أحكم محمد إغلاق نافذة غرفته الصغيرة المجاورة للسوق الشعبي، والمغطاة بستارة بيضاء من قماش رقيق، استعداداً لحصة تدريبية جديدة على آلة العود. تراقب عيناه الواسعتان أوراق النوتة المعلقة على الجدار أمامه، أثناء عزفه إحدى المقطوعات الموسيقية من تأليف مدربه أبو مهند، وهو أستاذ موسيقي يعلم عشرات الشبان والفتيات العزف على الآلات الموسيقية في مدينة إدلب، شمال سوريا.

اعتاد الملحن الخمسيني، الملقب بـ«أبو مهند» على إجراء التدريبات في منازل تلاميذه منذ أن أقفلت المعاهد الموسيقية أبوابها في مدينة #إدلب قبل سنوات بسبب الحرب القائمة في البلاد، حتى أطلق عليه السكان لقب «الموسيقي المتجول».

البركان الثائر
بالرجوع إلى سيرته في هذه الحياة، تقول الرواية أن «أبو مهند» درس في معهد صباح فخري للغناء والموسيقى في حلب بتسعينيات القرن الماضي، وألف ولحن عشرات الأغاني قبل- وبعد- اندلاع الثورة، ويرى أن الفن ضارب في جذور تاريخ بلاده، وهو ما يفسر إقبال الشباب والفتيات لتعلم العزف على الآلات الموسيقية أو ممارسة أشكال أخرى من الفنون بهذا الشكل اللافت، متحدين الظروف الصعبة التي يمرون بها. مشيراً إلى أن عدم الاستقرار في مدينته إدلب خلق ردة فعل إيجابية، وكان رغم الجوانب السلبية الكثيرة، بيئة خصبة لتفجير مواهب الشباب من الجنسين وإبراز إبداعاتهم.

حرص «الموسيقي المتجوّل» على أن تكون ألحانه مرتبطة بأوجاع الناس، ومعبرة عن همومهم ومناصرة لقضاياهم، فألف مقطوعة «البركان الثائر» عقب خروج عشرات الآلاف في إدلب بمظاهرات تهتف للحرية والتخلص من الاستبداد عام 2011.

رحلة البحث عن معهد موسيقي
وعلى خلفية اعتداء مسلحين بالضرب المبرح على عازف في أحد المخيمات في آب/ أغسطس 2017 ألف مقطوعة بعنوان «مستمرون» التي شهدت تفاعلاً لافتاً من قبل السكان المحليين. يقول محمد خير حك (26) عاماً، وهو أحد طلاب «أبو مهند» لـ«الحل نت»: إنني «بذلت جهداً كبيراً في رحلة البحث عن معهد موسيقي أو أستاذ يدربني للتعلم على آلة العود في إدلب، للأسف معظم الموسيقيين هاجروا أو توقفوا عن العزف بسبب الانفلات الأمني والتضييق من الفصائل الحاكمة، التي لا تحبذ الموسيقى».

وأضاف خلال حديثه «التقيت (الموسيقي المتجول) عن طريق الصدفة خلال حفل زفاف أحد أصدقائي منذ ثلاثة أشهر تقريباً، وكانت هذه المدة القصيرة كفيلة بأن أتقن على يديه العزف على آلة العود».

إن ابتكار الموسيقى أحد اكبر إنجازات الإنسان منذ وجد على ظهر هذا الكوكب، فهي الطريقة المثلى لترجمة الأحاسيس حين تعجز الكلمات عن التعبير، وفق ما قالت عازفة الكمان «ربا العاصي» لموقع «الحل نت».

فيما يرى «أحمد السعيد» وهو أحد سكان إدلب أن دعم الفنانين القلّة الذين آثروا البقاء بات ضرورة وحاجة ملحة، فانتشار الفن بأشكاله المتعددة يعطي الصورة الحضارية الأصيلة للسوريين وينسف ادعاءات من يوصم هذا الشعب بتهمة «الاٍرهاب» ومعاداة الإنسانية.

فرقة للأطفال
على مقربةٍ من حلب، معقل الطرب وواجهة سوريا الفنية، اصطف عشرات الأطفال على خشبة مسرح المركز الثقافي في مدينة الأتارب لغناء «رح ترجعي يا سوريا» وقد امتلأت مقاعد الصالة بالجمهور الذي تفاعل بحرارة ولم يتوقف عن التصفيق والغناء مع الأطفال.

وعلى جانب المسرح التقينا مؤسس ومدرب فرقة «كورال ربيع سوريا» الأستاذ الموسيقى «حسام عاروب» الذي أوضح أن «هدفه الرئيس تنمية مواهب الأطفال وزرع الابتسامة على شفاههم وإبعادهم قدر المستطاع عن أجواء الحرب». مشيراً إلى أن «الفرقة التي تأسست عام 2013 بإمكانيات متواضعة كافحت للاستمرار حتى الآن، وتوسعت مؤخراً لتضم سبعين طفلاً وطفلة دون سن العاشرة، يؤدون بشكل جماعي أغاني وأناشيد من الفلكلور السوري الجميل».

مواهب غنائية
يروي حسام عاروب (35) عاماً لـ«الحل نت» تعرّض المركز الثقافي في مدينة الأتارب وهو المكان الوحيد الذي تتدرب فيه الفرقة لـ«قصف جوي منتصف عام 2015 ما أدى لوقوع أضرار في المبنى وتوقف الفرقة عن التدريب وإحياء الحفلات عدة أشهر لحين الانتهاء من أعمال الصيانة»، مؤكداً أن «ضعف الإمكانيات المادية أجبره على تخفيض ساعات التدريب واقتصرت الحفلات التي تحييها فرقته على الأعياد الرسمية وحفلات نهاية العام الدراسي».

من جانبها، قالت الطفلة «ريم علبي» ذات الأعوام التسعة، إنها انضمت لفرقة «ربيع سوريا» قبل عامين بعد النزوح مع عائلتها إلى مدينة الأتارب، لافتة إلى أن التدريب والتشجيع والاحتكاك بأساتذة الموسيقى عوامل أسهمت بتطوير موهبتها الغنائية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.