*الدكتور عارف دليلة – تعليقاً على استذكار للزميل ياسر شعباني لفيلم مصري «أيام الغضب» يمثل فيه الممثل الكبير الراحل نور الشريف، والذي يقول فيه المواطن إبراهيم، وهم ينقلوه في سيارة الشرطة، وكان قد جن، متخيلاً نفسه راكباً طيارة، ويشاهد أرض مصر من الجو لأول مرة: «مصر حلوة أوي من فوق!» …ذات مرة؛ أثناء إحدى ندواتنا في الثلاثاء الاقتصادي في المركز الثقافي بالمزة – دمشق، وكانت عن الصناعة السورية، قلت في تعليق لي: قبل أيام عرض تلفزيوننا فيلما عن المشروعات الصناعية في سورية مصوراً من الجو، يظهر فيه بعض المصانع الحديثة في بعض المحافظات، مثل مصنع الورق في دير الزور الذي اشترت الدولة مساحة واسعة جداً من الأراضي الزراعية الخصبة على صفة نهر الفرات من أحد «الرفاق» وبأسعار عالية، لإقامته عليها رغم عدم صلاحيتها للبناء، ويظهر المصنع من السماء كمجموعة من المباني-المعامل الحديثة- وفي منظر مبهر يندر مثيله حتى في الدول المتقدمة، كما يظهر الفيلم معامل حديثة أخرى في سورية، تدعو رائيها لحسد البلد الذي يمتلكها، لكنها جميعاً على أرض الواقع مخسرة للاقتصاد الوطني بفعل الفساد.

وقلت: لقد «أحسنت» الجهة التي قامت بتصوير الفيلم لعرضه على الشعب كـ«دواء تنويم» في إحدى المناسبات التي يكثر فيها الحديث والمفاخرة عن المنجزات التنموية، لقد أحسن صانع هذا الفيلم بتصوير المنشآت الصناعية الفخمة من الجو، وليس من الداخل على الأرض، مع الأرقام الحقيقية للتشغيل، وإلا لكان المصور عرض ما رأيت أثناء مرافقتي، كعميد لكلية الاقتصاد بجامعة دمشق عام ١٩٨٩، لمجموعة من طلبة الكلية في رحلة علمية استطلاعية شملت زيارة بعض المشاريع، وبعض حقول النفط في منطقة الجزيرة، «المحتلة أمريكيا هذه الأيام، على إثر النكبة السورية العظمى، والتي أعلن الرئيس التويتري الأمريكي ترامب في تغريدة له مفاجئة مؤخرا الانسحاب الفوري منها، وبشكل فاجأ حتى وزير دفاعه، والذي سارع واستقال على أثر اخذ العلم بقرار الرئيس من خلال تغريدته على «تويتر»، وليتبين خلال ساعات وأيام قليلة أن قرار الانسحاب ليس سوى كلمات في الهواء، دون أن يكلف السوريون أنفسهم حتى التساؤل: هل فعلا يقصد ترامب ما يقول؟ ولمن يترك مجاناً خلفه ١٢ قاعدة عسكرية، بما فيها مطارات وغيرها؟

أما معمل الورق الحديث في دير الزور، موضوع حديثيّ الجاري عن الصناعة السورية التي كانت «حلوة أوي من فوق»، هذا المصنع الذي كنت قد أسميته «أشهر الأوابد الصناعية الحديثة في العالم»، فقد رأينا من على الشاشة أبنيته الحديثة ومعامله الضخمة «سبعة معامل كيماوية تنتج مواد مهمة للاقتصاد الوطني لو كانت اشتغلت!»، لكنها على أرض الواقع كانت تصفر فيها الرياح، بعد أن لم يشتغل مصنع الورق يوماً واحداً، إذ كان «مرصوداً» له انفجار مفاعله- قلبه- «الذي يحول قش القمح إلى عجينة ورق» في أول ساعات تشغيل له، ليتوقف مع معامله كلها بعدها، حتى لم يبق ما يدل عليه سوى ٢٠٠عامل، ما زالت تدور على بيوتهم حافلات الشركة الحديثة كل صباح لتجمعهم من مناطق دير الزور المختلفة، ثم تعيدهم في نهاية وقت الدوام دون أن يمارسوا أيّ عمل، اللهم سوى قبض الرأتب آخر كل شهر، وهكذا لشهور طويلة، بل لسنوات. وكنت قد تابعت تراجيديا حياة المصنع أثناء مرحلة تشييده والتحقيقات المأساوية المثيرة التي كان ينشرها بعض الصحفيين في الصحف المحلية الرسمية «نعم كان يجري أحيانا تمرير مثل هذه التحقيقات في الصحف، ولكن لغايات أخرى أكثر فساداً، ليس من بينها أبدا درء المصيبة، إذ لم ينتج عن نشر أمثال هذه المتابعات مرة واحدة منع وقوع الكارثة أو محاسبة المسؤولين عنها!».

