أفرزت الحرب السورية أوجه متعددة للصراعات قد يكون أهمها، الصراع الأفقي المُتمثّل بصراع مكونات السوريين الثقافية، الإثنية والطائفية. هذا الصراع لم يكن بالحقيقة ناتج عن تلك الحرب بشكل أساسي، الحرب والصراع الشاقولي السياسي، بمعنى الأجسام والكيانات السياسية، فتح الباب لظهور تلك الإفرازات والتراكمات التاريخية التي لم يسبق الدخول في مشروعٍ فكري جدي يهدف لحل مشاكلها وتفنيد سردياتها، الأمر الذي ساهم بشكلٍ جذري بتغييب قدرة السوريين عن فهم بعضهم وقبول اختلافاتهم بشكلٍ واضح وصريح؛ بعيداً عن ثقافة الاختلاف المسموح بها أو المناسب للرؤيا المهيمنة على التاريخ والثقافة والفكر.

النتائج كانت ما يتم توصيفه اليوم بصراع الهويات والمظلوميات التي تساهم بزخم بخلق تقسيمات مبنية على أسس ومعايير باتت واضحة لجميع السوريين، ولا يغيب فيها دور القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في المعضلة السورية.

فالواقع السياسي الجغرافي اليوم، يحكمه تقسيمات صريحة للقاصي والداني، مناطق نفوذ أميركية تدعم مشروع الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي وهي الأكثر استقراراً وأماناً مقارنةً بغيرها ويبرز فيها توجّهٌ قومي كردي مع توجهاتٍ أخرى أقل فاعلية، ومناطق سيطرة تركية تدعم جسم معارض “رسمي” وتوظّف المليشيات والجبهات ذات الفكر الجهادي وتغذّيها بأحلام الماضي والتاريخ وشوفينيةٍ عثمانية إمبريالية تُلاقي آمال الخلافة عند شريحةٍ معتبرة.

وأخيراً، مناطق نفوذٍ روسيّة وإيرانيّة تدعم النظام السوري الرازح تحت صعوبات وعقوبات ووطأة الحرب والذي يسوّق لما يسميه “انتصار”. هذا التقسيم الأخير يحوي أيضاً كيانات ومناطق تتفاوت في مدى سيطرة النظام عليها.

ففي الجنوب السوري، في السويداء وجبل العرب هناك شكلٌ من أشكال إدارة المنطقة ذاتياً من قبل فعاليات سياسية وزعامات دينية درزية تاريخية تسعى إلى شيءٍ من الحياد والحفاظ على المجتمع والوجود الدرزي المرتكز في هذه البقعة من سوريا، يضاف أيضاً من هذا الجنوب منطقة حوران أو محافظة درعا التي لجأت الى خيار المصالحات والضمانة الروسية، وبقي هناك شكل من أشكال السلاح الخارج عن سيطرة النظام والمدار من قيادات وخبرات سابقة في الجيش الحر.

ولابد ألا ننسى حيز جغرافي سياسي ديني مهم في التقسيم الأخير، ألا وهو الساحل السوري بغالبيته العلوية المؤثّرة والمتمركزة هناك، مُحمّلة بأثقال الحرب ومظلوميات التاريخ وخيارات أقل ما يقال عنها أنها وجودية أقحمها النظام فيها بكل قواه ووسائله، يضاف إلى هذا الواقع الجيوسياسي، دور سياسي ديني لعشائر وتيارات تاريخية في هذه الطائفة وذاك الساحل.

مناسبة هذا التفصيل السريع للواقع السوري هو السؤال: ماذا عن المسيحيين السوريين؟ وخصوصاً إذا اعترفنا بجرأة أن المشروع الوطني العلماني الشامل لم ير النور بعد، أو حقيقةً لم يصمد أمام الواقع التاريخي الاجتماعي لسوريا المحكوم بمكونات وهويات وثقافات متعددة ظلّت على طول التاريخ تلبس هوية وتنزع أخرى بناءً على ما تحدده الرؤيا المهيمنة في كل وقت والتي بغالبها إسلامية وعربية ذكّرنا بها  المجلس الإسلامي ببيان بتاريخ ٨ شباط معنون بـ “وثيقة الهوية السورية”.

أي أن ذاك المشروع لم يصمد أمام الرؤيا المهيمنة على الواقع والتاريخ والمجتمع وهذا الأمر يثبته مآل الثورة السورية وخطاب جمهورها وأجسامها السياسية ولا نبالغ إذا قلنا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بشكل عام.

إذاً، نحن أمام واقع سياسي وجغرافي لتقسيمات محكومة بهويات وثقافات وطوائف، والمسيحيون في هذا الواقع، موجودون في كل هذه التقسيمات والجغرافيات، فليس هناك أي مكان يخلو منهم عموماً وليس هناك جغرافيا واحدة تضمّهم كما هو حال البقية، وهذا كان حالهم على مر التاريخ.

ينتمي المسيحيون في سوريا بشكلٍ أساسي إلى إثنيتين أو هويتين أساسيتين تُسمى بطرياركيتاهم بأسمائهما: الهوية الرومية بطائفتين والهوية السريانية بطائفتين أيضاً. ويمكننا القول بأن هناك محددات وصفات ومسببات للسلوك السياسي والاجتماعي ولجغرافية المسيحيين في سوريا، ناهيك عن البعد الروحي الذي يرى الانتماء كوني لا تحدده جغرافيا أو قومية وهو راسخ في العقيدة المسيحية والمسيحية الأنطاكية خصوصاً، هناك عوامل تلعب دوراً أبرز في شكل هويتهم السياسية والوطنية.

