف ضد المواطنين اليهود بألمانيا أو “معاداة السامية”.

خاصة أنه حسب ما صرّح أحد مستشاري “وزارة الداخلية الألمانية” لـ”الحل نت” أن الوزارة الألمانية ترى أن المظاهرات التي تناصر فلسطين في ألمانيا يتم حشدها من قبل تيارات الإسلام السياسي، وهذا يمثل خطرا على الشارع الألماني بكل تأكيد، كما أنه يخرج إطار المظاهرات من كونها داعمة لفلسطين لمعاداة اليهود، وذلك من خلال ترديد عبارات مثل “خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود” وهي عبارة تحمل عداء وتمني زوال لليهود، وبكل تأكيد هذا ما تحاول ألمانيا إثبات عكسه ونفيه عنها، خصوصا وأن هذه العبارة جاءت عنوانا لبيان لـ”القاعدة”، فرع شبه القارة الهندية، بتاريخ 8 أكتوبر 2023، أشاد خلاله التنظيم الإرهابي بـ”كتائب القسام” الجناح العسكري لـ”حماس”، عقب تنفيذ الأخيرة لعملية “طوفان الأقصى”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
2 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات