إعداد: د. عبد الصمد اسماعيل*

ألقى النزاع المسلح الدائر في #سوريا منذ قرابة أربعة أعوام، بظلاله الثقيلة على #الاقتصاد بوجه عام، وعلى الحياة المعيشية والأمنية للمواطنين بوجه خاص، فقد شهد الاقتصاد الوطني تحولات سلبية كبيرة في جهة المؤشرات الاقتصادية الرئيسية فيه: ازدادت وطئتها بعد تحول البلد إلى ساحة حرب مفتوحة، بين مختلف الفصائل والجماعات المسلحة من جهة، وبينها، وبين الجيش السوري وحلفائه الإقليمين والدوليين من جهة أخرى.

ترك النزاع آثاراً سلبية خطيرة على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وهبط بمؤشرات النمو والمتغيرات الاقتصادية فيه إلى مستويات متدنية قياسية. كان لها بالغ الأثر في تراجع الوضع الأمني والمعيشي للمواطنين، ما أدى بهم إلى النزوح للمناطق الآمنة داخل البلد، أو لخارجه. وما لهذا الأمر من تبعات سلبية اقتصادية، من حيث انعدام موارد الدخل والتحول إلى البطالة نتيجة للهجرة من أماكن العمل والتوقف عن الإنتاج وارتفاع في معدلات #الفقر.

مؤشرات اقتصادية مخيفة:
وبعد أن كان الاقتصاد السوري قد حقق معدلات نمو عالية، قبل سنوات الأزمة وصلت إلى 5.2% وسطياً خلال الفترة ما بين 2006 و 2010 والتي اعتبرت الأعلى في المنطقة، بحسب تقرير صادر عن منظمة الإسكوا. وضعته في المرتبة الثالثة عربياً من حيث معدلات النمو المتحققة، فقد تراجع خلال سنوات الأزمة إلى المرتبة ما قبل الأخيرة متقدماً على #الصومال. ووصل إلى المرتبة 175 بين دول آسيا وأفريقيا، وذلك بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي.

وتجاوزت خسائر الاقتصاد الوطني والتي شملت جميع القطاعات الاقتصادية والتجارية فيه خلال الفترة ما بين 2010 و2014، الـ 202 مليار دولار كان حصة القطاع الخاص منها حوالي 145 مليار #دولار في حين كانت حصة القطاع العام بحدود 67 مليار دولار.

وبسبب انخفاض الإنتاج الفعلي الحكومي بمقدار 7 مليار دولار، وانخفاض كبير في حجم الاستثمار الخاص ومستويات التضخم العالية في الأسعار، فقد انخفض الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي (بالأسعار الثابتة لعام 2010) من 60 مليار دولار عام 2010 إلى 56 مليار عام 2011، ثمّ إلى 40 مليار دولار عام 2012، وإلى نحو 33 مليار دولار عام 2013، ووصل إلى أقل من 30مليار دولار في عام 2014.

وتتوقع منظمة الإسكوا أن لا يتجاوز في العام الحالي 27.3 مليار دولار. وذلك نتيجة لاستمرار العمليات العسكرية وما ينتج عنها من تدمير في البنية التحتية وتوقف الإنتاج في الكثير من المعامل والمصانع وباقي المؤسسات الإنتاجية وتسريح الكثير من العاملين أو هروبهم وخاصة في المناطق التي يدور فيها الصراع المسلح. فضلاً عن هروب الكثير من رؤوس الأموال #السورية إلى الخارج (تركيا، مصر، ألمانيا).

كما أدى تقلص حجم اعتمادات الموازنة العامة مقدرة بالدولار إلى تراجع حجم الاعتمادات الاستثمارية مقابل زيادة اعتمادات الإنفاق الجاري ليزداد العجز في الموازنة العامة للدولة نتيجة انخفاض الواردات الضريبية بعد خروج الكثير من المناطق من تحت سيطرة الحكومة السورية وتلاشي العوائد المالية لصادرات النفط والتي كانت تشكل أكثر من نصف دخل #الدولة في أسوأ حالتها نتيجة للعقوبات الدولية الأمر الذي ساهم في ارتفاع كبير في معدل الدين العام الذي وصل إلى 147% من الناتج المحلي بحسب تقرير صادر عن المركز السوري لبحوث السياسات.

النفط في الاقتصاد السوري:
يعتبر قطاع النفط من أهم وأكثر القطاعات الاقتصادية إنتاجية في سورية ذلك لما كان يحققه من إيرادات ضخمة تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تمويل عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في سورية ومن هنا فقد كانت الحكومات المتعاقبة في سورية تضع يدها على كامل المخصصات والمؤونات والفوائض الاقتصادية المتحققة في هذا القطاع.

وبدون اتباع أية استراتيجيات تنموية حقيقية، تركز جل اهتمام الحكومات السورية على الاستفادة القصوى الآنية من العوائد النفطية واستخدامها في تغطية العجوزات المالية في الدولة سواء في الموازنة العامة أو لسد خسائر القطاع العام، أو لتسديد فاتورة المستوردات بالقطع الأجنبي.

