منذ العام 2017 وحتى الآن، يمثل ملف انتشار الفصائل المسلحة المقربة من إيران والمنضوية في “الحشد الشعبي“، داخل المناطق المعروفة بالغالبية السنية شمال وغرب العراق، أحد أكثر الملفات السياسية تعقيدا في البلاد. حيث تطالب القوى السياسية الممثلة عن العرب السنة منذ ذلك الحين بسحبها من تلك المناطق، متهمة إياها بارتكاب انتهاكات خطيرة، غير أن القوى الشيعية والفصائل ترفض ذلك بشكل قاطع.

على الرغم من أن هذا الملف يكون حاضرا في كل المباحثات السياسية، وعلى رأس المفاوضات بين القوى السياسية في تشكيل الحكومات، إلا أنه لم تُظهر أي من الحكومات جدّية في تطبيق ذلك، لكن مع الأزمة السياسية الأخيرة التي شهدها العراق لأكثر من عام حول تشكيل الحكومة، ومع شعور القوى التي تملك فصائل مسلحة بتهديد حقيقي لوجودها في السلطة، لاسيما بعد تراجع حظوظها بالانتخابات الأخيرة التي أُجريت في تشيرين الأول/أكتوبر ٢٠٢١، واقتراب غريمها “التيار الصدري” من تشكيل حكومة دون إشراكها، دفعها إلى التعهد للقوى السنية بإخراج قواتها في حال نجحوا بتشكل الحكومة.

تلك الوعود أُدرجت في البرنامج الحكومي الذي تشكلت بموجبه حكومة محمد شياع السوداني الجديدة، والتي تعهدت بإنهاء المظاهر المسلحة في المناطق ذات الغالبية السنية وسحب الفصائل الشيعية منها، وجاء ذلك استجابة لما طالب به “تحالف السيادة” الممثل الرئيس للعرب السنّة في البرلمان العراقي

وبعد نحو ثلاثة أسابيع من تشكيل الحكومة الجديدة وحصولها على ثقة البرلمان، وجه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أمس الأربعاء بإلغاء التدقيق الأمني المفروض في المدن المحررة منذ سنوات، وهو الذي بموجبه يحدد العوائل التي تود العودة إلى ديارها بعد نزوحها عام 2014 هربا من بطش تنظيم “داعش“.

وأصدر المجلس الوزاري للأمن الوطني قرارا بإنهاء العمل بالتدقيق الأمني لكن لم يُطبق لغاية الآن، كما أصدرت مستشارية الأمن القومي قرارا بوقف العمل بإجراءات التدقيق الأمني لمراجعي الدوائر الحكومية لكن لم ينفذ أيضا، ومع ذلك فإن ملف تواجد الفصائل الشيعية في المناطق السنية يبدو أنه تراجع إلى أسفل سلم أولويات الحكومة التي بدأت تركز أكثر على الملفات الخدمية والاقتصادية وتعزيز العلاقات الخارجية.

اقرأ/ي أيضا: تغييرات المناصب العليا في الحكومة العراقية الجديدة.. ماذا عن الدولة العميقة؟

حقيقة أم محاباة؟

الجدية والواقعية في التعامل مع التعهدات، في ظل الرغبة الجامحة لدى تلك الفصائل في استمرار السيطرة على الملف الأمني لتلك المدن والتي عبّرت عنها في مناسبات سابقة عدة، أثارت الشكوك حول مدى الالتزام بذلك، وهو ما علّق عليه أحمد العزاوي السياسي المستقل من محافظة ديالى التي تخضع بعض المناطق منها لسيطرة تلك الفصائل، قائلا إن حديث القيادات السنية حول ملف تواجد الفصائل المسلحة داخل المناطق المحررة يدخل في إطار المتاجرة السياسية“، مبينا أن “الموضوع لا يتجاوز مدى ضبط العلاقة السياسية داخل ائتلاف إدارة الدولة الذي يضم تحالف الإطار وتحالف السيادة والحزبين الكرديين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني“.

العزاوي قال في حديث لموقع “الحل نت“، إن “المجموعات المسلحة داخل المدن السنية تستثمر دورها في زيادة إمكانياتها ونفوذها المالي والأيديولوجي في فرض واقع جديد في تلك المدن“، مشيرا إلى أن “سحب تلك المجموعات من تلك المناطق بحاجة إلى بصمة دولية“.

العزاوي أضاف، إن “هذا الأمر بالإضافة إلى إعادة النازحين والمغيّبين يدخل في باب الاستعراض السياسي ووسائل الضغط التي تستخدمها بعض الأطراف السنية على صانع القرار داخل البيت الشيعي للحصول على مكتسبات كبيرة“، لافتا إلى أن “الإطار قد يكون قد أعطى تعهدات شفوية لتحالف السيادة قبل تشكيل الحكومة وإذا حدث موعد التنفيذ يحدث انقلاب على تلك الاتفاقات أو الدفع باتجاه موقف معين

المختص بالشأن السياسي، أكد أنه “من الصعب تنفيذ تلك الاتفاقات نظرا إلى القوة التي تتمتع بها تلك الجماعات التي استطاعت غرس جذورها عميقا“، مبينا أن “هناك تخوفات شعبية ومجتمعية في حال انسحبت تلك الجماعات من رد فعل داعش، فضلا عن حصول تصفيات سياسية والاستفراد بالمجتمع من قِبل شرائح سياسية سنية تحاول أن تفرض نفسها على المشهد السني“.

