نشرت مجلة «ذا أتلانتيك» الأمريكية تقريراً يوضح ما آلت إليه الحال في منطقة شرقي الفرات في سوريا، خلال الأسابيع القليلة الماضية. فقد تعددت الرايات المرفوعة على طول الشريط الحدودي الذي يفصل سوريا عن تركيا، كما تنوعت القوات التي تتواجد في المنطقة، والتي تُسير دورياتها على الشريط الحدودي. حيث يشير التقرير إلى أن القوى العظمى، وبعد أسابيعٍ من الفوضى التي عمت منطقة شمال شرقي سوريا، أعادت رسم أجزاء صغيرة من الخريطة وأكبر قصةً تبدأ للتو. فقد انسحبت الولايات المتحدة وتقدمت تركيا في حين تراجعت القوات الكردية بينما الحكومة السورية تنظر بدهشة لما يحصل على أراضيها. أما روسيا فقد عقدت صفقة وأرسلت مزيداً من القوات إلى سوريا. وقد تسببت تلك الفوضى الحاصلة بمقتل مائة شخص على الأقل بينما نزح أكثر من مائة ألف آخرين.

كل تلك الأحداث وقعت خلال بضعة أسابيع من شهر تشرين الأول الماضي عبر شريط طويل لكن ضيق من الأراضي السورية والتي تمتد مسافة 300 ميلاً على طول الحدود مع تركيا. وقد بدا الأمر وكأن القوى العظمى في القرن الحادي والعشرين تبذل الجهود لإعادة رسم الخريطة. لكن في الواقع لم يتم تغيير الكثير على الأرض. لذا، وبعد حوالي شهر من الفوضى وقعت الولايات المتحدة في دوامة جديدة من تنافس الوكلاء وتأثرت قوتها الواهنة إلى حدٍّ بعيد وأصبح مستقبل حربها ضد تنظيم «داعش» موضع شك.

بين المتطرّف والاكثر تطرفاً
وترى المجلة، بأن الرابح الأكبر المفترض مما حصل هم تركيا وروسيا والنظام السوري، إذ اكتسبوا بعضاً من مجالات النفوذ. بينما الضربة القوية كانت من نصيب السمعة الأمريكية. أما الخاسر الأكبر وكما هو الحال دائماً فكانوا المدنيين السوريين. ويتوجب على القوات الأمريكية، مع تردد قرار الرئيس الأمريكي المتكرر بشأن البقاء أو الانسحاب من سوريا، أن تواصل القتال ضد تنظيم «داعش» بعدد أقل من الجنود إلى جانب الشركاء المحليين من الأكراد الذين ربما لم يعودوا يثقون بهم كما قبل. وفي ذات الوقت، منح الفراغ الحاصل على طول الحدود الفرصة لمزيج من القوى الخارجية والوكلاء الذين عادوا ليمارسوا أدوارهم. وفي حديث للمجلة مع ستيف غومير، رئيس منظمة مركز الإغاثة والتنمية، والذي عاد مؤخراً من زيارته إلى شمال شرق سوريا، قال هذا الأخير: “توجد هناك الكثير من القوات المسلحة التي تتجول حاملةً أعلام مختلفة”. وأوضح بأن أعضاء فريقه رأوا ناقلتيّ جنود سوريتين إضافة إلى ناقلات روسية ومدرعات تركية وعربات تابعة للجيش الوطني السوري، وهو عبارة عن ميليشيات مسلحة التي تعتمد عليها تركيا للمساعدة في دفع الأكراد للتراجع. وبحسب «علا الرفاعي»، زميلة في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى والتي استشهدت بمصادر كردية، فإن ما يقارب ثلاثين فصيل مختلف من القوات المدعومة من قبل تركيا تعمل هناك، من ضمنهم «المتطرفون الإسلاميون». حيث أشارت الرفاعي إلى أن بعض الفصائل متطرفة أكثر من الآخرين.

وفي إشارة إلى المسار الفوضوي للسياسة الأمريكية في الحرب الأهلية في سوريا، يبين التقرير بأن بعض الميليشيات التي تدعمها تركيا الآن كانت في السابق حلفاء للولايات المتحدة، مما يعني بأن حلفاء أمريكا السابقين أثبتوا فعاليتهم في المساهمة إلى حدٍّ بعيد في طرد شركائها الحاليين. وكما أوضح مايكل كوفمان، خبير في الجيش الروسي، للمجلة قائلاً: “في الواقع إنها حرب بين وكلاء الولايات المتحدة حيث يهاجم الوكلاء بعضهم نيابةً عن حليف الولايات المتحدة “تركيا” “. إلا أن الخسائر ليست كبيرة جداً كما كان يتوقع أن تكون. فما تزال قوات سوريا الديمقراطية بقيادة الأكراد تسيطر على جزء كبير من شمال شرق سوريا وكذلك على جميع الموارد تقريباً في المنطقة بما فيها النفط والغاز. فقد انسحبت القوات الكردية من القسم الواقع على طول الحدود مع تركيا باستثناء جزء كبير يقدر بحوالي 75 ميلاً يقع في الوسط وهو خاضع الآن لسيطرة الفصائل المدعومة من تركيا. كما أن هياكل الحكم الخاصة بهم ما تزال قائمة بدورها، ذلك بحسب مسؤول أمريكي تحدث عن الوضع دون ذكر اسمه إلى جانب دارين خليفة، محللة في مجموعة الأزمة الدولية التي زارت المنطقة مؤخراً.