داعش - نفط

ولا تعتبر سورية بلداً نفطياً بالمطلق إلا أنها وبلا شك منتجة للنفط لا محال، وفي ذلك فقد تلعب قضايا الطاقة دوراً في هذا الصراع الدائر فالحكومة السورية التي خسرت الكثير من عائدات التصدير بعد انهيار إنتاجها النفطي لابد أن تدرك حقيقة أنها أصبحت تعتمد على الواردات بنسبة متزايدة وهذا يعني اعتماده المتزايد على إيران.

وكان #النفط يلعب دوراً هاماً في الاقتصاد السوري كأحد أهم مصادر تمويل التنمية لأنه يوفر جزءاً كبيراً من المدخلات اللازمة للعملية الإنتاجية المتمثلة بالوقود والمحروقات التي تعتبر المحرك الأساسي لعملية التنمية الاقتصادية في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات والمواصلات والاستخدام المنزلي بالإضافة إلى إنتاج كمية من الطاقة الكهربائية في البلاد من جهة، ومن جهة ثانية تشكل العوائد المالية الناجمة عن الصادرات النفطية مورداً رئيسياً للقطع الأجنبي داخل الاقتصاد الوطني كل ذلك كان يساهم في تمويل المشاريع الاستثمارية والتنموية في سورية.

النفط السوري خلال سنوات الحرب:
انخفض الإنتاج النفطي في سورية خلال سنوات الأزمة بنسبة 96% ويعتبر هذا القطاع أكثر مداخيل الحكومة السورية تضرراً. جراء فرض المجتمع الدولي قيوداً على تمويل واستيراد وتصدير المواد الخام والسلع والتقنيات لهذا القطاع. فضلاً عن سيطرة تنظيم الدولة داعش على أكبر حقول النفط السورية في منطقة وادي الفرات والتراجع الكبير في الإنتاج من المناطق التي تقع تحت سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية في محافظة الحسكة.

وتوجد في سورية منطقتان نفطيتان الأولى تم اكتشافها في أواخر 1959 في المنطقة الواقعة حوالي السويدية بريف محافظة الحسكة وتنتج بحدود 100 ألف برميل يومياً من النفط الثقيل وتشغلها #الشركة السورية للنفط. والثانية تمتد من وادي الفرات إلى الحدود العراقية تم إنتاج نفطها في أواسط الثمانينات من القرن الماضي بعد الاكتشافات الضخمة لشركة نكتون الذراع الأمريكي لشركة شل الهولندية. ووصل إنتاجها من #النفط في أواسط التسعينات لأكثر من 400 ألف برميل يومياً من النفط الخفيف.

وبعد فرض العقوبات الاقتصادية على الحكومة السورية وامتناع الدول الأوربية التي كانت تستورد أكثر من 90% منه عن شراء النفط السوري حاولت الحكومة السورية البحث عن مشترين لنفطها من دول شرق آسيا وما كادت أن تنجح في ذلك حتى انهار الإنتاج النفطي لأرقام هزيلة جداً نتيجة سيطرة الجماعات المسلحة على الكثير من الحقول والآبار النفطية، إضافة إلى انسحاب الشركات الأجنبية من سوريا نتيجة الوضع الأمني المتردي، ما أدى إلى إنخفاض حجم الإنتاج إلى 28 ألف برميل يومياً في عام 2013 ثم وصلت إلى حوالي 14 برميل يومياً.

وتشير الأرقام الصادرة عن وزارة النفط السورية أن حجم الإنتاج الآن لا يتجاوز 10 آلاف برميل يومياً من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري دون احتساب النفط المنتج في المناطق الواقعة تحت سيطرة المسلحين، والذين يستخدمون تقنيات الاستخراج والتكرير البدائية والتي ألحقت أضراراً كبيرة بالاحتياطات النفطية وترك آثاراًسلبية هائلة على البيئة.

وهنا الجدير بالذكر أنه يصعب تقدير الكميات المنتجة من النفط في المناطق الخاضعة للمجموعات المسلحة إلا أن بعض التقارير تشير إلى أنه يقدر بحدود 20 ألف برميل يومياً ومع احتساب الخصومات السعرية عند بيعه من قبل الجماعات المسلحة فإن عوائده تصل إلى 50 مليون دولار شهرياً.

الدعم النفطي من #إيران:
وللتعامل مع الوضع الحالي السيئ مالياً والسيئ إنتاجياً ولتأمين ولو جزء من الاحتياجات النفطية سواء الخام أو المشتقات لسد حاجة السوق المحلية فقد سلطت الأنظار على مصفاة بانياس الواقعة في منطقة الساحل السوري الآمنة والتي يسيطر عليها النظام حتى الآن، فقد قامت الحكومة بداية عام 2013 بعقد اتفاق عن طريق المصرف المركزي مع إيران الحليفة الرئيسية لها بقيمة 3.6 مليار دولار وفق اعتماد مستنديه لتغطية إمدادات النفط الإيرانية والسلع الأساسية والمواد الغذائية إلى مصفاة بانياس كجزء من ائتمان يصل إلى 7 مليار دولار.

