بعد أن كشف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأربعاء الماضي، إنهاء مهمة قوة برخان لمكافحة الجهاديين في أفريقيا بشكل رسمي، ومع ما تعرض له النفوذ الفرنسي في القارة السمراء التي كانت تبسط سيطرتها على ثلثها منذ مطلع القرن العشرين، بات الأسئلة تدور حول طبيعة ذلك النفوذ التاريخي.

خلال آب/أغسطس أعلنت فرنسا سحب آخر جنودها من دولة مالي بعد تسع سنوات من الوجود العسكري في هذا البلد الأفريقي، وذلك بعد حرب خاضتها ضد الإرهاب، وهو ما سبقه تقلص للتأثير في عدد من دول المنطقة التي وما هو اقتصر على نحو ثلاثة دول فقيرة وهي بنين والكاميرون وغينيا بيساو.

يأتي ذلك بعد أن ظل حضور فرنسا قويا ومهيمنا على مستعمراتها الإفريقية القديمة بأشكاله السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، وهي التي بسطت سيطرتها على نحو 19 دولة إفريقية من أصل 54، التي بالرغم من الاستقلال الشكلي لهذه الدول منذ حوالي ستة عقود إلا أن فرنسا ظلت هي المتحكم الفعلي فيها، ذ كانت نحو 27 دولة إفريقية تعتمد اللغة الفرنسية على حساب لغاتها الأم، وهو ما جعل منها أكبر فضاء للفرنسية خارج فرنسا.

فقد دفعت موجات الانقلابات الأخيرة في الساحل وغرب إفريقيا، التي ارتبطت بالأزمة الاقتصادية الناجمة عن جائحة كوفيد-19، وتصاعُد المد الإرهابي في المنطقة، عددا من الدول الأفريقية إلى إعادة النظر بالعلاقة مع فرنسا والتحوُل إلى شركاء خارجيين قادرين تعتقد أنهم قادرين على مساعدتهم في أزماتهم.

اقرأ/ي أيضا: السياحة في الخليج تزيد من حصتها السوقية الدولية

فرنسا بمواجهة الرفض الإفريقي

تجسدت تلك الرغبة ضد النفوذ الفرنسي في الفترة الأخيرة في تشاد مؤخرا على خلفية اتهامات بالتدخل في شؤون البلدان، إضافة إلى الاحتجاجات المناوئة للوجود الفرنسي في تشاد، جاءت مشابهة لما حدث في مالي من مظاهرات احتجاجية شارك فيها فئات شعبية مختلفة تنديدا بالحضور الفرنسي في بلادها. الأمر الذي يؤكد التحول الكبير الذي طرأ على النفوذ الفرنسي في عدة بلدان إفريقية، فبالإضافة إلى مالي وتشاد تواجه فرنسا رفضا كبيرًا في بوركينافاسو، وإفريقيا الوسطى، وليبيا، والجزائر.

في غضون ذلك، فإن النفوذ الفرنسي في إفريقيا يواجه ممانعة بعض الفاعلين المحليين؛ حيث مبادرات الاتحاد الإفريقي من خلال مجلس أمنه وقوته المشتركة تهدد النزعة التدخلية الفرنسية، إذ صارت المنظمة القارية تمسك بزمام إنشاء عمليات السلام، وفضلا عن ذلك، ترى فرنسا أن نيجيريا قوة إفريقية تهدد مصالح باريس وبقاءها مركز القوة الرئيسي في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

لكن على الرغم من ذلك، ومع انسحاب القوات الفرنسية من القارة السمراء أو كادت، لكن باريس فرضت نوعا من الأبوية السياسية والاقتصادية، فلم تنسحب من مستعمراتها إلا بعد أن فرضت عليها لغتها لتصبح الفرنسية اللغة الرسمية ولغة التعليم في ما يقارب نصف الدول الإفريقية، مما يعني أن ما يواجهه النفوذ الفرنسي وبالرغم من حجم التحديات إلا أنه لا يزال يحكم قبضته على مفاصل مهمة.

