تبدو من الصعوبة بمكان الإحاطة التامة بالتيارات الإسلاموية نظراً لطبيعتها الخفية والسرية أحياناً وكذا نشاطها الذي يتخفى في ممارسات عديدة اجتماعية خدمية أيدولوجية أحياناً أخرى. كما أن شبكات هذه الجماعات الممتدة في البناء الاجتماعي تفاقم من هذه الصعوبة كذلك وهي شبكات محلية تتغلغل في البنى الاجتماعية والثقافية لتفعيل تأثيراتها على الأفراد والهيمنة على عقولهم ثم جذبهم في انحناءاتها وتمرير أجنداتها وأخيراً تحقيق أغراضها البراغماتية التي تعنى بتشكيل حواضن لهم وتوفير بيئات للتعبئة و”التجنيد” ونشر قيمهم المتشددة.

لذا يجدر بنا الإشارة هنا إلى “صعوبة الحديث بشكل تفصيلي وفي بحث واحد عن الجماعات الإسلامية في الدول العربية، إذ إن هذا الموضوع متشعّب بحيث لا يمكن إيفاؤه حقّه إلا من خلال العديد من الأبحاث والدراسات، فما بالك بالجماعات الإسلامية بالغرب”.

والتساؤل هنا كيف يتحوّل الدين في صلب هذه الجماعات إلى أيديولوجيا؟ وهل الهوية تشكل فعلا أزمة للمسلمين حتى تتم أدلجتهم من خلالها؟

الدين.. أيديولوجيا

يذهب الباحث السياسي البريطاني، ديفيد ماكليلان، “أن الأيديولوجيا هي أكثر المفاهيم مراوغة في العلوم الإنسانية بأكملها”، أما مارتن سيلجر، فيعرّفها بوصفها “مجموعة من الأفكار، يضع من خلالها الناس ويفسّرون ويبررون غايات ووسائل النشاط الاجتماعي المنظّم بغض النظر عما إذا كان ذلك النشاط يهدف إلى الحفاظ على نظام اجتماعي بعينه أو تعديله أو اقتلاعه، أو إعادة بنائه، وبهذا التعريف لم تعد الأيديولوجيات لا جيدة ولا سيئة، لا صادقة ولا كاذبة، لا منفتحة لا مغلقة، لا محررة ولا اكراهية، وإنما تستطيع أن تكون كل الأشياء جميعا”. 

أما بالنسبة للأيديولوجيا الدينية فهنا يجب أن نفرّق بين الدّين كعقيدة وبين الأيديولوجيا السياسية الموظّفة للدّين، فإذا تأملنا التاريخ جليا سنلاحظ أن كل الأديان تقريبا نشأت من بين ثناياها أيديولوجيا ما، فمثلا اضطهاد الكنيسة للناس في العصر الوسيط واعتمادها على فكرة الحق الإلهي كانت أيديولوجيا استندت إلى المسيحية، والصهيونية كذلك كأيديولوجيا سياسية ارتكزت على اليهودية، وحتى الحركات الجهادية والأصولية الراديكالية “كطالبان، داعش، السلفيين، وحتى حركات الإسلام السياسي” كلها وظّفت الدين الإسلامي لشرعنة توجهاتها السياسية. 

لذا فالأيديولوجيا في جوهرها نتاج سياسي بامتياز وهذا ما ذهب إليه، مانهايم، في كتابه ” الأيديولوجيا واليوتوبيا”، حيث اعتبر أن الأيديولوجيا هي المفهوم الأساسي في علم السياسة نظرا لأنها تلجأ إليها لتحقيق مصالحها باعتبارها آلية وظيفية لتحقيق مقاصدها وغاياتها.

وهنا نودّ أن نشير إلى أن العديد من دول الغرب كثيراً ما اعتمدت على الأيديولوجيا الدينية الإسلامية لتحقيق مكتسبات سياسية واقتصادية.

ومنذ انتشار مفهوم الإسلاموفوبيا والذي يعني حسب الباحث في علم الاجتماع، فيلهلم هايتمار، “كل مصطلح يتوافق مع أي ظواهر كالعنصرية وكراهية الأجانب ومعاداة السامية، وهو ما ينتج عنه الخوف من الدين الإسلامي أو من أي مظهر أو رمز يتعلق بالإسلام وبالتالي الرفض والنبذ، وقد تعزّز هذا المفهوم إبان أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 والتي جذّرت هذه الأيديولوجيا لدى العديد من دول الغرب. 

