تحت أنظار تركيا صاحبة النفوذ الأكبر في الشمال السوري، “هيئة تحرير الشام” تتمدد في مناطق سيطرة الجيش الوطني المدعوم من أنقرة في ريف حلب الشمالي، حيث أن الصمت التركي حيال ذلك، عزز فرضية انخراط أنقرة في مخطط “الإدارة الموحدة لمناطق المعارضة” وذلك تمهيدا لعودة آلاف اللاجئين السوريين المقيمين على الأراضي التركية.

مكاسب تركيا من تمدد الهيئة تتجاوز ملف عودة اللاجئين، لتصب التحركات الأخيرة التي شنتها “تحرير الشام” نحو مدينة عفرين، في سياق مقاربة تركية جديدة في الملف السوري، تتمثل بضبط المناطق الخاضعة لسيطرتها. لكن تصنيف الهيئة على قوائم الإرهاب الدولية يشكل عائقا أمام مسألة التعامل معها. كما أن السماح بتمدد الهيئة نحو عفرين وإعزاز والباب، سيصطدم أيضا برفض أميركي محتمل، كونها قد وضعت “تحرير الشام” ضمن لوائح الإرهاب.

مؤشرات عدة تدل على أن تركيا تنظر إلى “هيئة تحرير الشام”، بصورة إيجابية من ناحية أدائها الأمني في ضبط مناطق سيطرتها. إذ يبدو هذا النموذج محبذ لتركيا، مقارنة بحالة الفوضى الأمنية والفصائلية في مناطق سيطرة الجيش الوطني، بشمال وشمال غربي حلب. بحسب حديث الكاتب الصحفي إياد الجعفري لـ “الحل نت”.

أما عن كيفية انعكاس ذلك إيجابا على هدف تركيا بتهيئة المنطقة لعودة اللاجئين فيرى الجعفري أن هذه المسألة تبقى معضلة عصية على الحل، ذلك أن “تحرير الشام” مرفوضة بصورة كبيرة من الحاضنة الشعبية بالمنطقة، كما أن تصنيفها كمنظمة إرهابية، تركيا ودوليا، أمر يجعل هدف إعادة اللاجئين إلى مناطق سيطرتها، أكثر صعوبة من إعادتهم إلى مناطق خاضعة لسيطرة فصائل توصف بـ “المعتدلة”.

طرح خطة العودة الطوعية للاجئين السوريين، وهو تعبير يستخدمه المسؤولون الأتراك حول عمليات ترحيل السوريين نحو الشمال السوري، بدأ منتصف العام الحالي، ورغم أن حديث الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بخصوص “خطة العودة الطوعية للاجئين السوريين” ليس جديدا، إلا أن طرحه في التوقيت الحالي أثار الكثير من التساؤلات، فيما انعكس السياق الخاص به سلبا على أوساط السوريين بحسب تقرير لموقع قناة “الحرة”.

ملف اللاجئين السوريين في تركيا بات يأخذ مسارات أكثر حدة، وخاصة من جانب أحزاب المعارضة، وفي الوقت الذي تضع هذه الأحزاب “إعادة السوريين إلى بلادهم” على قائمة برامجها الانتخابية استعدادا للاستحقاق الرئاسي في 2023، دخلت الحكومة التركية والحزب الحاكم مؤخرا على الخط، ليغردوا في ذات السياق، لكن تحت عنوان “طوعا وليس إجبارا”.

قد يهمك: بطلب تركي.. “تحرير الشام” تنسحب من مناطق ريف حلب

بموازاة ما سبق، كان لافتا خلال الأشهر الماضية سلسلة القرارات التي وصفت بـ “التقييدية”، التي اتخذتها الحكومة ضد الوجود السوري في البلاد. وكان آخرها منع الراغبين منهم في قضاء إجازة عيد الفطر في مناطق الشمال السوري، الخاضع لسيطرة فصائل الجيش الوطني.

فيما يبدو أنها رسالة لأنقرة، صعّدت موسكو سياسيا وعسكريا تجاه حليفتها أنقرة ومناطق نفوذها شمال غربي سوريا، حيث أصيب عشرة مدنيين بينهم طفلان، الخميس الماضي، بقصف مدفعي وصاروخي للقوات الحكومية والروسية في ريف إدلب.

أنقرة لم تنفذ كامل التزاماتها في الاتفاقيات التي وقعت عليها في موسكو بآذار عام 2020، إذ أن روسيا تواصل الجهود الرامية لإقناع القيادة التركية بالالتزام ببنود هذه الاتفاقيات، والسعي للحفاظ على خفض التصعيد وضرورة الالتزام بهذا الأمر في الشمال السوري، وفق تصريح المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، لصحيفة “الوطن” السورية.

مكافحة الإرهاب ومحاربة المجموعات الإرهابية الراديكالية سوف يستمر، ليس فقط في إدلب لكن أيضا في المناطق الأخرى، بحسب تعبير لافرنتييف، وسنواصل القصف واستهداف الإرهابيين والمتطرفين واستهداف مخيمات تدريبهم، لمنع أي تطورات سلبية ومنع زيادة معاناة الشعب السوري.