وما حصل أنّ إيران قد شحنت بالفعل ما مجموعه 17 مليون برميل نفط خام إلى مصفاة بانياس حتى أواخر عام 2013 قدرت قيمتها ب 1.7 مليار دولار أي بواقع 90 ألف برميل يومياً بحسب تقارير رسمية وبمساعدة الحكومة العراقية. حيث كان يتم إضافة خام #البصرة الخفيف إلى الشحنات المذكورة لأن #الخام الإيراني من النوع الثقيل حتى تصبح مناسبة للتكرير في مصفاة #بانياس لتنقل بواسطة صهاريج عبر خط أنابيب سوميد إلى ميناء بانياس.

وكانت هذه الكميات كافية لأن تشغل 75% من الطاقة التكريرية للمصفاة.

0(2)

واليوم ليس من المستغرب استمرار قطاع الطاقة في سورية في العمل لأنه الحكومة السورية وبمساعدة الأصدقاء الإيرانيين والعراقيين استطاعت التعامل مع الجماعات المسلحة ومن تدبر أمرها بصعوبة، وإن إستراتيجية النظام هذه قابلة للاستمرار شريطة أن تستمر إيران في تمويل إمدادات النفط الخام إلى مصفاة بانياس. وهذا ما لا يمكن الاستمرار فيه بعد التدخل العسكري الروسي في سورية وظهور خلافات في الرؤوى الاستراتيجية لكل من روسيا وإيران حول مستقبل سورية.

رفع أسعار الوقود والمحروقات:
لم يعمل القائمون على إدارة قطاع الصناعة النفطية على تطوير الطاقة التكريرية للمصافي السورية قبل سنوات الأزمة بالرغم من ما كان يشكله ذلك من ضرورة اقتصادية وتنموية هامة لسد حاجة الطلب المحلي المتزايد على المشتقات النفطية، ما أدى إلى تفاقم المشكلات المرافقة لذلك كنقص إمدادات السوق المحلية من الوقود والمحروقات وزيادة في حجم المستوردات منها ولا سيما مادة المازوت، وبالتالي ارتفاع رقم فاتورة مستورداتها وما تبع ذلك من مشكلات اقتصادية ومالية، وشكل ضغطاً على ميزان المدفوعات وكلف الموازنة العامة عجوزات مالية ضخمة أمام حاجة #السوق المحلية لأكثر من 11 مليار لتر من المازوت سنوياً قبل الأزمة كانت المصافي المحلية تؤمن حوالي نصف الكمية في حين كان يتم سد النقص عن طريق الاستيراد وبالأسعار العالمية.

هذا دفع بالحكومة إلى رفع الدعم عن المازوتوبالتالي ارتفعت أسعاره لتصل إلى 80 ليرة الآن وبحسب تقرير المركز السوري لبحوث السياسات فإن التخريب في البنية التحتية للقطاع النفطي ترافق مع الغارات الجوّية التي شنها التحالف الدوليّ على داعش مستهدفاً المعامل النفطية، وهذا ما أجبر الحكومة في سورية على استيراد النفط الخام ورفع أسعار الوقود المستعمل في المنشآت الصناعية من 60 إلى 150 ليرة #سورية للتر الواحد، وللمستهلكين من 60 إلى 80 ليرة، وتسبّب ذلك في انهيار متصاعد للزارعة والصناعة معاً. وأمام قلة الكميات المعروضة من الوقود والمحروقات في السوق وحاجة الآلة الحربية لها مما تسبب في ارتفاع أسعارها بشكل كبير في السوق السوداء وخاصة أيام الشتاء.

كل ذلك قاد إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج والنقل والتي انعكست تواتراً في إرتفاعات مستمرة في أسعار السلع والمواد الأساسية وغير الأساسية دفع مع شحها في السوق إلى عجز الكثير من المواطنين عن تأمين احتياجاتهم الرئيسية منها. وحيث تعتبر المحروقات إحدى وسائل إنتاج الكهرباء فقد قدرت وزارة الكهرباء الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الوطني بـ 2.2 مليار دولار نتيجة الانقطاعات المستمرة في #الكهرباء بسبب نقص إمدادات الوقود من جهة وتعرضها للتدمير أو القصف من جهة ثانية.

خاتمة:
بقي أن نشير أن أبرز مداخيل الحكومة السورية وركائزها الاقتصادية الأساسية قد تضررت بشكل كبير نتيجة تراجع سيطرتها على معظم أراضيها وانعدام وتلاشي مواردها الرئيسية مما تسبب في مستويات عجز غير مسبوقة وانهيار كبير في حجم الإنتاج و تراجع هائل في معظم المؤشرات الاقتصادية وعجزها الواضح عن الحفاظ على قيمة الليرة السورية وارتفاع التضخم إلى مستويات مخيفة، ما أدى إلى حدوث انكماش اقتصادي كبير يترافق الآن مع حالة من الركود التضخمي الواسع تترك آثارها الخطيرة على المستوى المعيشي لحياة المواطنين.

باحث وأكاديمي اقتصادي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.