«في عام 2004 زُرت #العراق، وقفتُ في منتصف #شارع_الرشيد وبكيت، أُقسم أنّني بكيت، بكيت بصوتٍ عالٍ، لَم أرَ شارع الرشيد، كانت هناك حاوية نفايات كبيرة، واسطبل تستريح فيه الخيول التي تجر العربات من تعبها، فهل سيقوم “شارع الرشيد” القتيل من موته هذا؟».

هكذا وصف الشاعر “عيسى الياسري” حال الشارع الأعتق في العراق، حينما جاءه من بلد بعيد يمكثه، مُحاولاً الاستمتاع بشارع “الألوان والعطور” كما كان يسمّيه، ليُصاب بالصدمة.

“الرشيد” هو أكبر من العراق الحديث عُمراً، ويصادف ذكرى تأسّيسه في (23 تموز 1916)، أي مر عليه /104/ أعوام، فيما تأسست الدولة العراقية الحديثة بعده بخمس سنوات، في 1921.

عبد الحليم وأُم كلثوم

ظل الشارع قلب #بغداد النابض، ورمزها الذي يفتخر به حكامه قبالة رؤساء الدول الذين يزورون البلاد على امتداد القرن الماضي، يأخذهم من يحكمون البلاد وقتذاك إلى هذا “الرمز”، لم يقتصر على أهل السياسة فحسب، بل كان النافذة الفنية والثقافية الأهم، ففيه غنّت #أم_كلثوم في الثلاثينيات، وفيه غنى “العندليب” #عبد_الحليم_حافظ أيضاً.

مع التطور الزمني، يعتقد أن الأمكنة تتطور وترسخ أكثر، لكن “الرشيد” غير هذا، بل العكس، طاله الإهمال الكبير، حتى بدا للناظر مجرّد “كومَة خَراب”، هُناك محاولات متعدّدة لانتشال الشارع من حاله هذه، لكنها “على قدر المستطاع”، فالمحاولات تقوم بها جهات مُحبّة له، ليست رسمية حكومية لتتمكّن من إعادته إلى سابق عهده.

“إرادة زيدان” أكاديمية في كليّة إعلام بغداد

لم أستطِع الوقوف به

“إرادة زيدان”، أكاديمية في كليّة إعلام بغداد، أطلقت حملة العام الماضي من أجل الشارع، وحملت اسم ” #الرشيد_أجمل “، لم تدعمها جهة ما، هي وطَلَبَتها فقط. تقول لـ (الحل نت)، «في وقتها كان الشارع قد فتح لتوّه، تم تحريره من الكتل الخراسانية، وبتحريره منها كأنّما الدولة العراقيّة قد تحرّرَت».

«لذا بادرت بهذه الحملة، لأنّ الشارع هو رمز الدولة العراقية الحديثة، وإعادة الاعتبار له، بمثابة إعادة الاعتبار للدولة، قمنا بتنظيفه عدّة مرات أنا ومعي بعض التدريسيين من الكلية وطلبتها، لكنّني لم أستطع الوقوف بالشارع، اليأس نال مني، فاليد الواحدة لا تُصفّق». تُضيف “زيدان”.

«الشارع عمره /104/ سنوات، وحملة بسيطة مثل هذه لا تنهض بـ (1 ٪) من النهضة التي يُراد بها للشارع، إعادته تتطلّب الشغل عليه من قبل الحكومة لسنوات لا أيام وأشهر» تقول “زيدان”.

للشارع رقمٌ عجيب، يضم أربع ساحات رئيسة “ساحة الغريري، ساحة الميدان، ساحة الوثبة، وساحة الرصافي”، ويضم أربعة جوامع، “حسين باشا، الحيدر خانة، جامع مرجان، وسيد سلطان علي”.

إحدى طالبات كلية الإعلام أثناء حملة “الرشيد أجمل” – فيسبوك

الاغتصاب والفساد

يحتوي على أربعة أسواق كبيرة، “سوق هرج، سوق الصفّارين، سوق الشورجة، والسوق العربي”، ويتصل بأربعة جسور، “جسر الشهداء، جسر الأحرار، جسر السنك، وجسر الجمهورية”، هذا هو الرقم العجيب.

“سارة يوسف”، /54/ سنة، صحفيّة تعمل منذ 1990 في مجال الصحافة الثقافية التي تعنى بالتراث، كتبت العديد من المواد عن “شارع الرشيد”، وما زالت تكتب عنه.

تقول “يوسف”، «بحكم تجربتي وكتابتي عن الشارع، أكاد أجزم أن شقَّين أساسيين، يقفان وراء إهمال “الرشيد” وعدم إعماره، الأول هو “اللا مسؤولية” من قبل رجالات ما بعد 2003». وتوضّح، «لا يعنيهم التراث، هُم جاؤوا فقط لاغتصاب البلاد، وإشباع غريزتهم المادية منه، و “الرشيد” كان منها، هدّموا بيوته التراثية واستثمروها في مجال التجارة».

«الشق الثاني، هو الفساد، هذه الآفة التي لا تتوقّف، ولم تتوقّف، رُصدت المليارات لهذا الشارع في العقد المنصرم، لكنّها تبخّرت وبقي “الرشيد” على حاله»، تبيّن لـ (الحل نت).

في عام 2011، رصدت #الحكومة_العراقية مبالغ هائلة، لتأهيل وإنجاز /24/ مشروعاً ضمن تحضيرها لمنهاج “بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013″، وكان لـ “الرشيد” حصة في ذلك.

