عام كامل يقترب على الانسداد السياسي المستعصي في العراق منذ إجراء الانتخابات المبكرة الأخيرة في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، وهذا الانسداد ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج 12 عاما من أزمة سياسية تتكرر بعد كل انتخابات نيابية.

بدأت قصة الانسداد السياسي أول مرة في عام 2010، بعد إجراء الانتخابات النيابية في ذلك العام، وكانت حينها الأزمة هي الأطول بعد استمرارها 8 أشهر، قبل أن يكسرها الانسداد الحالي الذي سيدخل العام بعد 3 أسابيع تقريبا.

انتخابات 2010 وما تلاها من نتائج وتداعيات، تعد هي المشكلة الأساس التي تتكرر مع كل انتخابات نيابية، ومثالها الحي الأزمة السياسية الحالية، فما الذي جرى في ذلك العام ولم يتم تجاوزه حتى الآن، رغم مرور 12 عاما بالتمام؟

دحض نتائج انتخابات 2010

في شهر آذار/ مارس 2010، أجريت الانتخابات التشريعية الثانية في عراق ما بعد نظام صدام حسين، الذي أسقطته واشنطن، ربيع عام 2003، لكن ما أن أُعلنت نتائج الانتخابات حتى حدثت أزمة سياسية حادة، خلّفت انسدادا كبيرا، انتهى بكسر إرادة الناخب العراقي.

أسفرت الانتخابات حينها، عن فوز “القائمة العراقية” بزعامة إياد علاوي، أول رئيس حكومة عراقية بعد نظام صدام حسين، بعد حصولها على 91 مقعدا، متفوقة بفارق مقعدين فقط على “ائتلاف دولة القانون”، بزعامة رئيس الحكومة آنذاك، نوري المالكي.

كان من المفترض، وفق العملية الديمقراطية، أن يذهب إياد علاوي لتشكيل الحكومة، لكن هوس المالكي بالسلطة، جعله يرفض التبادل السلمي للسلطة، فأصر على إقصاء الفائز بالانتخابات، لكن لا طريقة قانونية تسعفه على ذلك، ما أدخل البلاد في انسداد سياسي كبير.

أصر المالكي على تولي رئاسة الحكومة مجددا، ولأجل ذلك بحث عن مخرج قانوني يعطيه السلطة، فذهب إلى “المحكمة الاتحادية العليا”، أعلى سلطة قضائية في البلاد، لتفسير ماهية الكتلة النيابية الأكبر، لتأتي فتوى رئيس المحكمة حينها، مدحت المحمود، صادمة للرأي العام.

فسّر المحمود، الكتلة النيابية الأكبر، هي التي تتشكل من خلال التحالفات بعد إعلان نتائج الانتخابات، وليست الفائزة في الانتخابات، في التفاف على الدستور، لتهيئة كرسي رئاسة الحكومة لصالح المالكي، ما أثار ردود فعل سياسية غاضبة، خاصة من قبل كتلة إياد علاوي الفائزة بالانتخابات.

مدحت المحمود والمالكي وإياد علاوي

يعرف مدحت المحمود بقربه من المالكي، وكلاهما يمتلكان علاقات وطيدة بطهران الداعمة للمالكي منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، وكانت ضد فوز كتلة علاوي؛ لأنها ليبرالية، لم تكن شيعية ولا سنية ولا كردية، في وقت يعد منصب رئاسة الحكومة من حصة الشيعة، وفق العملية المحاصصاتية بالعراق، التي تمنح رئاسة الجمهورية للكرد، ورئاسة البرلمان للسنة.

بعد تفسير “المحكمة الاتحادية” بفتوى مدحت المحمود، ضغطت إيران على القوى الشيعية للدخول بتحالف مع المالكي من أجل تشكيل حكومة بقيادته، فتحالفت بالفعل معه، غير أن الأزمة لم تنتهِ إلا باتفاق أربيل، الذي منح كرسي رئاسة الحكومة على طبق من ذهب للمالكي.

اجتمعت معظم القوى السياسية في أربيل، بمقر رئيس إقليم كردستان آنذاك، مسعود بارزاني، الذي تمكن من إقناع إياد علاوي بالتنازل عن حقه، من أجل الصالح العام وتجنيب البلاد من عواقب وخيمة، وبالتالي تم الاتفاق على تشكيل الحكومة.

