غيّرت سنوات الحرب في سورية المعالم التجارية بين سورية والأردن، وخاصة تلك التجارة بين مدن الشمال الأردني، الرمثا وإربد، من جهة ومحافظة درعا من جهة أخرى، والتي اتسمت خلال عقود بما يعرف بتجارة “البحّارة”، وهي تجارة خاصة يتم النقل فيها بواسطة سيارات الركاب الصغيرة والمتوسطة والمعروفة محليا “الجمسات” نسبة إلى سيارات “جي إم سي”، والتي شكلت على مدار سنوات طويلة المورد الاقتصادي الأهم بين هذه المناطق.

مدينة درعا، والاستراحات الممتدة على الطريق الدولي دمشق – عمان، من بلدة صيدا في ريف درعا الشرقي وحتى معبر نصيب الحدودي، تعتبر المحطة الرئيسية لتكدس البضائع بمختلف أنواعها والقادمة من المدن الكبرى كدمشق وحلب، وريف درعا نفسها، قبل أن يتم نقلها إلى الأردن بواسطة سيارات البحّارة التي باتت تعمل بالقرب من الحدود في الآونة الأخيرة، حيث يفضل أصحابها عدم الدخول في العمق السوري حذرا لأي طارئ أمني، وكذلك لتفادي دفع الرشاوى للحواجز الأمنية التابعة لحكومة دمشق.

ولطالما اعتمد التجار الأردنيون على البحارة لنقل بضائعهم من سوريا مستغلين قلة أجور النقل، وعدم وجود تعرفة جمركية وإن وجدت أحيانا فهي بسيطة جدا بالمقارنة مع رسوم مكاتب الشحن، بالإضافة إلى السرعة في النقل والإجراءات المتعلقة بالدخول على حدود البلدين.

انحسار طويل لتجارة البحارة خلال الحرب

توقفت تجارة “البحارة” مع حركة العبور بين الأردن وسورية منذ العام 2015، عقب سيطرة المعارضة المسلحة آنذاك على معبر نصيب الحدودي من الجانب السوري، كما أغلق معبر الرمثا المعروف بـ” الجمرك القديم” والذي لا يزال مغلقا حتى اليوم، ما أدى لـ “كارثة اقتصادية” لسيارات النقل الأردنية والسورية، والتي يبلغ عددها نحو 1000 سيارة مرخصة لهذا العمل.

واستمر الحال كذلك حتى استعادت حكومة دمشق سيطرتها على محافظة درعا في نهاية تموز/يوليو 2018، ليعاد افتتاح معبر نصيب – جابر في منتصف تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، ليعود التفاؤل بين التجار من الطرفين السوري والأردني.

حيث عادت التجارة بين البلدين ولكن بشكل محدود، وتوقفت في بعض الأوقات نتيجة الاضطرابات الأمنية، وانتشار جائحة كورونا، لتتوقف خلالها لعدة أشهر بسبب تفشي الوباء في سوريا بشكل كبير، إلا أن هذه التجارة عادت للانتعاش مؤخرا بعد عملية التسوية الثانية في درعا في أيلول/سبتمبر من العام الفائت.

تجارة استغلال الفرصة

رغم صعوبة الأوضاع الاقتصادية في سوريا، والبطء في إجراءات التنقل بين البلدين، إلا أن “البحّارة” يحاولون استغلال أي فرصة للعمل ونقل البضائع والركاب بعد الخسائر الكبيرة خلال السنوات الماضية.

يقول عبدالله الحمد، “بحّار” أردني لموقع ” الحل نت”، أنه بعد تشغيل معبر نصيب قبل عدة أشهر بدأ بالتجهز للسفر إلى سوريا لمعاودة عمله، ويقوم حاليا برحلة في الأسبوع على الأقل، حيث يقوم بنقل الركاب، ونقل بعض البضائع والسلع خلال رحلة العودة.

ويوضح الحمد أن البضائع السورية رغم ارتفاع أسعارها بشكل كبير عن السابق إلا أنها تبقى أقل من نظيرتها في السوق الأردني، بخاصة الألبسة، وبعض المنتجات الغذائية المصنعة كالأجبان وما شابهها، وهذا الفارق بالسعر يشكل مربحا معقولا، بالإضافة إلى إدخال بعض علب السجائر التي يغطي مربح بيعها في الأردن تكلفة السفر والوقود وفحوصات “كورونا”.

الرشاوى و”كورونا” لها حصتها

كان لانتشار فيروس “كورونا” أثر سلبي كبير على تجارة البحارة بين البلدين، فقد أغلقت الحدود لعدة أشهر من الجانب الأردني، وبعد فتحها لا تزال انعكاسات الوباء تؤثر على “البحّارة” والسائقين السوريين على حد سواء، بالإضافة إلى الرشاوى التي يدفعها السائقون على الحواجز الأمنية التابعة لحكومة دمشق، وإجراءات أخرى يجب القيام بها قبيل السفر بين البلدين.