حتى أن البعض صار يوظف هذه الإيديولوجيا لتبرير عملياتهم العسكرية في بعض البلدان. وهذا ما حذا بالحركات الجهادية التي نشأت في مواطنها كأفغانستان أو الشيشان، إلى إنشاء قواعد حركية مهمتها استقطاب الشباب للالتحاق بهم تحت مسمى “الجهاد” ضد النُّظم الغربية وضد حالة التغريب الديني الذي يتعرض له الإسلام والمسلمين في ظل انتشار الحداثة، بل حتى أنها أنشأت قواعد في البلدان الغربية تتميز بالحركية والتّخفي وسرعة الاستقطاب.

وهنا يجب أن نتساءل ما هي مرتكزات الإستقطاب لدى الحركات الجهادية خاصة منها المتركزة في الدول الغربية.

الهوية هي أيديولوجيا الحركات الجهادية بالغرب

شهد مفهوم الهوية عدة متغيرات ارتبطت أساسا بالتغيرات الثقافية والسياسية وخاصة التكنولوجية للعالم، وهذا ما يدفعنا للتساؤل هل الهوية مهمة فعلاً للأفراد والمجتمع؟ أم أنها أكبر قاتل في التاريخ كما أشار المفكر الهندي، أمريتا سن، أو أنها فعلا من أهم أدوات السيطرة على المجتمعات كما ذهب إلى ذلك إدغار مورن، أو أنها أكبر مغذٍّ لصراع الثقافات كما أشار لذلك داريوش، بل وحسب رأينا، فإن الهوية تمثّل كل هذه الطروحات، نظراً إذا قمنا بمراجعة تاريخية للحركات الجهادية وعملها الاستقطابي بدءا بالحركات الجهادية الداعمة للبوسنة ضد الهرسك، أو أثناء تواجد أميركا في أفغانستان وحربها ضد حركة “طالبان” ومن ثم تواجدها في العراق، فنجد أن كلّها اعتمدت على الهوية كآلية جذبٍ للعديد من الشباب العربي لها، والذين كان دافعهم الأساسي هو الذّود عن الهوية الإسلامية والقومية العربية و”مقاومة المحتلّين” سواء كانوا روساً أو أميركان وما يحملونه من أنموذج “استعماري حداثي” لطمس الهوية الإسلامية العربية وهو شيء مرفوض باعتبار أن الإسلام هو الأساس الفكري والهوياتي والأيديولوجي للعالم الإسلامي.

صلاة المسلمين في أوروبا- “إنترنت”

وإذا تأملنا علاقة الغرب بالمسلمين ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، سنجد أنها علاقة استفزازية بين الطرفين فكل عملية سخرية من الرموز والمقدسات الإسلامية إلا ويقابلها عمليات انتحارية أو طعن أو قتل من أحد المسلمين كردّ فعلٍ على المسّ من هويتهم الدينية، وعادة ما تتبنى بعض الجهات الجهادية العملية معتبرة أن ذلك ذودا عن دينهم المقدس.

لكن ما يلفت الانتباه حقا هو قدرة هذه الحركات الجهادية على توظيف واستقطاب الأجانب من كلا الجنسين وجعلهم يلتحقون بمعسكرات تدريب خاصة بهم بل وحتى أن بعضهم التحقوا بحركة “داعش” في كل من سوريا والعراق، وهنا لنا أن نسأل كيف ومتى وأين تم استقطاب هؤلاء؟

أزمة الهوية والانتماء وإعادة البناء على النمط الراديكالي

غالبا ما تركز الحركات الجهادية على الشباب الذين يعيشون حالة من الهشاشة النفسية والاجتماعية والذين يعيشون حالة من الاغتراب تجعلهم منعزلين عن محيطهم الاجتماعي وخاصة العائلي، وهذا ما يسهّل عملية استقطابهم، لأن الإشكالية الأساسية لأزمة الشباب عموما سواء كان الشباب العربي أو حتى بعض الشباب الغربي تكمن في التساؤل حول ماهية الذات بمعنى من أنا؟ لأن هذا التساؤل يخلق نوع من الاهتزاز المفاهيمي حول تصوّر الشباب لذواتهم.

