نشر مركز الشرق الأوسط للتحقيق والتحليل “MECRA” تقريراً تناول فيه حالة الدولة العميقة لحزب الله ضمن الدولة اللبنانية. فمفهوم “الدولة العميقة”، عادةً ما يستخدم لوصف تركيبة موجودة ضمن التركيبة الرسمية للدولة ومنفصلة عنها في الوقت ذاته، لكنها تشكل بشكل جزئي أو كلي مركز القوة واتخاذ القرارات ضمن الدولة. 

ويبين التقرير أن نقاشاً هاماً يدور في الفترة الحالية بين المحللين اللبنانيين حول التعريف الدقيق للنظام الحاكم. ففي الواقع، يمارس  حزب الله السيطرة الفعلية على عدد من المحاور الأساسية في الحياة العامة للبنانيين. وبحسب عدد من المحللين الإسرائيليين، يصعب اليوم التمييز بشكلٍ دقيق بين الدولة اللبنانية وحزب الله، الذي تؤيده وتدعمه الجمهورية  الإسلامية الإيرانية. وبحسب وجهات النظر تلك، فإن قوة حزب الله المتفوقة عسكرياً على القوات المسلحة اللبنانية، وقدرتها على خوض الحرب في الوقت الذي ترتئيه (كما حصل في حرب 2006 مع إسرائيل والتدخل في الحرب السورية في الفترة الممتدة بين عام 2012 و 2019)، وكذلك تدخل الحركة في الائتلاف الحاكم وامتلاكها للحقائب الوزارية يعني أنه من الصعب التمييز بين الدولة اللبنانية وحزب الله. 

من جهة أخرى، يرى العديد من المراقبين اللبنانيين ضرورة استمرار وجود نظام سياسي منتخب فعال وأحزاب سياسية أساسية منفصلة عن حزب الله ومعارضة له ولحلفائه، بالإضافة إلى وجود أدوات الدولة بما فيها الهيئات العسكرية والأمنية التي لا تخضع لحزب الله أو المؤسسات المرتبطة به. ولهذا النقاش نتائج سياسية مباشرة على كلّ من السياسة الإسرائيلية والغربية. وإذا ما كانت الدولة اللبنانية مُبتلعة حقاً من قبل حزب الله، فإنه في حالة نشوب حرب مستقبلية بين إسرائيل وحزب الله فمن الأفضل على إسرائيل إعلان حملتها ضد الدولة اللبنانية ككل وأن تتجاهل محاولاتها الادعاء بأن حزب الله ممثل مستقل. وذلك تفادياً لتمكين حزب الله من الاختباء وراء الهياكل الشرعية للدولة والتي هي في الواقع تحت سيطرته. 

ومن جانبه قال وزير التعليم الإسرائيلي نَفتالي بينيت في شهر أيار من العام الماضي: “إن دولة إسرائيل سوف لن تفرّق بعد اليوم بين الدولة اللبنانية ذات السيادة وحزب الله. وسوف يُنظر إلى لبنان كمسؤولة عن أي عمل تقوم به الدولة العميقة في لبنان”، وذلك عقب المكاسب الانتخابية الهامة التي حققها حزب الله وحلفائه. كما أن حزب الله إذا ما سيطر على نقاط اتخاذ القرار الأساسية في الدولة اللبنانية، فإن المساعدة الغربية للدولة المفترضة أو الرسمية، والخارجة عن سيطرة حزب الله، سوف تكون نتائجها عكسية. حيث أنها ستساعد بذلك حزب الله الذي أدرج من قبل تلك الدول كمنظمة إرهابية. ولهذا العنصر الأخير أهمية بالنظر إلى القرار الأمريكي الأخير بالإشارة إلى الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية. فحزب الله اللبناني ما هو إلا امتداد لقوات الحرس الثوري الإيراني ويشكل فرعه الرئيسي الناطق باللغة العربية، وبالتالي فهو العميل والشريك والأداة. وبالتأكيد فإن حزب الله منظمة إرهابية، لذلك فمن المهم مطالبة السياسة الغربية بأن توضح موقفها من المنظمات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني وفيما إذا كان هذا النوع من الارتباط يجلب معه أي نوع من العقوبات. 