المسؤول الروسي زعم وجود محاولات تركية لتحويل المنظمة الإرهابية المسماة “هيئة تحرير الشام” والتي تعتبر جزءا من القاعدة، لما يسمى معارضة معتدلة، ويرى أنه على الرغم من قرار الأمم المتحدة الذي يصنف هذه المنظمة على أنها تنظيم إرهابي، فإن تركيا تحظى بدعم عدد من الدول الغربية للمضي في هذه المحاولات.

مخطط تركي عميق

حالة الفصائلية وما يترتب عنها من فوضى وفلتان أمني أدى لتصاعد الغضب الشعبي في المناطق التي تشرف عليها أنقرة شمالي سوريا. ضبط هذه الحالة يجعل أنقرة تبحث عن تشكيل عسكري يتمتع ببنية عسكرية وأمنية وإدارية صلبة ليدير المنطقة.

على عكس تدخلها السابق في حزيران/يونيو اقتصرت تركيا هذه المرة على الوساطة، مما يشير إلى موافقة ضمنية على خطوة “هيئة تحرير الشام”. مع ذلك قد يتغير موقف تركيا إذا فشلت الصفقة وانتشرت الاشتباكات. بحسب تقرير لموقع “المونيتور”.

التقرير لمح إلى أن صمت أنقرة بشأن الاشتباكات ومحاولة الوساطة أدى إلى إثارة تفسيرين متضاربين لحساباتها التفاضلية. الأول يرى أن تركيا تخطط لترك المنطقة تحت سيطرة “هيئة تحرير الشام” وهي تراجع سياستها تجاه سوريا، وفي حالة المصالحة مع دمشق، ستكون الهيئة هي التي ستلقيها أنقرة تحت الحافلة.

بينما يستند التفسير الآخر، بحسب الموقع، إلى فشل تركيا في تحويل الجيش الوطني المعارض إلى تحالف موحد ومنضبط. لم يتم تنفيذ خطة توحيد الفصائل تحت قيادة مشتركة، وتمسك عدد من فصائل الجيش الوطني بعادات النهب. لذلك تستخدم أنقرة “هيئة تحرير الشام” لتنظيم الميدان ولإنشاء قوة متمردة موحدة، في الوقت الذي تسعى فيه إلى نوع من الاتفاق مع دمشق. من شأن ذلك أن يقوي موقف تركيا ويضع دمشق في مواجهة جبهة معارضة قوية بقيادة وإدارة مشتركة.

“تحرير الشام” استغلت الاشتباك بين فصائل في الجيش الوطني لتتقدم، مستغلة في الوقت نفسه، مؤشرات تململ تركي من الفوضى الأمنية والفصائلية في المنطقة من جهة، وربما التمرد الجزئي من جانب فصائل محددة على الإرادة التركية في بعض المواقف، تحديدا “الفيلق الثالث” من جهة ثانية وبالتالي لم تتدخل لمنع تمدد “تحرير الشام” في بداية تقدمها.

ورقة رابحة

بالرغم من أن ملف عودة اللاجئين السوريين، الذين غدوا بين ليلة وضحاها ضمن البرنامج الانتخابي لكل من الحزب التركي الحاكم وأحزاب المعارضة التركية، يشكل أحد أكبر مكاسب تركيا من ضبط الشمال السوري، إلا أنه ليس كل ما في جعبة المقاربة الجديدة من مكاسب.

احتمالية تطبيق اتفاق موقع بين “الفيلق الثالث” أكبر تشكيلات الجيش الوطني و”هيئة تحرير الشام” واردة وذلك برعاية تركية وبمشاركة هيئة “ثائرون للتحرير” التي دخلت بعض تشكيلاتها كقوات فض نزاع بحسب ما كشفته صحيفة “المدن” اللبنانية.

الاتفاق ينص على نقل “تحرير الشام” لتجربتها في الإدارة المدنية في إدلب إلى منطقتي عمليات “درع الفرات” و”غصن الزيتون” في ريف حلب، بحيث تتولى “حكومة الإنقاذ” التابعة لها إدارة المجالس المحلية في عموم المنطقة مع إجراء تغييرات في هيكليتها وأعضائها وبرامج عملها، وتسليمها إدارة مختلف القطاعات الخدمية، من تعليم وصحة وخدمات بلدية ومخابز وغيرها، وإنشاء فروع للمديريات الخدمية الأخرى كتلك الموجودة في إدلب، تدير مخيمات النازحين والإغاثة والمحروقات والإعلام.

الملف العسكري يتضمن إنشاء غرفة عمليات عسكرية موحدة وقيادة عسكرية واحدة تضم كافة التشكيلات العسكرية بما فيها تشكيلات الجناح العسكري التابع لـ “تحرير الشام”، والتي ستكون مقدمة لتفعيل دور وزارة الدفاع بتوليها مسؤولية إدارة كامل الملف العسكري، وتوزيع قطاعات الرباط، وتنظيم الألوية العسكرية، وإدارة قطاعات التدريب والإطعام والانتساب والشؤون الفنية والإدارية والمالية.