يقول أبو عبدالرحمن، وهو سائق سوري يعمل في نقل الركاب بين سوريا والأردن، لموقع “الحل نت”، إنه في البداية لا يمكن لأي سائق سوري دخول الأردن قبل التسجيل على تطبيق ما يعرف بـ”المنصة”، هو تطبيق تم إنشاؤه من قبل السلطات الأردنية لتنظيم دخول السيارات السورية إلى الأردن، كما لا يمكن للسائق السوري دخول الأردن ما لم يكن يقل ركابا معه، وعلى الأقل يجب أن يكون هناك راكب واحد، وهناك مدة بين كل رحلة للسائقين السوريين هي 4 أيام على الأقل، بالإضافة لإجراء فحص خلو السائق من “كورونا” قبل 72 ساعة على الأقل.

ويشير أبو عبدالرحمن، إلى التكاليف التي باتت تثقل كاهل السائقين السوريين على الجانبين الأردني والسوري، ففي الجانب الأردني لا بد أن يدفع السائق رسوم تأمين على مركبته، وهذه الرسوم تدفع حسب المدة، فعن مدة 3 أشهر يتم دفع مبلغ 110 دنانير أردنية، وعن مدة 6 أشهر يدفع 180 دينار أردني، وعن مدة عام كامل يدفع مبلغ 280 دينار أردني، كما يدفع السائق رسوم دخول إلى الأردن مبلغ 25 دينار أردني عن كل رحلة يقوم بها.

ويؤكد أبو عبدالرحمن، أنه بالإضافة للتكاليف على الجانب الأردني، هناك مبالغ تدفع داخل الأراضي السورية تصل إلى نحو 500 ألف ليرة سورية في كل رحلة، معظمها يذهب كرشاوى للحواجز الأمنية، وبعضها للوقود، مشيرا في الوقت نفسه إلى التدقيق من الجانبين على السلع التي يتم نقلها ومنع الكثير منها، ما يدفع السائقين السوريين للاعتماد بشكل أكبر على إيصال الأمانات للسوريين على جانبي الحدود للتعويض عن الخسائر والتكاليف الكبيرة.

النظام يضيق على البحارة ويده على كل ما يعبر الحدود

الباحث في الاقتصاد، كرم شعار، يقول لموقع “الحل نت”، إن دمشق بدأت مؤخرا في التضييق على هذا النوع من التجارة، ولم يعد يسمح للتجار ومنهم “البحّارة”، بإدخال ونقل كميات كبيرة من البضائع من الأردن كما في السابق، حتى أن ذلك شمل المفروشات المستعملة العائدة للسوريين في الأردن، والتي بدأت تتقاضى عنها تعرفة جمركية، مؤكدا أن الحكومة السورية لا تدعم بأي حال هذا النشاط التجاري وذلك من أجل الحصول على رسوم جمركية عالية يتم فرضها بشكل أكبر على قوافل الشاحنات الكبيرة.

أما بسام الديري، وهو تاجر واقتصادي سوري يقيم في الأردن، يقول لموقع “الحل نت”، أنه يفضل كما الكثير من التجار وحتى مكاتب الشحن التعامل مع “البحّارة” في نقل البضائع من سوريا إلى الأردن، أو بالعكس، وذلك لمحاولة التخلص من الرسوم الجمركية العالية، وهذا ما دفع دمشق للتضييق على هذه التجارة.

وتطرق الديري إلى الفائدة التي تجنيها حكومة دمشق من خلال الإتاوات التي تفرضها الحواجز الأمنية والعسكرية المختلفة على الطريق الدولي، والتي يعاني منها السائقون السوريون بشكل أكبر خاصة عندما يقومون بنقل الركاب أو البضائع إلى دمشق أو محافظات أخرى، حيث يتم فرض المبلغ من كل حاجز حسب كل سيارة وما تحمله معها، بالإضافة إلى الرسوم الجمركية العالية التي تتقاضاها الجمارك السورية على الشاحنات المتوجهة إلى الأردن ودول الخليج، والتي تتجاوز في بعض الأحيان ألف دولار عن كل شاحنة، وهذا ما يشكل موردا اقتصاديا مهما لدمشق.

ويتوقع الديري، أنه في حال استمرار التطبيع مع دمشق من قبل الدول العربية، وعودتها إلى الجامعة العربية، وإعادة تفعيل اتفاقيات التجارة العربية والإعفاءات الجمركية كما كان الحال قبل 2011، فإن حكومة دمشق ستستعيد أحد أهم الموارد الاقتصادية حيث تربط الطرق السورية بين العديد من دول المنطقة، وبين دول المنطقة وأوروبا.

قلق مستمر يعيشه “البحّارة” والسائقون السوريون نتيجة عدم انتظام عملهم وتقديم التسهيلات لهم كما كان الحال قبل سنوات، وإجراءات يعتبرونها مكلفة وتحتاج الكثير من الوقت لإنجازها قبل أي دخول بين البلدين، ما دفع الكثير منهم للتفكير بالتخلي عن مهنة ورثها الكثير منهم عن آبائهم، والتوجه لأعمال أخرى في ظل توجه رسمي بين البلدين للاعتماد على النقل بواسطة الشحن، والذي يعود بمردود اقتصادي أكبر لخزينة البلدين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.