وقد شهدت انتخابات شهر أيار من العام الماضي مكاسباً هامة لحزب الله وحلفائه. حيث احتفظ الحزب بمستوى تمثيله السابق في البرلمان (13 مقعداً من أصل 128)، في الوقت الذي حققت فيه الكتلة التي يعتبر حزب الله جزءاً منها فقط نصف مقاعدها في البرلمان. وقد عانت في هذه الأثناء حركة المستقبل، لرئيس الوزراء سعد الحريري، من خسائر كبيرة، حيث انخفض عدد مقاعدها من 33 إلى 21 مقعداً برلمانياً. وقد احتفظ الحريري بمنصبه بسبب طبيعة النظام اللبناني الذي يتطلب أن يكون رئيس الوزراء سنياً. إلا أن الحكومة التي تشكلت فيما بعد أوضحت الموقف المسيطر لحزب الله وحلفائه. 

وفي المفاوضات التي تلت الانتخابات، حمل حزب الله حقيبة وزارة الصحة، والتي تعتبر مصدراً مربحاً كون ميزانية الوزارة هي رابع أكبر ميزانية في البلاد. وقد تولى جميل جاباك، الطبيب الشخصي السابق لزعيم حزب الله حسن نصر الله، منصب وزير الصحة. وقد حرص نصر الله عند إعلانه تعيين جاباك التأكيد على أنه ليس عضواً في الحزب بالرغم من أنه كان، وبحسب نصر الله: “أخاً وصديقاً… وثيقاً ومؤتمناً”. والهدف من التأكيد على عدم انتماء جاباك للحزب هو ضمان تمكنه من السفر في سياق أداء مهامه دون التعرض لعائق تصنيف حزب الله كمنظمة إرهابية. 

وقد حصلت كتلة حزب الله وحليفتها حركة أمل الإسلامية الشيعية والحركات “المستقلة” السنية والمسيحية المرتبطة بها على 45 مقعداً في الانتخابات. وتضم هذه الكتلة، على سبيل المثال، الحزب القومي السوري الاجتماعي والفرع اللبناني لحزب البعث، بالإضافة إلى الأحزاب المحلية المرتبطة بعائلة محددة مثل حزب التحرير العربي الذي يتخذ من طرابلس مقراً له  لعائلة كرامي السنية البارزة وحركة المردة لعائلة “فرنجيّة” المسيحية، هذا بالإضافة إلى حزب الله وحركة أمل.  

وتعتبر هذه الأحزاب صغيرة مقارنة بحزب الله وحركة أمل وقوتهما، وتعتمد عليهما في مركزهم وتأثيرهم. وبذلك، فإن حزب الله وأمل يتحكمان بـ 45 مقعداً في البرلمان. بالإضافة إلى 29 مقعداً إضافياً والتي تضمن أغلبية برلمانية مريحة من قبل الحركة الوطنية الحرة للجنرال ميشال عون وحلفائها. وكذلك يسيطر العونيون على شركائهم الأصغر، والذين يفتقرون جميعهم إلى القوة المسلحة لحزب الله وأمل. وبالتالي فإن حزب الله هو القوة الأكبر والشريك الرئيسي في الائتلاف الذي يسيطر على 74 مقعداً برلمانياً من أصل 128. 

من جهة أخرى، فإن حزب الله، يتمتع بقوات مسلحة تعتبر اليوم أقوى من القوات المسلحة للدولة اللبنانية. فلدى حزب الله حوالي 25 ألف مقاتل بالإضافة إلى 20 إلى 30 ألف جندي احتياط. ولديه ترسانة صاروخية كبيرة تصل إلى 150 ألف صاروخ بحسب تقديرات إسرائيلية. كما أن لديه أيضاً ألاف الصواريخ المضادة للدبابات وعدد من مضادات الطيران ومضادات السفن. إضافة إلى عدد من الدبابات من طراز T-55 & T-72 ومركبات BMP-1 المتمركزة في سوريا. وبالمقارنة، فإن قوة حزب الله لا شيء يذكر أمام قوة مسلحة غربية أو إقليمية مثل جيش الدفاع الإسرائيلي، إلا أنها قد تكون ذات أهمية لمستقبل حزب الله على المستوى المحلي. 

وتعتبر القوات المسلحة اللبنانية أكبر بكثير من حزب الله نظرياً، حيث تمتلك 72 ألف مقاتل إضافة إلى قواته الجوية والبحرية. ولكن عملياً، فإن حزب الله يعتبر قوة متماسكة وموحدة أكثر مقارنة بالقوات المسلحة اللبنانية التي تمزقها الانقسامات الطائفية. وقد عملت الولايات المتحدة  على تقديم 1.7 مليار دولار من المساعدات للجيش اللبناني منذ العام 2006. إلا أن القوات المسلحة اللبنانية فشلت في تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي يهدف إلى منع حزب الله من العودة إلى المنطقة الواقعة جنوب الليطاني. وليس هذا فحسب، بل إن حزب الله اليوم عمل على بناء وتوسيع البنية التحتية في تلك المنطقة بالتعاون مع القوات المسلحة اللبنانية. 

ويوضح التقرير أن النهج الذي تتبعه إيران في فرض نفوذها في دولة ما، كما شهدنا في كل من لبنان والعراق، وبهيئة مختلفة في سوريا، لا تتضمن استبدال الهيئات الحالية للدولة، إنما بناء هيئات موازية مرتبطة بإيران إلى جانب هيئات الدولة، وتمويه الحدود الفاصلة بين هاتين الهيئتين. ويبدو ذلك جلياً في حالة حزب الله والقوات المسلحة اللبنانية.

كما توجد في لبنان أربعة أجهزة استخبارات: مديرية الأمن العام وقوى الأمن الداخلي ومديرية المخابرات العسكرية ومديرية أمن الدولة. ويشير التقرير إلى أن الرئيس ميشال عون ومنذ تعيينه في منصبه في 31 تشرين الأول من العام 2016، يلعب دوراً رئيسياً في إزالة العقبات التي تعترض نفوذ حزب الله من خلال سلسلة من التعيينات على مستوى القيادات في أجهزة المخابرات اللبنانية. فمديرية الأمن العام، والتي تعتبر اليوم من أقوى أجهزة أمن الدولة في لبنان، يرأسها الجنرال عباس إبراهيم، وهو شيعي ومقرّب من حزب الله. ويرى محللون لبنانيون أن الجنرال إبراهيم يعمل ضمن أمن الدولة بالنيابة عن حزب الله وغالباً ما يلعب دور الوسيط بين حزب الله والجهات الأخرى. فقد لعب دور الوسيط بين حزب الله والبنوك اللبنانية عقب الانفجار الذي وقع أمام المقر الرئيسي لبنك بلوم في 12 حزيران من العام 2016. حيث وقع التفجير قبل أيام من بدء البنك تنفيذ قانون منع تمويل حزب الله الدولي، الأمر الذي كان سيؤثر سلباً على إمكانية حزب الله على تحويل الأموال. 

وما تزال مديرية الأمن العام اللبنانية تتلقى المساعدات الرئيسية من الاتحاد الأوروبي، وذلك بالرغم من دور إبراهيم كحليف لحزب الله. وفي بيان صدر في العام 2016 يتعلق بمساعدة الاتحاد الأوروبي للمديرية، قالت السفيرة كريستين لاسن، رئيسة وفد الاتحاد الأوروبي في لبنان: “إن الأمن العام اللبناني يحتل مركز الصدارة في جهود مكافحة الإرهاب والسيطرة على الهجرة الغير شرعية وتحقيق الاستقرار العام في لبنان”. وقام عون بتمديد فترة تولي إبراهيم لمنصبه لمدة ستة سنوات أخرى في العام 2016. 

وكذلك فإن لدى حزب الله استثمارات كبيرة في القطاع المصرفي اللبناني وفي الأعمال التجارية عبر مجموعة واسعة من القطاعات في الاقتصاد اللبناني. كما ينشط حزب الله أيضاً في قطاع المنظمات الغير حكومية، وهذا الجانب من نشاطه يعرض الاقتصاد اللبناني إلى العقوبات المالية. إلا أن استحالة التمييز بين مصلحة حزب الله والاقتصاد اللبناني يولد معارضة كبيرة للعقوبات الاقتصادية ضد الحزب. ففي شهر نيسان من العام 2017، حذّر الرئيس عون من أن فرض عقوبات على حزب الله سوف تلحق الضرر الشديد بلبنان وشعبه. وكذلك قال رئيس الوزراء سعد الحريري، والذي غالباً ما يتم اعتباره الخصم الرئيسي لحزب الله في السياق السياسي اللبناني، إن السلطات اللبنانية سوف تعمل مع الولايات المتحدة للحد من العقوبات باعتبار أن إضعاف الاقتصاد اللبناني يزيد من خطر تحويل لبنان إلى دولة فاشلة.

مثل هذه الحجة يمكن تقديمها بسبب تغلغل حزب الله في الاقتصاد اللبناني ككل، إضافة إلى نفوذه في مجالات أخرى سياسية وعسكرية وشبه عسكرية، الأمر الذي اضطر خصومه إلى إيجاد إستراتيجية للتكيف معه بدلاً من مقاومته. ومع ذلك، حدث انخفاض كبير في الاستثمارات الأجنبية في لبنان. فقد عملت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتان تعتبران أكبر شريكين تجاريين للبنان في الخليج، على خفض شراكاتهما في لبنان خلال السنوات القليلة الماضية ذلك بسبب القوة المتزايدة لحزب الله. وكذلك الأمر بالنسبة لقطاع المنظمات الغير حكومية. حيث تلعب الجمعيات الخيرية المدعومة من قبل إيران و حزب الله، مثل مؤسسة الشهداء، دوراً مهماً في تحويل الأموال إلى الجهات التي تقدم الدعم لحزب الله في لبنان. 