بعد إجراء الانتخابات في آذار/ مارس 2010، وبعد فتوى مدحت المحمود، سمي المالكي بعد 8 أشهر، تحديدا في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر من ذات العام، رئيسا للحكومة لولاية ثانية، حتى صيف عام 2014، ليحكم البلاد مدة 8 أعوام، وتنتهي فترة حكمه بسيطرة تنظيم “داعش” على ثلث مساحة العراق.

تلك الفتوى القضائية التي رسمت طريق المالكي للولاية الثانية، استمرت تداعياتها مع كل انتخابات نيابية، لتتسبب بانسداد وأزمات لعدة أشهر، لا تنتهي إلا بصعوبة بالغة، في وقت لم تنتهِ الأزمة الحالية حتى هذه اللحظة، ولا بوادر لحلحلتها قريبا.

تداعيات انتخابات 2014 و2018

في نيسان/ أبريل 2014، أجريت الانتخابات التشريعية الثالثة بعراق ما بعد 2003، وأسفرت عن فوز حزب المالكي، “ائتلاف دولة القانون”، أولا بنتيجة بعيدة عن أقرب منافسيه “التيار الصدري”، إذ حصل على 92 مقعدا، مقابل 34 لصالح “التيار”، بزعامة مقتدى الصدر.

أزمة سياسية وانسداد جديد تلت الانتخابات، عندما أصر المالكي مجددا على التفرد بالحكم سعيا منه لولاية ثالثة برئاسة الحكومة العراقية، رغم أن الدستور العراقي، لا يسمح لأي شخص بتولي الرئاسة لأكثر من ولايتين، لكنه أراد ضرب الدستور عرض الحائط.

نوري المالكي وإياد علاوي

دخلت جل القوى السياسية في صراع مع المالكي لمنعه من خرق الدستور والقانون، لكنه لم يرضخ، ونتيجة لقتاله على السلطة، ترك كل أمور البلاد، فاجتاح “داعش” نينوى في 10 حزيران/ يونيو 2014، ومن ثم سيطر على ثلث مساحة البلاد.

سيطرة “داعش” على 3 محافظات عراقية، كانت الضربة التي قصمت المالكي، رغم أنه استمر بصراعه لتولي الحكم مجددا، لكن وبعد 5 أشهر من الانسداد السياسي، أفتت المرجعية الدينية في النجف، بعدم تجريب المجرب لرئاسة الحكومة، ليسقط نوري المالكي.

بعد تصريح مرجعية النجف، اجتمعت معظم القوى السياسية، وسمّت القيادي في “حزب الدعوة” حينها، حيدر العبادي، رئيسا للحكومة في أيلول/ سبتمبر 2014، ليخلف المالكي، الذي طعن قضائيا بما أسماه الالتفاف عليه، قبل أن يتنازل عن حلم الولاية الثالثة، بعد فتوى المرجعية.

في أيار/ مايو 2018، جرت الانتخابات التشريعية الرابعة في عراق ما بعد نظام صدام حسين، وأسفرت الانتخابات عن فوز “تحالف سائرون” بقيادة مقتدى الصدر أولا بحصوله على 54 مقعدا، تلاه “تحالف الفتح” الموالي لإيران، بقيادة هادي العامري، ثانيا بحصوله على 47 مقعدا، فيما لم يحصل حزب المالكي، سوى على 28 مقعدا فقط.

بعد نتائج انتخابات 2018، دخلت البلاد في أزمة سياسية أخرى، نتيجة فتوى مدحت المحمود عام 2010، بخصوص الكتلة النيابية الأكبر، إذ اختارت قوى إيران، المتمثلة بـ “دولة القانون” بقيادة المالكي، و”تحالف الفتح” بزعامة العامري، التحالف سوية وضمت معها بعض التكتلات الشيعية الصغيرة، لتقطع الطريق أمام مسعى مقتدى الصدر بتشكيل حكومة أغلبية من دونها.

تحالف مقتدى الصدر مع “ائتلاف النصر” بزعامة حيدر العبادي، و”تيار الحكمة” بقيادة عمار الحكيم، غير أنه لم يتمكن من تشكيل الحكومة؛ لأن تحالفه يقارب تحالف قوى إيران من حيث المقاعد، لتستمر الأزمة السياسية، قبل أن يضطر الصدر للتوافق.

مقتدى الصدر وهادي العامري

بعد 5 أشهر من انتخابات 2018، انتهى الانسداد السياسي، عبر توافق مقتدى الصدر مع هادي العامري لتشكيل حكومة محاصصة، فأُسندت رئاسة الحكومة لصالح القيادي السابق في “المجلس الأعلى الإسلامي”، عادل عبد المهدي، في تشرين الأول/ أكتوبر 2018.

