سوريا (الحل) – مع تراجع وتيرة الأعمال العسكرية في سوريا، والتثبيت المبدئي لمناطق النفوذ لكل من النظام والمعارضة، تظهر في الآفق معركة جديدة بين “وكلاء الحرب في سوريا”، أساسها التأثير على الهوية السورية ثقافياً واجتماعياً عن طريق ما يسمى “القوة الناعمة”، فإيران لم توفر أيه فرصة بالتغلغل ثقافياً واجتماعياً في المجتمع السوري من دمشق القديمة إلى ريفها مروراً بدرعا وصولاً إلى دير الزور، ولحقت بها روسيا التي لم ترسخ وجودها العسكري فقط في الساحل السوري، بل عززته ثقافياً واجتماعياً من خلال المدارس والمراكز الثقافية، وإن لم يكن بنفس الوتيرة الإيرانية.
على الجانب الآخر، دأبت تركيا بمد نفوذها الثقافي إلى داخل المناطق التي تسيطر عليها المعارضة بحكم عامل القرب الجغرافي، مستفيدة من سيطرتها وتحكمها بقرارات الفصائل المدعومة من قبلها، ليبقى أمامنا مجموعة من التساؤلات: ما مدى تأثر الهوية السورية بالكيانات الجديدة في فترة ما بعد انتهاء الحرب؟ وهل ستعود سوريا ككيان موحد اجتماعياً وثقافياً؟

إيران ونشر نموذج “التشيّع”
دأبت إيران منذ بداية تدخلها العسكري في سوريا إلى جانب النظام، إلى رسم ملامح وجودها الدائم من البوابة “الفكرية والدينية” واعتبرته مفتاحا للحل، وزادت وتيرته بعد الدعوات الدولية المتكررة لسحب ميليشاتها العسكرية، فأصبحت مناطق في ريف دمشق ودرعا وحمص وحماه وحلب ودير الزور إيرانية بشكل شبه كامل، تبنى فيها “المقامات” والمدارس والجامعات، والمراكز الدعوية، ولعل “فرض الآذان الشيعي” في ريف دير الزور في الأشهر الماضية من المليشيات الإيرانية والموالية لها تمهيد لتشييع ساكني تلك المناطق بأكمها.
وعلى مستوى سياسة الدولة، أصدر رئيس النظام السوري بشار الأسد عام 2014 مرسومًا يسمح بتعليم المذهب «الشيعيّ» في المدارس السورية إلى جانب المذهب «السنّي»، إضافة إلى افتتاح أول مدرسة «شيعية» في نفس العام وأطلق عليها “مدرسة الرسول الأعظم” على أطراف مدينة جبلة، إضافة إلى إنشاء نحو 40 مدرسة «شيعية» خاصة أصغر منها قد افتتحت في دمشق في السنوات السابقة، لا سيما في مناطق شارع الأمين، باب مصلى وشارع الحمرا، فانتشرت الحسينيات «الشيعية» بكثرة.

وتعقيباً على ذلك، يقول الدكتور (نبيل العتوم) المتخصص في الشأن الإيراني إن “إيران تعمل ترسيخ ثقافتها داخل المجتمع السوري، من خلال (التمدد القبوري) ويعني ابتداع وتوسيع المزارات والمقامات التي تخص الطائفة الشيعية في مناطق نفوذها وذلك لجعل الولاء مرتبط بها، كما قامت بعمليات التهجير الديموغرافي وتوطين مايقارب 34 مليشيا وإعطاءها للجنسيات السورية بالاتفاق مع النظام”.
وأضاف العتوم “إيران تحاول فرض ثقافتها ليس دينياً فقط بل سياسياً وعقائدياً وثقافياً، من خلال شراء ولاءات شيوخ العشائر وإعطائهم صكوك نسب لآل البيت ودعوتهم إلى إيران وإغداق الأموال عليهم، لهدم البعد الوطني وفك النسيج الاجتماعي للسوريين، وجعله نموذج قريب من الحالة اللبنانية والعراقية واليمينة أيضاً”.
ووجهت إيران (قوتها الناعمة) باتجاه الأرياف السورية فبدأت تركز على الجوانب الاجتماعية والخدمية مستغلة فقر وجهل سكانها وإهمال متطلباتهم من دوائر النظام المعنية، وجعلت كل هذه الأنشطة مرتبطة بالمراكز الدينية والحوزات التي أنشأتها، وهو ما تؤكده الأخبار اليومية الواردة في منطقتي درعا ودير الزور الاستراتيجيتين بالنسبة إليها.

“تتريك” الشمال السوري
لم تكن الجارة تركيا بمنأى عما يدور في داخل سوريا وخصوصاً المناطق القريبة جغرافياً منها، والتي اختارت الوقوف إلى جانب المعارضة السورية ودعمها عسكرياً وسياسياً، حيث اتسعت رقعة النفوذ التركي شمالي سوريا منذ أن أطلقت أنقرة عملية (درع الفرات) في آب 2016، وأعقبتها مع بداية العام 2018 بعملية (غصن الزيتون)، ليصبح النفوذ التركي يمتد من جرابلس في أقصى ريف حلب الشمالي الشرقي مروراً بمدينة أعزاز شمالاً وصولاً الى عفرين حتى المشارف الغربية لمدينة منبج التي لم يقرر مصيرها بعد وتسعى تركيا لضمها إلى خارطة نفوذها.
وتستغل تركيا المزاج الشعبي المعادي للنظام في مناطق الشمال السوري فرصة لتحقيق أهدافها التوسعية، كما فعلت سابقاً مع قضية «لواء إسكندرون» وتثبيت وجودها داخل تلك المناطق فكرياً وثقافياً، حيث لا يخلو بناء حكومي أو مؤسسة في اعزاز أو عفرين أو جرابلس من وجود العلم التركي بجانب علم “الثورة”، حيث تؤكد مصادر لموقع «الحل» أن “مناطق درع الفرات وعفرين تدار فعلياً من رؤساء بلديات هاتاي وكلس وغازي عنتاب الحدودية مع سوريا” أي هي فعليا تحت الحكم التركي.
ومع بداية العام الدراسي الحالي قرر مجلس إعزاز بريف حلب إضافة دروس اللغة التركية، إلى المناهج الدراسية وذلك لتعليم نحو 18 ألف طالب، حيث وصف القرار بأنه جاء نتيجة “التقارب بيننا وبين الأخوة الأتراك”، معتبراً أن “اللغة التركية تضمن بالتأكيد مستقبل الطفل السوري”، بحسب وصفه.

وإلى جانب المدارس، أنشأت أنقرة فروعا للجامعات التركية في شمال سوريا، حيث تم افتتاح فرعين كبيرين لجامعتين تركيتين “غازي عنتاب” و”حراء”، إلى جانب فتح مدارس مهنية وصناعية وهيئات تعليمية أخرى، وفي المدارس والجامعات على حد سواء يجري تعليم اللغة التركية على نطاق واسع، وهو ما زاد من عدد الناطقين بها في شمالي سوريا بشكل كبير، حتى أن أسماء المدارس والجامعات والطرقات الرئيسة والمباني الحكومية أصبحت تحمل أسماء تركية إلى جانب اللغة العربية.
ويقول أحد النشطاء في مدينة عفرين (فضل عدم ذكر اسمه): “حين تتجول في مناطق (درع الفرات، وغصن الزيتون)، قد تظن للوهلة الأولى أنك داخل الأراضي التركية، فمؤسسات البريد والاتصالات وحتى سيارات الشرطة والمباني الحكومية تحمل الطابع التركي” مما يعني أن تلك الفصائل ليس لها حضور، والتركي هو الآمر الناهي.

لكن آراء سكان المناطق التي تشهد الوجود التركي، تتفاوت بين من يرى في تركيا من زاوية ضيقة تتعلق بتقديم بعض الخدمات، فيما القسم الآخر يرى أن هذه الخدمات ليست مجانية، وأن النفوذ التركي يشكل خطراً على مستقبل تلك المناطق، وقد تكون مصيرها كباقي المناطق والأراضي التي اقتطعت من سوريا تاريخياً وضمتها لتركيا.

إعداد: حسام الصالح – تحرير: رجا سليم

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.