كما لفت إلى أن “الموضوع برمته كما أشرت أعلاه لا يخرج من إطار الضغوط السياسية للحصول على المكتسبات، بالتالي لا شك ستجد الطرف الأخر يحاول أن يبين لشريكه أنه ملتزم بالتعهدات خصوصا وأن تشكيل الحكومة لا يزال في وضعه الهش التي تسعى قوى الإطار إلى تثبيته والتأكد من تماسكه حتى تبدأ بالإجهار بمواقفها الحقيقية والتي حينها لا تستطيع القوى السنية فعل شي حياله، لذلك يبقى الأمر حاليا في إطار المجاملات“.

اقرأ/ي أيضا: تغيّر في سياسة الميليشيات العراقية عام 2022.. ما الأسباب؟

اشتراطات سنية

 “تحالف السيادة” الذي يمثل السنّة في العراق كان قد اشترط قبول المشاركة في الحكومة، إذا وافق “الإطار التنسيقي” على سحب الفصائل والميليشيات الشيعية من المناطق المحرَرة من سيطرة “داعش” وإصدار قانون للعفو العام وعودة سكان ناحية جرف شمال بابل، وإخراج الفصائل المسلحة منها.

في حين تنتشر الفصائل الشيعية في مناطق واسعة من أطراف محافظات كركوك وصلاح الدين والأنبار ونينوى، وديالى، بينما عاد رئيس تحالف “السيادة” خميس الخنجر من جديد إلى التأكيد على ضرورة تنفيذ الاتفاق الذي جرى بين “التحالف” و“الإطار التنسيقي” الممثل لقوى وفصائل شيعية بشأن حل الميليشيات وإخراج الحشود من المدن السنية وغلق المكاتب الاقتصادية للأحزاب

الخنجر ومن خلال كلمة ألقاها بمحافظة نينوى، حاول طمأنة سكانها بأن الأمر يمضي قدما باتجاه تنفيذ هذا الاتفاق، عبر تأكيده مرات عدة على أن “تحالف السيادة” عازم على إخراج جميع “الميليشيات والحشود من المدن ووضعها في معسكرات محددة في حدود المحافظات الشمالية والغربية.

أما على أرض الواقع، فإن هناك رفضا كبيرا داخل قوى “الإطار التنسيقي” لتنفيذ هذا الاتفاق، بل إن بعضها نفى وجود مثل هذه الاتفاق من أساسه ليؤكد بشكل غير مباشر أن هذا الملف أصبح بعيداً من الحكومة العراقية في الوقت الحالي.

تشكيل الحكومة الجديدة

السوداني البالغ 52 عاما، يخلف مصطفى الكاظمي الذي تولى رئاسة الحكومة في أيار/مايو 2020، في حين كُلّف السوداني وهو محافظ ووزير سابق منبثق من الطبقة السياسية الشيعية التقليدية، في 13 تشرين الأول/أكتوبر بتشكيل الحكومة، من قِبل رئيس الجمهورية الجديد عبد اللطيف رشيد مباشرة بعد انتخابه. وهو مرشح القوى السياسية “الموالية” لإيران والمنضوية في “الإطار التنسيقي“.

تولي الحكومة الجديدة مهامها يأتي بعد عام من أزمة سياسية خانقة تجلت أحيانا بعنف في الشارع، نتيجة للخصومة بين “التيار الصدري” و“الإطار التنسيقي”، الذي يضم خصوصا كتلة دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وكتلة الفتح الممثلة لـ “الحشد الشعبي“.

الأزمة كانت نتيجة صراع محتدم ما بين “التيار الصدري” بزعامة رجل الدين القوي مقتدى الصدر، وتحالف “الإطار” الذي عطّل مشروع الصدر الذي حلت كتلته أولا في الانتخابات الأخيرة التي أجريت في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، والذي كان يسعى لتشكيل حكومة “أغلبية وطنية” تستثني مشاركة كل أطراف “الإطار” أو بعضها

الصراع دفع مؤخرا في نهاية آب/أغسطس الماضي الصدر إلى اعتزال السياسة نهائيا، وذلك بعد ما وجه كتلته البالغ عدد أعضائها 73 نائبا بالاستقالة من البرلمان، بعدما فشلت جهوده في تشكل حكومة “أغلبية“، ليعلن أنه لن يشترك بحكومة “توافقية – محاصصة” مجددا، وهي التي كانت السبب في غضب الشارع العراقي الذي تجلى في احتجاجات العام 2019، وأدت إلى استقالة حكومة عادل عبد المهدي، كما أنها السبب في سوء الإدارة والفساد الذي أنهك العراق والعراقيين طيلة الـ 19 عاما الماضية.

اقرأ/ي أيضا: جدل عراقي بشأن استحداث كليات طب أهلية.. ما علاقات الميليشيات؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.