تحقيق مكاسب تركيا في تأمين استقرار المنطقة تمهيدا لعودة اللاجئين يتعلق بتمدد جزئي، وليس سيطرة شاملة لـ “تحرير الشام”، نحو المنطقة والتحرك الجديد للأخيرة نحو عفرين يصب في سياق مقاربة تركية جديدة، تتمثل بإيجاد حل تركي شامل للمنطقة الشمالية بغية جعلها ورقة رابحة، تلعب بها تركيا عقب فشل المسار السياسي المتمثل بتفاهمات “أستانا” بحسب حديث الكاتب والمحلل السياسي فراس علاوي لـ “الحل نت”.

لكن عودة اللاجئين السوريين بالطريقة التي أعلنت عنها أنقرة تبدو غير منطقية كون المسؤولين الأتراك لم يشيروا إلى آلية الترحيل، بحسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية. التقرير تساءل على لسان المحلل في معهد “تيباف” للأبحاث في أنقرة، عمر كادكوي، بأي وسيلة سيعيدهم إلى سوريا. لا توجد أي مؤسسة في تركيا تملك الوسائل اللوجستية اللازمة، ومن الصعب أن تزج المفوضية السامية لشؤون اللاجئين نفسها في مثل هذه المغامرة بدون موافقة المعنيين. وتساءل الباحث عن مشروعية قيام تركيا بالبناء على الجانب السوري قائلا “من يملك الأراضي” كل هذه المشاريع “غير واقعية”.

علاوي يلمح إلى أن تركيا تريد خلط الأوراق مجددا، والإمساك بزمام الأمور في الشمال السوري من خلال فصيل قوي، يستطيع إدارة الملفات الأمنية والعسكرية من جهة، وضبط الأمن في المنطقة التي تعاني من التفلت الأمني من جهة أخرى. كما أن تمدد “تحرير الشام” يشكل ورقة ضغط بيد أنقرة يمكن لها أن تستخدمها ضد دمشق أو روسيا، على الرغم من الخطوط الحمراء التي تضعها تركيا أمام الهيئة ولا يمكن للأخيرة تجاوزها.

الأتراك يبدون غير راضين عن وجود فصائل ضعيفة وغير مرغوب بها من قبل الحاضنة الشعبية، لذلك قررت معاقبة الفصائل بترك “تحرير الشام” تتمدد نحو عفرين، وفي ذات الوقت تنظر الهيئة إلى قضية التحرك العسكري ضد الجيش الوطني، بمثابة ورقة تدخلها ضمن اللعبة السياسية كطرف مفاوض.

الموقف الأميركي

تصنيف “هيئة تحرير الشام” على لائحة الإرهاب، قد يشكل حائلا أمام مقاربة تركيا لضبط الوضع في مناطق المعارضة. متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، قال يوم الجمعة 14 تشرين الأول/أكتوبر الحالي، إن واشنطن قلقة بشأن العنف الأخير في شمال غرب سوريا وأثره على المدنيين. وفي تصريحات لقناة “الحرة”، دعا المسؤول الأميركي الذي لم يكشف عن هويته، الأطراف المتناحرة في سوريا إلى خفض التصعيد وتركيز الأولوية على سلامة الشعب السوري.

هذا العائق يمكن تجاوزه بحسب فراس علاوي، وذلك في حال قدمت الهيئة تنازلات، إذ لا شيء ثابت في السياسة، حيث أن “طالبان” تفاوضت مع واشنطن بالرغم من اعتبارها بمثابة النموذج الجهادي المحتذى بمن قبل “تحرير الشام”.

اقرأ أيضا: نفوذ جديد لـ”تحرير الشام” في الشمال السوري

واشنطن لا تحبذ سيطرة الهيئة على كامل مناطق المعارضة فهي ما تزال، وفقا للصحفي إياد الجعفري، لا تثق بها بشكل كاف، لذلك فإن واشنطن قد تضغط على أنقرة، أو ترسل رسائل سلبية حيال تمدد “تحرير الشام”. وقد يعيق ذلك مشروع تمدد هذه الأخيرة. لكن من المستبعد أن تتدخل واشنطن مباشرة في الأحداث الجارية في المنطقة.

التساهل التركي أمام مدرعات “هيئة تحرير الشام” في أثناء سيطرتها على عفرين، يعكس نظرة إيجابية من المسؤولين الأتراك نحو “تحرير الشام”، حيث أتى تمددها بمثابة تقديم أوراق اعتماد قد تمكن الأخيرة من الدخول في سياق مقاربة جديدة لتركيا نحو مناطق المعارضة. اتفاق الفصائل الذي يقضي بإدارة موحدة بقيادة الهيئة قد ينفذ في المستقبل، ما يعني أن الهيئة المصنفة على لائحة الإرهاب ستحوز على رضا أنقرة، لكن الموقف الأميركي يمكن أن يشكل حجر عثرة، ويبقى السؤال في حال أدارت الهيئة كامل مناطق المعارضة، إلى متى يمكن أن يستمر ذلك. وهل ما بعد الاستحقاق الانتخابي التركي صيف العام 2023 ليس كما قبله.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.