الصحافة اللبنانية .. جفاف مصادر التمويل وانهيارات بالتتابع

الصحافة اللبنانية .. جفاف مصادر التمويل وانهيارات بالتتابع

رجا أمين

 

لم يكن خطف النظام السوري للصحفي اللبناني البارز سليم اللوزي ثم تعذيبه فقتله سنة 1980 أول حالات التنكيل بالصحفيين اللبنانيين، ولم يكن آخرها بالطبع، فعلى مدى عقود تدخل النظام السوري في لبنان البلد “الشقيق” والمجاور حدث تضييق على الصحفيين وتعقب لهم واعتقالهم في حالات تكاد لا تعد، وأحياناً جرى تعذيبهم وصولاً إلى قتلهم. وربما يذكر الكثير من القراء كيف جرى اغتيال كل من سمير قصير وجبران تويني في تفجيرين منفصلين سنة 2005 لتنتهي حياة اثنين من أبرز الصحفيين اللبنانيين في العقد الماضي.

لا شك أن الملاحقة والتضييق والاغتيالات قد أثرت تأثيراً سلبياً كبيراً على الصحافة اللبنانية التي لطالما عدت رائدةً في العالم العربي، فقد استفادت لعقود طويلة من جو الحريات المتاح في هذا البلد الصغير ولكن الغني بصحافييه وكتابه المتمتعين بجو حريات بقي في أحلك الظروف أفضل من جو الحريات في كل الدول العربية الشرق أوسطية.

وانتشرت الجرائد اللبنانية في العالم العربي لتشكل علامة فارقة في الصحافة العربية، حتى أن طائرة خاصة صغيرة كانت تنقل الجرائد والمجلات اللبنانية وغيرها كل يوم من بيروت إلى القاهرة بناء على طلب جمال عبد الناصر.

اجتياح التكنولوجيا عصرنا أنبأ منذ أكثر من عقد بالخطر الذي يحدق بالصحافة التقليدية والورقية، التي صمدت سنوات طويلة بعد ذلك في لبنان والمنطقة، بل أننا شهدنا تأسيس وصعود جرائد جديدة في لبنان كالأخبار والجمهورية!

ولكن ها هي هذه الجرائد اللبنانية اليوم تموت الواحدة تلو الأخرى وتعاني تلك التي بقيت من أزمات شديدة بل تكاد تحتضر، ولا يبدو أن السلطات الحالية في لبنان تستسيغ نمط الحريات المعتاد في هذا البلد، إذ ارتفع خلال سنة ونصف ماضيين عدد حالات الملاحقة القضائية لصحفيين وناشطيين جراء تعبيرهم عن آرائهم التي تنتقد أصحاب السلطة والسياسيين أو تناولها موضوعاً لم يعجب أولياء الأمر، حتى أن بعض هؤلاء الصحفيين قد اضطر إلى مغادرة البلد والاستقرار خارجه.

على أي حال، يبدو بعد التمحيص أن الكلام عن أزمة صحافة في لبنان والمنطقة كلام غير دقيق، فتشخيص الأزمة وردها إلى مشكلة معلنين وقراء لا يصيب الحقيقة كمان يجب، فلو كان هذا الكلام دقيقاً على صعيد منافسة الإعلام الرقمي الصحافة التقليدية، وتراجع معدلات القراءة، والتضييق على حرية التعبير، إلا أنه يجانب سبباً قد يكون الأهم في هذا الإطار وهو توقف الدعم والتمويل السياسيين.

الخفي الظاهر في هذه القضية هو الدعم والتمويل الذي تلقته الصحافة اللبنانية على تنوع توجهاتها لسنوات طويلة من أنظمة عربية ديكتاتورية، من #سوريا إلى #العراق ودول الخليج ومصر وليبيا حتى تونس والمغرب. هذا التمويل الذي انقطع على نحو شبه كامل وبشكل دراماتيكي مع تغير الظروف السياسية ومع سقوط نظام صدام حسين ونظام بن علي والقذافي، وحدوث تغير في السياسات الخليجية تجاه هذ النوع من التمويل.

على سبيل المثال، تفيد الدراسات المحلية بأن سوق الإعلانات اللبنانية يستطيع أن يغطي مدخوله 3 محطات تلفزيونية أرضية، ولكن على أرض الواقع هناك أكثر من ضعف هذا العدد، فمن أين يتم تأمين تكاليف هذه المحطات؟! الأمر نفسه ينطبق على الوسائل الإعلامية الأخرى بما فيها الجرائد التي لا تغطي أرباح إعلاناتها أكلاف تشغيلها، ما يطرح السؤال حول مصدر الدعم وطرق الاستمرار، وهكذا بعد تراجع الدعم والتمويل، أغلقت جريدة السفير ولحقتها الحياة اللندنية بفرعها البيروتي ونسختها الورقية الدولية، ومؤخرًا انضمت الأنوار لفريق المغلقين، مع بقاء أجور ومستحقات الموظفين والكتاب معلقة دون حل، حالها حال الجرائد المستمرة في الصدور كالنهار والمستقبل وغيرهما، فصار من العادي أن يتأخر راتب الصحفي الموظف شهوراً طويلة قد تتجاوز السنة أحياناً.

هنا لا بد من ملاحظة، أن الانهيارات مالية الأسباب التي طالت هذه الجرائد، شملت جرائد من مختلف التوجهات السياسية، فالحياة محسوبة على السعودية المعادية لنهج إيران وحزب الله، بعكس السفير المحسوبة على “الممانعة” منذ تأسيسها، ولكن اختلاف التوجه والنهج السياسيين لم يمنعا أن تتشارك الجريدتان المصير المظلم نفسه.

وبالعودة إلى لب الموضوع، يبدو الكلام عن أزمة صحافة وقراء غير دقيق، إذ لا يظهر أن الصحافة اللبنانية اعتمدت في يوم قبل الآن على القارئ والمعلن فقط، ولكن انحسار التمويل السياسي كشف الغطاء عن الثغرات، على سبيل المثال جريدة لبنان الأولى توزيعاً والأشهر أي النهار، معدل توزيعها اليومي هو 45.000 نسخة يومياً وهو رقم لا يمكن أن تعتمد عليه أي صحيفة كمورد كاف لاستمرارها، بمعنى لا يمكن أن يكون الإعلان والبيع هو سبب استمرار أي صحيفة في لبنان، وبالتالي لن يكون ضعف البيع والإعلان هو سبب توقف أو انحسار هذه الصحيفة.

من جهة أخرى، ترتفع أصوات بعض رؤوساء التحرير وملاك الجرائد ومثقفين مطالبين الدولة -شبه المنهارة أصلاً- بالتدخل لمنع انقراض الصحافة اللبنانية، دون تقديم تصور معقول لهذا التدخل الذي يطالبون به، بينما يتساءل مواطنون يفتقرون إلى البنى التحتية الأساسية عن معنى المطالبة بدعم جرائد يمتلكها أثرياء اعتادوا تلقي المال المسيس ولم ينجحوا في البقاء على قيد الحياة من دونه! نعم الصحافة اللبنانية كانت، وربما ما زالت صحافة مميزة ومتقدمة في محيطها العربي، لكن أزمة اليوم كشفتها على حقيقتها، حقيقة توجهات التحرير ورغبات المالكين، وحقيقة مضامين عملها الصحفي، وحقيقة ضآلة أعداد القراء… حقائق كانت أوراق الريال والدينار والدولار كافية فيما سبق لتخفيها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة