علي مراد

جنوب الابتكارات، كما يحلو للبعض تسميتها، فإن كانت بغداد العاصمة هي قلب العراق النابض، فجنوب العراق هو عقل العراق، العقل الذي يملك ذاكرة حضارية مُمتدة إلى 6000 سنة، منتهلاً من حِراك السومريين الأوائل وحرفتهم الأولى في صناعة الحياة وتصديرها إلى العالم.

وعند تعقب التاريخ الحديث لجنوب العراق نرى أن انبثاق الحركات السياسية اليسارية والقومية والإسلامية وهي الأهم اليوم على الساحة العراقية هي من شخوص الجنوب نفسهم، وخصوصاً الناصرية التي اتخذت موقعاً استراتيجياً يقع في عمق القلب الجنوبي بين خمس محافظات من الوسط والجنوب (ميسان، بصرة، سماوة، واسط، ديوانية).

وبعد انطلاق حراك تشرين وثورة الشباب العراقي، أثبت الجنوب مرة أخرى إنه يملك خزانة من الحلول التي تؤثر على الحكومة، بالموازاة من تأثير الحراك في بغداد والتي قد يصل صوت قنابلها الصوتية والدخانية والرصاص الحي المستخدم ضد المتظاهرين من أبنائها إلى أسماع الرئاسات الثلاث، عابراً نهر دجلة بسهولة لقرب ساحة التحرير مركز الاحتجاج البغدادي للمنطقة الخضراء مركز رئاسة الدولة العراقية وبرلمانها.

فقد بدأت احتجاجات البصرة بداية كبيرة بتأثيرها الفعّال، خصوصاً بخطوتها في قطع الطريق على الموانئ العراقية والشركات النفطية، والتي أثرت في شلِّ حركة الحكومة العراقية، خصوصاً وأن البصرة تعتبر رئة العراق الاقتصادية، وجاء تأثير ميسان كبيراً أيضاً والتي واجهت الميليشيات التابعة لإيران مواجهة حقيقية، وصلت إلى حدوث معركة حقيقية بين متظاهرين عزّل ومسلحين تابعين لحركة الأوفياء ومنظمة بدر وحركة العصائب وغيرها من الحركات الموالية لنظام إيران.

حيث سقط الكثير من المتظاهرين بين شهداء وجرحى وبدأت عمليات الخطف والتهديد والوعيد، وكل ما حصل من ترويع لأهالي ميسان العزّل افتضحت الحركات الإيرانية وأسقطت أقنعتهم وأظهرت وجوههم الحقيقة التي كانت تختبئ خلف عناوين الحشد الشعبي والدفاع عن العراق وعناوين القداسة الأخرى، وكان سقوط هذه الحركات في هذه المحافظة مدويّاً.

أمّا الناصرية فقد قطعت الطريق على كل الأحزاب السياسية فيها مبكراً، حينما أعلنت عن نفسها “محافظة خالية من الأحزاب السياسية” بعد حرق جميع المقرات الحزبية، وجاء هذا الإعلان بعد سقوط الكثير من الشهداء، حتى أرادت الناصرية أن تنهي الأمر على عجالة ورفعت من سقف خطواتها الاحتجاجية وأعلنت عن عصيانها المدني،.

وهذا ما لم ترتضيه الحكومة العراقية حتى استخدمت القوة المفرطة مرة أخرى وسقط 106 شهيد من المتظاهرين العزّل في يومين دمويين شهدتهما محافظة ذي قار، وعلى غرار هذه الدماء الجنوبية الذي قابله تغير خطاب مرجعية النجف المتمثلة بالمرجع الديني علي السيستاني وأعلن بعدها رئيس الوزراء عادل عبد المهدي استقالة حكومته، وأصدر القضاء العراقي أول أمر إلقاء قبض على الفريق الركن جميل الشمري الذي ارتكب جريمة قتل المتظاهرين العزّل، وأعلنت الحكومة المحلية وقيادة الشرطة في المحافظة عن استقالتهما أيضاً.

أمّا الزخم الاحتجاجي الذي أعطته هذه المحافظات الثلاث على وجه الخصوص جاء منفرداً عن غيره لعدة أمور أهمها، إن هذه المحافظات الثلاث تعد خزينة ثروة البلاد النفطية والمائية والاقتصادية لكن الوجه المنعكس على جماهيرها هو صورة الفقر المدقع، وهنا باعتقادي إن فقراء هذه المدن اتفقوا على مقولة “لوكان الفقر رجلاّ، لقتلته” كيف لا والفقر هو نظام حكم  لرجال يعملون بالسياسة ويحيطون أنفسهم بهالة القداسة الدينية والطائفية.

وتعتبر أيضاً هذه المحافظات صاحبة أكبر خزين شبابي ممن يحملون الهمّة والمسؤولية الوطنية ولهم مواقفهم الكثيرة والمعروفة مع الوطن، لكن الوجه الآخر المنعكس عن هذه التضحيات هو إن مستثمرو الحروب وقادة الفصائل الإيرانية استغلوا الشعور الوطني عند هذه الشبيبة لمصالح طائفية وفيها خيانة للانتماء الوطني.

وجاء الرد العكسي المفاجئ من هؤلاء الشباب ليجعلوا من إيران هدفهم ومن مقرات حركاتها دفئاً لهم بعد حرقها تماماً، وتعتبر هذه المحافظات الثلاثة وعلى الرغم من الظروف السياسية المتعمدة في تجويع مجتمعها وتدوير مشاكله الاجتماعية لكن تراها تضج بالمثقفين والقرّاء.

هذا ما قد يسهل الطريق على أية حركة احتجاجية لم يدنسها الزيف بالنجاح والتبلور في هذه المدن، وكما تعتبر هذه المدن من الغالبية الشيعية التي قد يمثلها ثلثي البرلمان إضافة لرؤساء الوزراء المتعاقبين المنتمين لطائفتها والذين لم يفعلوا شيئاً لمدن الجنوب غير سحب أبناء الجنوب وتطويعهم إلى الحروب ليعودوا شهداء إلى أهاليهم.

وبهذا الحال نستنتج إن انقلاب الجنوب على سدنة الحكم الذين يرتدون عباءة الدين وقاراً وستاراً لمشاريعهم، هو انقلاب تاريخي كبير، لأن الجنوب العراقي هو ترسانة الوطن وخسارته تعني خسارة بلاد كاملة.


هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.