فمنذ بداية سيطرة العرب على سوريا الرومانية، كما يصفها المصطلح التاريخي، انخرط المسيحيون، رغم الصعوبات والاضطهادات والمجازر أحياناً، في مناحي الحياة كلها، تاركين جانباً تَرَفَ نسبِ أي منجزٍ حضاري لهم، فتصدر صفحات التاريخ العربي والإسلامي توجه واحد وأيديولوجيا واحدة مازلنا نقرأها إلى اليوم وكأنه لم يكن هناك غيرها أو لم يكن منتجيها أقلية في ذاك الوقت، ليتعجّب القارئ ويتساءل: ألم يكن هناك أحد في هذا البحر الرومي والسرياني يجيد الفكر والثقافة والتأريخ؟.

وفي التاريخ القريب، نشط أعلام المسيحيين في تيارات قومية ويسارية علمانية، قد ترددت أسمائهم كثيراً ولا مجال هنا لتكرار المكرر، ساعين إلى مبتغاهم الدائم في المساواة والتشاركية والانفتاح مع الجميع ولم يتم تشكيل أي تيار أو حزب مسيحي حصري بخلاف البقية، فحتى تيارات وأحزاب السريان والآشوريين يتشارك معهم في الرؤيا السياسية كثير من السوريين من بقية الطوائف، فمثلاً هناك تيار كبير من السوريين القوميين وغيرهم يؤمنون بسريانية سوريا وهو الحجر الأساس في بناء الفكر السياسي السرياني.

عاملٌ آخر هو طبيعة الإمبراطورية الرومية البيزنطية، التي ينسب أغلب المسيحيين السوريين هويتهم لها والتي ضمّت أعراق وقوميات مختلفة وأعطتهم اسمها ومواطنتها، فعلى عكس ما يتم تكراره على مسامعنا عن سلطة رجال الدين والباباوات في أوروبا على الإمبراطورية خلال العصور الوسطى، اتسمت طبيعة الإمبراطورية الرومية الشرقية -بيزنطة- بسلطة الإمبراطور على الجميع وتُوصف هذه الطبيعة بمصطلح تاريخي مهم – Caesaropapism ـ كنقيض وضد لطبيعة السلطة في روما والإمبراطورية الغربية Papism. فالوعي السياسي التاريخي عند الروم السوريين يرى سلطة الدولة والحاكم فوق سلطة رجال الدين ومن هنا تبرز طبيعة التكوين السياسي للمسيحيين السوريين كتكوين عابر للطائفة.

عاملٌ أخير يحدد التوجه السياسي للمسيحيين السوريين، ألا وهو انتشارهم على كامل الجغرافيا عبر التاريخ وعدم وجود تمركز جغرافي أساسي لهم, يضاف لهذا العامل المذكور آنفاً عنصر مهم: السلاح والغزو، فلم يتّسم تاريخهم بهذه السمة أبداً ويصنفهم “حنا بطاطو” في كتابه (فلاحو سوريا) خارج  تصنيفات الغزو والحرب، فلم يُسمح لهم بالجندية أو حمل السلاح على طول التاريخ العربي الإسلامي، الأمر الذي جعلهم عرضة لمجازر وعدم قدرة للدفاع عن النفس أو رد المعتدين، وزوايا التاريخ تكشف عديد المجازر والاعتداءات بحقهم، الأمر الذي ساهم جذرياً بتكوين تراكمي لتوجهاتهم السياسية ووعيهم الجمعي اللاعنفي وميلهم الدائم للحوار و لهوية وطنية شاملة ومساوية ترى الدولة والقانون أساسها ومركزها.

من الممكن أن الواقع السياسي والاجتماعي لسوريا اليوم أن يسهم بخلق حراك سياسي مسيحي، بمعنى ثقافي وهوياتي وليس ديني، وخصوصاً أنهم بنسبة معتبرة منتشرين في الشتات حملوا معهم ثقافتهم وهويتهم الرومية المشرقية، بالإضافة للسريانية وبنوا كنائسهم الناطقة بلغتهم والتي تحي طقوسهم وتقاليدهم.

لكن هذا الحراك لا يستطيع الخروج من المحددات والتصنيفات والصفات المذكورة أعلاه: التشاركية والانفتاح، الهوية الجامعة أو اللاضدية، واللاعنفية. فلا يوجد تقسيم أو كيان أو إدارة تخص المسيحيين في سوريا ولم يسعوا لها سابقاً، ولكن أسمى ما قد يهدف أي حراك أو تيار سياسي لهم هو مبتغاهم ومبتغى ونضال أجدادهم في المساواة والعدالة والتشاركية وتمثيل الذات والاعتراف بالهوية في مناخ سياسي اجتماعي متسامح وديمقراطي، يرفض العنف والعنصرية والطائفية ولهوية وطنية شاملة لا تميزهم ولا تقصيهم ولا تسمح بأن يُصادر تمثيلهم أو الادعاء بحمايتهم والتعبير عنهم.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.