بما أن جلّ الشباب العربي يعيش البطالة وبالتالي يعيش حالة من العطوبة على كل المستويات فإنهم باتوا فريسة سهلة للمستقطبين الذين يوظّفون المساجد لدمغجتهم.

بمعنى أن النجاح يسمح للشباب باكتشاف هويتهم وتثمينها، وأما الفشل فإنه يضعهم في حالة من الارتباك الوظيفي بمعنى أن محور صراعهم وأزمتهم هو هويتهم الذاتية مقابل دورهم أو فعاليتهم صلب مجتمعاتهم.

وبما أن جلّ الشباب العربي يعيش البطالة وبالتالي يعيش حالة من العطوبة على كل المستويات فإنهم باتوا فريسة سهلة للمستقطبين الذين يوظّفون المساجد لدمغجة هؤلاء الشباب من خلال إلقاء محاضرات والندوات الفكرية والحلقات الدعوية، وفيها يتم تذكير الشباب “بأمجاد السلف” التي حادوا عنها مما جعلهم يعيشون في هوس الماضي وبالتالي باتت أرواحهم تتغذى بحلم التغيير الذي لن يتم إلاّ “بالسلاح” أو “الجهاد العنيف” كمرحلة إعادة بناء الذات والهوية والتكفير عن الذنب، متصادمين مع كل القيم الدينية، أما بالنسبة للأجانب الذين انخرطوا في هذه الحركات هو أن إسلامهم أتى على يد متطرفين في الفكر والعقيدة.

وبالتالي، فإن الفكر الجهادي هو أساسي في مرحلة عبورهم الديني لأنه وسيلة للتقرب الى الله، وأن الجهاد هو تكفير عن مرحلة ما قبل إسلامهم، هذا بالنسبة للذكور أما بالنسبة للإناث فإن أغلبهنّ التحقن بالميليشيات العسكرية بدافع “الحب” ورغبة في اتباع أزواجهم. 

وعلى سبيل المثال قد أفادت التقارير الدولية أنه بين عامي 2014، و2015، التحق 600 فرنسي بصفوف تنظيم “داعش” من بين 30 ألف مقاتل أجنبي يحاربون تحت راية التنظيم الإرهابي، كما برز حضور النساء الفرنسيات بشكل ملفت في التنظيم، خلافا للتنظيمات الجهادية الأخرى، ففي 2013 شكلن 10 بالمئة من مسلمي فرنسا لدى التنظيم، ثم ارتفع الرقم إلى 35 بالمئة نهاية عام 2015.

وتُحيلُنا هذه الأرقام بدورها إلى أزمة الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين المسلمين في أوروبا والذين يعيشون أزمة هوية ثقافية على المستوى الأول ومن ثم أزمة مواطنة على المستوى الثاني، فهم في هذه الأوطان يعامَلون كمواطنين من درجة ثانية باعتبار أصولهم أولاً وعقيدتهم ثانياً، وهو ما خلق نوعا ما أزمة انتماء واندماج استغلته أيضاً بعض الجماعات المتطرفة في الغرب لدمغجة هؤلاء الشباب وتوظيفهم لعملياتها الإرهابية أو لدعم جماعات التّطرف في كلٍّ من سوريا والعراق.

ختاماً، تعد مسألة الإسلاموفوبيا أهم أيديولوجيا يوظفها الغرب اليميني المتعصب لتأجيج مواطنيهم ضد المسلمين لمنع تعاطفهم مع التجاوزات التي تمارس ضد بعض المجتمعات المسلمة كالروهينغا في بورما، أو الأويغور في الصين، فضلاً عن أوضاع الفلسطينيين. لكن في المقابل تنتهج أيضا الحركات الإسلامية المتطرفة نفس المنهج في توظيف أيديولوجيا محاربة الغرب للإسلام والمسلمين. ولذلك فإن كل الوسائل مباحة في رد هذه الأيديولوجيا تحت مسمى “الجهاد”، وكلاهما وجهان لعملة واحدة ألا وهي السياسة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات