راقب قادة السلطة السورية مشهد الثورات العربية في أواخر 2010، ورغبوا بشدّة أن تنجح؛ فهم بورطةٍ كبيرة حيث لم يجدوا طريقة للتخلص من إرث النظام القديم. السوريون، الذين ابتلوا لخمسين عاماً بنظامٍ ديكتاتوري وجدوا أنهم يستحقون مجتمعاً أفضل، فلم يتأخروا عن إعلان ثورتهم في آذار 2011.
خشيت السلطة أن تستمر الأجهزة الأمنية في عرقلة أحلام السوريين، فبادرت إلى إقالة القادة الأمنيين التاريخيين، واستبدلتهم بقادة جدد، وأبعدت ذوي الرؤوس الحامية عن المناصب الأمنية الحساسة. كانت ترى السلطة أن سورية بأزمة كبيرة، ولم يعد ممكناً تفويت الفرص، سيما أن هؤلاء القادة مَنعوا السلطة “الجديدة” من التحوّل الديمقراطي منذ عام 2000، وفوتوا فرصة ثمينة تمثلت بربيع دمشق في ذلك التاريخ.
بدأ الشباب في أوائل 2011 بالتظاهر في هذه المدينة أو تلك. السلطة أرسلت عناصرها لحماية الشباب، خوفاً من أن يتعرضوا لجماعات موتورة أو ضيقة الأفق أو عناصر من أفرعٍ أمنية لم تتغير بعد، وما زالت قياداتها يعيشون في أتون صراعات الأمس “الثمانينيات” التي لم ينهيها النظام بالانفتاح والتصالح مع الشعب والقوى السياسية، ولم تتجاوزها القوى الإسلامية، وبالتالي وجد النظام في المظاهرات السلمية معطيات جديدة، لدرء تفجر الأزمة السابقة من جديد.
تطوّرت المظاهرات وأصبح لها تنسيقيات ومجالس محلية في المدن والبلدات، وبدأت ترسل وفوداً تمثلها إلى العاصمة، حيث أرسلتِ السلطة في طلبها، ومن أجل فهم حاجات المدن. استطاعت السلطة الاطلاع الدقيق على أوضاع البلاد، حيث الوفود كان تمثل المدن والبلدات، بينما الأجهزة الأمنية ومختلف مؤسسات الدولة غارقة في الفساد والبيروقراطية والنهب وليس من مصلحتها أن تعرف السلطة عن ذلك شيء، وحاربت بروز أية كفاءات سورية جديدة وفي أي ميدان! والحق أقول: لقد عملت من أجل ذلك منذ مطلع الألفية، ولكن مؤسسات الدولة خانت الأمانة، ولم تقدم الوضع الدقيق عن أحوال البلاد!
كانت الثورة، والمشاركة الشعبية الواسعة فرصة تاريخية، تنتظرها القيادة، وهذا ما لمسته الوفود حينما التقت شخصيات نافذة في السلطة. الوفود التي عادت من لقاءاتها نقلت تلك الأجواء إلى الشعب، الذي كان يخاف من ردود السلطة على مظاهراته. الجديد هذا دفع المجموعات المنظمة للاحتجاجات إلى محاصرة أية توجهات طائفية “سلفية أصولية جهادية” أو فوضوية أو إجرامية، ورفضت بشكل قاطعٍ وصول جهاديين من هذه الدولة أو تلك، وحتى الجهاديين الذين أطلقتهم الأجهزة الأمنية من السجون، وبدون علم السلطة، رفضت القيادات الثورية التعامل معهم، وعَزَلَهم المجتمع، وبالتدريج بدأوا يغادرون البلاد أو يشاركون الشعب في مظاهراته، وإن لم يستطيعوا هضم الشعارات المركزية “الشعب السوري واحد واحد واحد”، وأية شعارات على هذا النحو.
شعرتْ السلطة بالاطمئنان لتطوّر الثورة ولشعاراتها وللقيادات الشابة الجديدة. وفتحت اتصالات كثيفة ودقيقة معها، وهذا سمح بإطلاق سراح المعتقلين القدامى ، والمعتقلين الجدد حالما تحتجزهم الأجهزة الأمنية، وتوثقت عرى الثقة بين السلطة والشعب الثائر. وجد السوريين ضرورة في تجاوز أحقاد الماضي، فرأينا قادة المظاهرات في مناطق الأقليات، يبادرون لدعوة أخوتهم من مناطق الأكثرية إلى تبوأ المنصات وإلقاء الخطب، والعكس تمّ أيضاً. انتاب الجميع الشعور بالخجل من عدم معرفة الآخر، ومن الحقد الذي تراكم بقلوبهم منذ الثمانينيات، وقبل ذلك بعقودٍ، وربما بقرونٍ. بدأ السوريون يتركون خلفهم عداواتهم ومخاوفهم القديمة، الدينية والطائفية والعنصرية، بل وبرزت النساء كقياديات في المظاهرات، ورُفِعنَ على الأكتاف، وكانت لخطبهن عظيم الوقع والأثر.
كانت رؤية السلطة حينذاك مبنية على ضرورة تجاوز إرث الماضي المشين، والاستفادة من الطاقات الجديدة، وتجنب أية سيناريوهات قد تفضي بالبلاد إلى مزيدٍ من التطييف أو التدمير أو الاحتلالات أو التهجير والهجرة كما جرى في العراق مثلاً. كان واضحاً للسلطة أن الخارج يتحيّن الفرصة ليضع يديه بخناق السوريين، نظاماً ومعارضةً. قام بمبادرة جديدة على تاريخه، حيث استدعى القضاء لإنصاف المعتقلين السابقين ومنذ الستينيات، وأعطاهم مبالغ مالية كثيرة، واعتذر من العائلات الذين مات أولادها في المعتقلات أو السجون، وحثّهم إلى إنشاء جمعياتٍ مدنية لمتابعة كافة الملفات المتعلقة بمعتقلي الأمس وعائلاتهم والاستمرار بإنصاف ممن لم ينتبه القضاء له.
شعر السوريون أن السلطة “الجديدة” تغيّرت بالفعل، وبدأت المدن تتقدم بمقترحات دقيقة، وغير طوباوية؛ فالأكراد طالبوا بالإقرار بلغتهم كلغة رسمية ثانية في البلاد، والاعتراف بحقهم بالتعليم ونشر الثقافة بلغتهم ونالوا ذلك، وكذلك اعتذرت السلطة من مصطلح المدن النامية، وعملت على إطلاق مشروع تنموي في كافة المدن السورية، واعترفت أن السلطة القديمة كانت ترفض قيام أية مشاريع اقتصادية كبيرة في مدن الساحل لإجبار الشباب على الالتحاق بمؤسسات الجيش أو الأجهزة الأمنية والخدمية، وغذت لديهم رؤية طائفية قاصرة، رغم أنها لم تكن ساعية إلى تشكيل نظام طائفي بحالٍ من الأحوال، معترفة أن سابقتها كانت تستغل الطوائف و تطيفها من أجل ديمومة السلطة، وإبعاد الشعب عن تشكيل وعيٍّ طبقيٍّ بقضاياه والمطالبة بحقوقه، وإيقاف مؤسسات الفساد والنهب.
القيادات الثورية والشعب المحتج راح يقترب من السلطة أكثر فأكثر، وينتظر خطابات قياداتها، ويتدارس مضامينها بشكل دقيق. وجدت القيادات الثورية أن السلطة جادة، ولن تتورط بأيّة اعتقالات أو قتل أو تدمير للمدن أو أن يدخل الجيش إليها كما كان كبار السن يحذرونهم همساً.
بدأ السوريون يعزّزون من الرقابة المجتمعية على الاحتجاجات وعلى مؤسسات الدولة والسلطة. السلطة بدورها عزّزت هذه الروح، وتضافرت جهود الطرفين لمواجهة أية جماعات متعصبة أو فوضوية أو ضيقة الأفق تحاول تخريب أسس الجمهورية الجديدة. لم يمر 2011 إلّا وكانت #سورية محط نظرٍ وإعجاب من قبل العرب وسواهم. لم تتحقق نبوءة أمريكا وإسرائيل وأوروبا أن تكون سورية مقبرة لأحلام العرب. مع تتالي السنوات بدأت تتقاطر الوفود العربية والغربية لمتابعة الحدث السوري، والثورة راحت تتجذر أكثر فأكثر، وبدأت عملية إعادة إعمار واسعة، شارك بها رأسمال المال الخاص والعام. كان النهوض عظيماً، واستَثمر في كافة ثروات سورية أو الطاقات البشرية.
أذهلت سورية العالم حيث نهضت بالزراعة والصناعة والعلوم التقنية ومع عام 2014 و2015 بدأت بإنتاج الروبوتات، وأجهزة الموبايل، وهناك تخطيط واسع لإنشاء مفاعلات نووية من أجل الطاقة الكهربائية، ورفضت السلطة أيّة عروض من أجل بناء صناعة عسكرية نووية.
تبدو تجربة سورية من أفضل ما حدث عربياً، وهنا لا يفوتنا أن السلطة أنشأت إدارة انتقالية للتحوّل الديمقراطي، وَانتخب الشعب قياداته الميدانية مباشرة، وحصل ذلك مع عام 2013، وب2015 تشكل أوّل برلمانٍ يمثل السورين كافة، وأُغلقت صفحة الماضي عبر تشكيل جمعياتٍ للسلم الأهلي، وكانت من كافة الطوائف والقوميات.
إن تجربة سورية المدهشة هذه، تُدرّس الآن في مختلف دول العالم، وساعد ذلك دول عربية كثيرة في انتهاج النظام الديمقراطي والعدالة الاجتماعية وتخطي مشكلاتها التاريخية، ولم تتورط بمواجهات دموية مع شعوبها؛ نعم لقد انتصرت الثورة السورية، وأصبح الشعب واحداً، والسلطة لم تواجهها، والآن تغيرت معالم سورية بأكملها، وتحطمت كافة النبوءات السوداء حول الخراب والدمار والتهجير و الاحتلالات والافقار الواسع والحروب التي لا تنتهي، وبالطبع لم يعد لإيران أيَّ نفوذٍ في سورية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.