عمليات الفرار الجماعي
ولعل الأهم من كل ذلك، أن المنطقة التي ما تزال تتمتع بالحكم الذاتي للإدارة الكردية تتضمن معسكرات الاعتقال الكبرى لمقاتلي تنظيم «داعش». وبالرغم من المخاوف الأولية من أن قوات سوريا الديمقراطية سوف تتخلى عن حراسة تلك السجون لتكرس اهتمامها للدفاع عن نفسها ضد الاجتياح التركي، إلا أنها ما تزال حتى الآن تسيطر على الآلاف من المشتبه في كونهم مقاتلين في صفوف التنظيم. والمخاوف من عمليات الفرار الجماعية المخيفة التي حصلت من تلك المنشآت لم تتحقق، وذلك بالرغم من أن وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبير صرّح في إحدى المراحل بأنه ما يقارب من مائة مقاتل أصبحوا أحراراً. ومنذ ذلك الحين غرّد ترامب بأن تركيا اعتقلت مقاتلين فارين، ذلك بالإضافة إلى زوجة وأخت زعيم تنظيم «داعش» السابق أبو بكر البغدادي ، والذي قضى في غارة أمريكية في شهر تشرين الأول الماضي.

ومع ذلك، توعد الرئيس السوري، بشار الأسد، باسترداد كل شبر من بلاده، في الوقت الذي ما يزال فيه يفتقر للقوات للوفاء بعهده. وقد نشرت روسيا مئات من جنودها للمشاركة في تسيير دوريات حراسة على الحدود السورية مع تركيا، لكن المسافة الحدودية طويلة جداً بالنسبة لهم لفرض الحراسة الكاملة عليها. وبحسب كوفمان، فهم لا يرغبون بالقيام بأكثر مما كان يفعله الأمريكيين من قبل، حيث أكد قائلاً: «في الواقع هذا عبء إضافي على القوات الروسية».
أما فيما يخص الأتراك، فقد حققوا غايتهم وهدفهم الرئيس المتمثل بدفع القوات الكردية للتراجع بعيداً عن حدودهم تحاشياً لما وصفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالتهديد الأمني الذي تسببه ارتباطات تلك القوات المتواجدة في الأراضي السورية بالقوات المسلحة الكردية داخل تركيا. إلا أن القوة الباقية من قوات سوريا الديمقراطية أبقت التهديد السياسي الممثل بإقامة منطقة كردية تتمتع بحكمٍ ذاتي قائماً كمثال يحتذى به للأكراد في تركيا. وعلى مدى تلك التغيرات، ديناميكية واحدة بقيت ثابتة؛ مستقبل سوريا يعتمد على القوى الأجنبية كما يعتمد على السوريين أنفسهم. كان ذلك واضحاً وجلياً خلال مفاوضات وقف إطلاق النار في شهر تشرين الأول الماضي والتي تطرقت خلالها كل من الولايات المتحدة وروسيا للتعامل مع تركيا بشكلٍ منفصل دون وجود أيّ من السوريين للتوقيع رسمياً على أي من تلك الاتفاقيات.

الحرب الأهلية السورية
وقد غيرت الولايات المتحدة من أماكن تواجدها في سوريا، لكن ليس ذلك ما كانت تريده. إذ أكد الوزير إسبر بأن الاستمرار في هزيمة تنظيم «داعش» ما يزال هو الهدف، وأن الجيش يستمر في إصدار سيل متواصل من البيانات الصحفية بشأن أنشطتهم في التصدي لتنظيم «داعش» في سوريا. وعلى أية حال، فقد أضاف ترامب الآن مهمة «حماية النفط» في شرق سوريا، حيث ما تزال حقول النفط موضع نقاش أيضاً وبقيت تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. لذا، فإن الولايات المتحدة تحتفظ بما يكفي من الحضور للتأثير بعض الشيء على مجريات الأحداث، خاصةً وأنها تزود شركائها بقيادة الأكراد بالغطاء الجوي ضد تنظيم داعش. ذلك بالرغم من أهمية أن دعمها ذلك ليس ضد حليفها في حلف الناتو تركيا والتي ما يزال وكلائها يواصلون محاربة الأكراد في بعض المناطق بالرغم من وقف إطلاق النار. وكطرف في الحرب الأهلية السورية، تتمتع الولايات المتحدة ببعض التأثير على مجريات المفاوضات وكيفية انتهائها إلا أنها بدرجة أقل من كل من روسيا وإيران وتركيا الذين استثمروا في سوريا بشكلٍ أكبر.

وتختم «ذا أتلانتيك» تقريرها بالإشارة إلى أن الولايات المتحدة اليوم في موضع أقوى نسبياً لتقديم مطالبها في أيّة مفاوضات مستقبلية بشأن تسوية مصير سوريا. فروسيا سوف تسعى للحفاظ على دور حليفها الأسد. في حين سوف تسعى تركيا إلى تقويض تطلعات الأكراد في البلاد ولا يمكن لأي من تلك الأمور أن تصب في مصلحة الولايات المتحدة، إلا أن دونالد ترامب أوضح أنه يرى مصلحة بلاده الرئيسة في المغادرة. ويبقى الخاسر الأكبر في كل تلك الأحداث هم السوريون المدنيون مجدداً والذين حكم عليهم بالفرار من منازلهم أو المخاطرة بحياتهم ومواجهة الموت خلال تبادل إطلاق النار في ساحات المعركة المتغيرة باستمرار والتي باتت في منازلهم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.