“ذكرى سرسم” المسؤولة عن منظّمة (برج بابل لحماية التُراث)

من العمران إلى الطائرات

رُصد لتأهيل “مركز بغداد الثقافي” من منطقة “الباب المعظّم” إلى “جسر السنك” وهو “شارع الرشيد” الممتد على طول /4 كم/ تقريباً، مبلغ /120/ مليار دينار، ليكون مُؤهّلاً عام 2014. اليوم، نحن في 2020، والشارع ما يزال على حاله، فما الذي حدث بشأن المشروع الذي يفترض به أن يكون كاملاً منذ سنوات ست؟

تقول “ذكرى سرسم”، «كان ينبغي أن ينفذ المشروع، لكن وزير الثقافة في حينها تولى منصب وزير الدفاع بالإضافة إلى وظيفته، وقتها حوَّل الوزير المبلغ المخصّص لـ “الرشيد” لصالح وزارة الدفاع و بمباركة رئيس الحكومة حينها #نوري_المالكي، لشراء طائرات عسكريّة».

“سرسم”، وهي المسؤولة عن منظّمة (برج بابل لحماية التُراث)، تقول لـ (الحل نت): «نحن كـَ “برج بابل” أطلقنا منذ سنة مبادرة، هدفها التعريف بالمواقع التراثية». وتُضيف «ركّزت المبادرة على “شارع الرشيد”، وما يحويه من ثيمة لمواقع تراثية، هدفها الضغط على الحكومة لتأهيله، لكن دون جدوى».

ماذا عن القضاء العراقي؟

يضم “شارع الرشيد” عشرات المباني التراثية، بيوت عتيقَة، دور للسينما، مقاهي قديمة التأسيس، مسارح، كنائس، وما من هذا، معظمها في حالة يرثى لها اليوم.

ثمّة مجموعة من القوانين تُنظّم الحفاظ على المباني التراثية وتجديدها، ولعل أهمّها قانون الآثار والتراث رقم 55 لسنة 2002، والذي يهدف إلى حماية الآثار التاريخية من الاندثار.

بالإضافة إلى ذلك، لدى بلدية بغداد لوائحها الخاصة لضمان حماية النسيج الحضري للمدينة، وحماية الآثار والمناطق المصنفة كمواقع تراثية، فماذا عن تطبيق هذا القانون؟

القانوني “رعد مجلي”

«القانون العراقي يحظر تهديد أو تغيير معالم الأبنية الموثوقة لدى دائرة الآثار في وزارة الثقافة، ويؤكد على أهمية الحفاظ عليها وتأهيلها بالشكل الذي لا يجعلها تتغيّر عن أصبها»، يقول القانوني “رعد مجلي”، ويُضيف لـ (الحل نت)، «#القضاء_العراقي يحاول وقف عمليات التخريب في إطار قوانين حماية الآثار والتراث، لكنه فيما بعد يضطر لترك الأمور نتيجة تهديد الأحزاب السياسية له، ليستمر التخريب دون حد».

في 2016، احتفلَت #أمانة_بغداد بمرور /100/ عام على تأسيس “الرشيد”، كانت الاحتفالية كبيرة يومها، وقالت الأمانة آنذاك، إنها في صدد التجهيز لمشروع كبير يعيد لـ “الرشيد” مجدَهُ التَليد، ولكِن.

أحزابٌ عقائدية

«في الحقيقة هي ليست المرّة الأولى، حاولنا عشرات المرات من أجل تأهيل “الرشيد” وتعاملنا مع شركات وضعت تصاميم أخّاذة تعيد للشارع رونقه وبأصالته التراثية، لكن جميعها توقّفت قبل التنفيذ»، يقول “سامر جليل” /اسم مستعار/ لـ موظفٍ في أمانة بغداد” ويُضيف، «في كل مرّة نستبشر خيراً تجيء الأوامر بإيقاف المشروع، والسبب هي الأحزاب ذات الطابع السياسي العقائدي».

«هذه الأحزاب تنظر للشارع من اسمه لا من ناحية تاريخه، فهي لا ترضى بعمرانه لكونه يحمل اسم الخليفة العباسي #هارون_الرشيد، وذلك لأسباب تاريخية مذهبية»، يوضّح “جليل” لـ (الحل نت). ويؤكّد «كانت قد وصلتنا رسائل شديدة اللهجة من #حزب_الفضيلة طالبنا بعدم فتح ملف “شارع الرشيد” مرّة أخرى، بل وأرادوا تغيير اسمه أكثر من مرّة، لكن محاولاتهم قوبلت بالرفض الشعبي، ففشلت».

استغلال الاحتجاجات

كان النائب عن “حزب الفضيلة” الذي يعود بالانتماء للشيخ “اليعقوبي”، “عمار طعمة” قد طالب في 2018 بتغيير اسم “شارع الرشيد” لأسباب مذهبية تعود إلى أحداث في العصر العباسي.

يجدر بالذكر، إن تقريراً لموقع “المونيتور” في مارس المنصرم، قال إن بعص الجهات السياسية استغلت الاحتجاجات العراقية التي اندلعت في أكتوبر الماضي في #ساحة_التحرير بالقرب من “الرشيد”.

وفقاً للتقرير، فإن تلك الجهات قامت بحرق مبانٍ تُراثية في “الشارع العتيق”، من أجل استثمارها في التنمية التجارية وتحويلها إلى مولات ومحلاّت تدر عليهم بالربح الوفير، دون أي حساب لهم أو رقيب.

يبدو أن تساؤل الشاعر “عيسى الياسري” «هل سيقوم “شارع الرشيد” القتيل من موته هذا؟» كُتِبَ له أن يظل ليومنا هذا، وربما لسنوات قادمة طوال دون إجابة على الميدان تمكّن “الرشيد” النهوض من سُباته.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.