ويشير التقرير إلى أنه ومنذ تأسيسه، كان حزب الله فرعاً للحرس الثوري الإيراني. حيث ظهرت الحركة كنتيجة مباشرة لعملية إرسال طهران 1500 فرد من قوات الحرس الثوري الإيراني والذين كانوا يتخذون من وادي البقاع مقراً لهم. حيث بدؤوا بعملية التحريض والتنظيم التي أدت إلى تأسيس حزب الله في العام 1982. وقد دعا البيان الأول للحزب إلى إنشاء جمهورية إسلامية على طراز الجمهورية الإسلامية الإيرانية. 

كما أن علاقة حزب الله بالنظام الإيراني ليست علاقة فكرية فقط، فمنذ تأسيس حزب الله وكان كل من المال والخبرة الإيرانية المكونان الأساسيان في تأسيس البنية التحتية الاجتماعية والقدرة العسكرية التي يتميز بها الحزب اليوم عن حلفائه ومعارضيه. فقد مكّنت الأموال الإيرانية، والتي بلغت ما يقارب 200 مليون دولار سنوياً في تلك المرحلة، حزب الله من تقديم خدمات لم تستطع الدولة اللبنانية تقديمها. كذلك مكنت إيران الحزب من التسلح بشكل يفوق قدرات أي من منافسيه. وتشير التخمينات اليوم إلى تقديم إيران ما بين 700 و 800 مليون دولار سنوياً لحزب الله. وقد صرح زعيم الحزب حسن نصر الله ضمنياً في خطابه مطلع شهر آذار الماضي بالضائقة المالية التي يعاني منها الحزب، ما يدل على تأثر حزب الله بالعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران. 

ويختم مركز الشرق الأوسط للتحقيق والتحليل تقريره بالإشارة إلى تعريف ماكس ويبر الدولة في كتابه “السياسة باعتبارها مهنة”، بقوله أنها “جالية بشرية تدّعي (بنجاح) احتكار الاستخدام الشرعي للقوة الجسدية على أرض محددة”. وقد كشف التقرير تأثير حزب الله وأسلوب عمله في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والمخابراتية في لبنان عن وضع الهيمنة التي يفرضها الحزب. فنظرياً، لا تزال هيئات الدولة الرسمية وأدواتها، من القوات المسلحة اللبنانية وقوى الأمن الداخلي والهيئات التشريعية والتنفيذية، موجودة، إلا أنه عملياً لا يمكن لأي منها مخالفة رغبات حزب الله. وذلك لأن الحزب قد حشر نفسه في جميع تلك الهيئات أو الهياكل التي تقودها، إن لم يكن الاثنين معاً. الأمر الذي أدى إلى ابتلاع حزب الله، الذي كان لفترة طويلة يشلك نوعاً من الظل الموازي للدولة الرسمية، فعلياً للدولة اللبنانية. فحزب الله يهيمن على كل من عملية صنع القرار وتنفيذه، ذلك من خلال سيطرته على كتلة تسيطر تباعاً على السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في الدولة اللبنانية. كما يُفترض أن حزب الله يشكل قوة عسكرية تفوق قوة الجيش الرسمي للدولة اللبنانية، كما يظهر جلياً تغلغل حزب الله ضمن القوات المسلحة الرسمية.

من جانب آخر، يتولى حليف حزب الله قيادة أقوى جهاز للأمن الداخلي. أما في مجال الاقتصاد فيسيطر حزب الله على إمبراطورية اقتصادية يمكنه من خلالها تهديد أي جهة تسعى للعمل ضده. وبالنتيجة، يستحيل اليوم تعيين الحدود التي تبدأ بها الدولة الرسمية اللبنانية والتي تنتهي عندها في المجالات الرئيسية للحياة اللبنانية في ظل هيمنة حزب الله. وما هذا إلا عملية تمويه وقائية يتبعها الحزب. لذا، فمن الأنسب تسمية حالة حزب الله اليوم بـ “الدولة العميقة” المتوغلة داخل هيكل الدولة اللبنانية الرسمية. لكن وفي هذه الحالة، فإن “الدولة العميقة” لحزب الله ليست هيئة مستقلة بحد ذاتها، وإنما حزب يعتبر فرعاً للحرس الثوري الإيراني. 

ترجمة: موقع الحل – تحرير: سامي صلاح

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.