التحقيقات عن المشكلات المرتبطة بسير العمل في بناء المصنع، وعن تصارع وتكالب مسؤولي الجهات ذوي العلاقة- وغير ذوي العلاقة- على نهش حصتهم من جيفته حتى وهو ما زال جنيناً في بطن الغيب لم يولد بعد، وكذلك شرح كيف كانت الأوامر تسقط من علٍ على موظف البنك المسؤول عن فتح الاعتمادات المستندية لكل شحنة من المعدات تشحنها الشركة الأجنبية الممنوحة عقد إنشاء المصنع، لتتحرر قيمتها لحسابها في بلدها مع استلام الشحنة في سورية، لتقول الأوامر الساقطة لموظف البنك الحكومي السوري: افتح هذا الاعتماد بقيمة عشرة ملايين دولار (مثلا) لشحنة قيمتها مليون دولار «وهو ما يخالف القانون والأصول التجارية بشكل صارخ، ولذلك كان الطلب يزيل بصوت أجش بكلمات من مثل (على مسؤوليتي السياسية)، بينما لم تكن المسؤولية الفعلية تقع إلا على رقبة الموظف المنفذ المسكين!». وهكذا حتى كانت الشركة قد استلمت تقريبا معظم القيمة التعاقدية، مقابل معدات مشحونة تقل قيمتها كثيراً عن المبالغ المحولة للشركة، حتى أخذت تنقلب العلاقة بالنسبة الشحنات الأخيرة لتكون الاعتمادات المفتوحة لكل شحنة أقل بكثير من قيمتها، وبذلك كانت الشركة قد وضعت في جيبها معظم قيمة المصنع مسبقا وأصبحت تتصرف وهي في وضع مريح جداً، وبالأخص عندما سيتوقف المصنع الضخم كله عن العمل منذ اليوم الأول لتشغيله، كما حدث فعلاً، دون الخوف من أيّ رد فعل على الإطلاق على عملية الفساد الفاضحة، حتى في مرحلة الإنشاء، التي كان يمارسها جهاراً نهاراً المتنفذون (الكبار) وكذلك القائمون على إدارة إنشاء المصنع المعينون من قبل أولئك المتنفذين، حتى أن المدير قال، بلهجة تهديدية فاحشة، لزميلي، الأستاذ الاختصاصي في كلية العلوم الذي كان مكلفاً بزيارة المصنع كل أسبوعين وكتابة تقرير عن سير الأعمال الإنشائية فيه، ليرفعه ع/ط «السيد المدير» إياه إلى نائب رئيس مجلس الوزراء الذي كان زميلاً له أثناء الدراسة الجامعية، ولكن لتتحول هذه التقارير الفنية- العلمية- عند جهات أخرى إلى سلة المهملات، رغم ما فيها من إنذارات فاقعة، بالكارثة القادمة، حتى وصلت علاقة زميلي بالإدارة إلى تهديده من قبل المدير الذي لا يفقه شيئا، اللهم باستثناء الشفط والاستمتاع واستخدام أفخم السيارات الموضوعة تحت تصرفه في غزوات الصيد الصحراوية، التي يصرف فيها طاقاته الفائضة، بعيداً عن المصنع وهمومه، تهديده بمنعه من دخول أرض المصنع إذا استمر على كتابة التقارير الانتقادية التي تبين علمياً كل أسبوعين الأخطاء الفادحة في مسار العمل الإنشائي، قائلا له: أنت تقول أن المصنع لن يعمل بعد انتهاء بنائه، وأنا أقول لك أني لا أريده أن يعمل، وأنت لا شأن لك بذلك، اشرب ماء البحر!