لم تستمر حكومة عبد المهدي سوى سنة واحدة قبل أن تسقط، بإعلانها الاستقالة نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، على إثر “انتفاضة تشرين” التي خرجت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ضد الفساد السياسي والبطالة ونقص الخدمات والتدخل الإيراني بالشأن العراقي.

أزمة انتخابات 2021

حكومة عبد المهدي، سقطت بعد قمعها المفرط للمتظاهرين ومعها الميليشيات الموالية لإيران، ما أسفر عن مقتل 750 متظاهرا، وإصابة 25 ألفا، بينهم 5 آلاف شخص مصاب بإعاقة دائمة، لتأتي حكومة برئاسة مصطفى الكاظمي.

من نتائج “انتفاضة تشرين”، انتخابات مبكرة، جرت في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، قبل الموعد الطبيعي للانتخابات التشريعية التي تجرى كل 4 أعوام، والتي كان يفترض بها أن تحصل في العام الجاري 2022.

أسفرت الانتخابات المبكرة الأخيرة، عن فوز “التيار الصدري” أولا بـ 73 مقعدا، مقابل خسارة فادحة لقوى إيران، إذ حصل حزب نوري المالكي على 30 مقعدا، فيما حصل “تحالف الفتح”، على 17 مفعدا فقط، لتدخل البلاد في أطول انسداد سياسي لم ينته بعد، وأشد أزمة سياسية منذ 2003.

بعد الانتخابات، تحالف زعيم “التبار الصدري” مقتدى الصدر، مع الكرد والسنة، ليشكل أكبر تحالف في العملية السياسية العراقية منذ 2003، وأول تحالف عابر للمكون الواحد، وبذلك امتلك الكتلة الأكبر سواء الفائزة أولا في الانتخابات أو المتشكلة من خلال التحالفات بعد الانتخابات.

وسعى الصدر لتشكيل حكومة أغلبية وطنية، يقصي منها قوى “الإطار التنسيقي”، التي أصرت بقيادة المالكي على تشكيل حكومة توافقية مثل كل حكومات ما بعد 2003، لكنه لم ينجح بعد فيتو قضائي جديد لصالح قوى إيران، شوّه العملية الديمقراطية أكثر بعد فتوى مدحت المحمود، عام 2010.

إذ وبعد اقتراب الصدر من مسعاه لتشكيل الحكومة الجديدة، ذهب “الإطار” نحو “المحكمة الاتحادية” لتفسير كيفية حضور النواب لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية، الممهدة لتشكيل الحكومة الجديدة، فألزمت المحكمة حضور ثلثي أعضاء البرلمان للجلسة، بدل حضور أغلبية النصف + واحد من أعضاء مجلس النواب.

قيادات “الإطار التنسيقي”

أغلبية الثلثين، تستوجب حضور 220 نائبا لجلسة رئاسة الجمهوربة من مجموع أعضاء البرلمان الكلي، وهم 329 نائبا، بينما أغلبية النصف + واحد، تعني 165 نائبا فقط، ولم يتمكن تحالف الصدر من الوصول لأغلبية الثلثين التي فرضها القضاء العراقي، فانسحب الصدر من البرلمان.

بعد انسحاب “التيار الصدري” من البرلمان في 12 حزيران/ يونيو المنصرم، قرر “الإطار” تشكيل حكومة إطارية محاصصاتية، الأمر الذي استفز زعيم “الكتلة الصدرية”، ليستخدم ورقة الشارع، وهو الذي يملك أكبر قاعدة شعبية، لمنع “الإطار” من تشكيل حكومته.

حتى الآن لم تنتهِ الأزمة السياسية الراهنة؛ لأن الصدر يطالب بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة جديدة، فيما يصر “الإطار” على تشكيل حكومة جديدة، هي من تقوم بإدارة انتخابات مقبلة، وعدم البقاء على حكومة الكاظمي الحالية.

ويتفق معظم الخبراء ومعهم الكثير من السياسيين على أن الأزمة السياسية والانسذاد سيتكرران مع كل انتخابات جديدة، ما لم يتم إجراء تعديلات على الدستور، تكون واضحة ولا تترك فرصة لتفسيرها من قبل القضاء.

أهم التعديلات، تحديد الكتلة الأكبر، الفائزة في الانتخابات ومنع التحالفات بعد الانتخابات، وجعل حضور جلسة انتخاب رئيس الجمهورية وفق أغلبية النصف + واحد، حينها ستنتهي الأزمة ولن يتكرر الانسداد بعد الانتخابات، بحسبهم.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.