وهكذا حتى أقيل زميلي من المهمة، لتحدث لاحقا كارثة انفجار مفاعل المصنع في اليوم الأول للتشغيل، والذي كان يومه الأخير أيضا، بانفجار القلب، كما حصل فعلا!! وبقي الشعب السوري يدفع من خلال الميزانية العامة أقساط الـ٢٥٠ مليون دولار المقترضة لبنائه لسنوات لا نهاية لها، مثلما دفع الشعب التكاليف المضاعفة بالمليارات لجميع المصانع الحكومية الأخرى، مثل معامل السكر، ومعمل غزل اللاذقية، ومعمل الشاشات التلفزيونية الأبيض والأسود بعد انقضاء عصرها! ومعمل اللمبات الكهربائية الذي لم ينتج لمبات كهربائية، ومعمل الزجاج الفرنسي الحديث في حلب الذي كانت تخرج من فرنه ألواح الزجاج مكسورة كلها، كما رأيتها بعيني، بعد انتهاء بنائه ومغادرة الخبراء الفرنسيين له ما لم يدفع لهم أكثر من قيمته ليقوموا بتشغيله، فالعقد لا يلزمهم بتسليم المعمل وهو ينتج ألواح زجاج سليمة! وكما دفع الشعب السوري، وسيدفع إلى الأبد، من لا شيء لديه على الإطلاق، مئات، بل آلاف مليارات الدولارات لإعادة إعمار ما دمره أرباب الإجرام والخيانات!!

ويبقى السؤال عن مصير موظف البنك الذي أصر على عدم مخالفة القانون، وعلى عدم التفريط بالمال العام لمصلحة أرباب الفساد، فقد تعرض لإخراجه من عمله والإتيان بمن يحل محله، ويطيع الأوامر ويسبح بحمد مصدريها الأشاوس، ثم يتعرض لـ«الشحط» إلى مكان ما والتعذيب المهلك بتهم لا أساس لها من الحقيقة، وليس لها علاقة أصلا بموضوع العمل حتى صرف من الخدمة، وهو في حالة إنهاك جسدي؛ وإحباط نفسي شديد، غير مصدق أن بلدنا وصل إلى هذا الحد من خرق القانون و«الدوس» على مصلحة الدولة والشعب، وهو ما كان مستحيلاً علينا مجرد تصوره يوم كنا ندرس سوية في كلية التجارة بجامعة دمشق، مفعمين بالآمال الكبيرة باقتراب المستقبل الزاهر المنشود ليحدث معي شخصياً، لاحقا، بعد ربع قرن من العمل الجامعي والبحثي، وأنا أستاذ بالكلية نفسها، ما كان نذيراً بالأسوأ على الإطلاق، مما يعرفه القاصي والداني الأمر الذي أصبح اليوم واقعا صارخا، هذا مع الاستمرار بالتصنع بعدم سماع أصوات آلام هذا الواقع الصاخبة…

كل هذا وما زال هناك من يتساءل وبراءة الأطفال في عينيه: كيف تدعون أن التخلف والبؤس والفقر والاضطهاد كانت تزداد انتشاراً وعمقاً، وان الفقراء كانوا يتكاثرون بوتائر متسارعة أيام «كنا عايشين»؟ هذه قصة مصنع واحد، ولها شبيهات كثيرات في طول الصناعة السورية وعرضها، مما كنا قد عرضنا الكثير منه في حينه عن صناعتنا التي كانت «حلوة أوي»، ومصورة من السماء، خصيصاً للمناسبات!!

 

*«مقال الدكتور عارف دليلة، منشور على صفحته على الـ(فيسبوك) بتاريخ 5 كانون الثاني 2119، منقول بموافقته»

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.