كما ما فرضته فرنسا على هذه الدول من التعامل بالفرنك الإفريقي الذي تتم طباعته وتحديد قوته الشرائية من جانب باريس، إضافة إلى الاستحواذ على أهم الأصول الاقتصادية والتحكم في الخدمات الرئيسية مثل إمدادات المياه والكهرباء والهاتف، فضلا عن النقل والموانئ والمؤسسات المصرفية وحتى التجارة والزراعة، لا يزال يؤشر حجم النفوذ الفرنسي في إفريقيا. وهو ما وضع سؤال واقعيا في طل هذا الملف الشائك؛ ما هو طبيعة النفوذ الفرنسي في إفريقيا حاليا.

اقرأ/ي أيضا: نتنياهو نحو تشكيل حكومة جديدة.. ما أبرز الملفات التي تواجهه؟

فرنسا وإحكام القبضة على إفريقيا

وفقا لاتفاقيات عقدتها فرنسا مع هذه الدول، يلتزم البنك المركزي لكل دولة إفريقية بالاحتفاظ بنسبة كبيرة قد تتجاوز 50 بالمئة من احتياطياته النقدية من العملات الأجنبية في حساب تجاري بالبنك المركزي الفرنسي، حيث لا تملك هذه الدول الحق في وضع يدها على هذه الأموال أو استغلالها، وإذا اضطرت فليس أمامها إلا الاقتراض من الخزانة الفرنسية.

ولفهم طبيعة ذلك تحدث موقع “الحل نت”، مع الخبير في العلاقات الدولية، مراد فاضل، وقال إن “حجم النفوذ الفرنسي في القارة الإفريقية لا يمكن الحديث عن انتهائه بهذه السهولة، بخاصة وأنه يمتد إلى أكثر من قرن وله تشعبات اقتصادية وثقافية، بيد أنه لا يمكن نكران أن فرنسا تتراجع في مناطق سيطرتها ولكن هذا التراجع ستحكمه عدة أمور منها من الذي سيملأ الفراغ الفرنسي وما مستوى التعاون الذي يمكن أن يقدمه، بالتالي وحتى الآن ومع المنافسة الشرسة التي تشهدها المنطقة بين روسيا وتركيا وفرنسا، لكن الدور الروسي لا يزال هو الأبرز”.

فاضل أوضح أن “فرنسا تدرك أنّ خسارتها لإفريقيا تدريجيا لا تعود إلى مواقف الأنظمة السياسية، بل ترجع في حقيقتها إلى خسارتها للرأي العام عموما، إذ أصبحت الهوة عميقة بين الشّعوب الإفريقية والسياسات الرسمية الفرنسية، إذ تجاهلت فرنسا تطلعات هذه الشعوب، واستهانت بالتقارب معها، وركزت على توطيد أركان الأنظمة التي هي في طبيعة الحال بعيدة عن شعوبها وهمومهم”.

فرنسا مؤخرا تكاسلت بالتعامل مع الشعوب الإفريقية، كما يرى خبير العلاقات الدولية، ويؤكد هو ما سمح لقوى دولية أخرى أن تنبري إلى هذا الرفض المتصاعدة بين الشعوب الإفريقية تجاه فرنسا، لتسارع لتقديم نموذجا بديلا في العلاقات المحترمة مع هذه الدول، فتفادت الرهان على العلاقات الفوقية الاستعلائية مع الأنظمة الحاكمة، واتجهت إلى التعاون معها من أجل المصالح الحقيقية المتبادلة، بينما استمرت فرنسا في النوم في وهم العسل بصيغ العلاقات التقليدية، ولم تشتغل على مراجعتها وتطويرها على أساس السيادة الكاملة والمصلحة المشتركة والاحترام المتبادل، وهو ما سمح بذلك التراجع.

فرنسا وتدارك المتغيرات

بطبيعة الحال، فاضل لفت إلى أن فرنسا حاليا تحاول الحفاظ على موطئ قدم مهيمن في إفريقيا لخدمة مصالحها، وللحفاظ على معقلها للهيبة المرتبطة بإرث السيادة التاريخية التي مارستها على القارة، وهو ما يعني أن هذه العلاقات تحتفظ بطابع استعماري في الأساس، ففي نهاية المطاف استبدال النفوذ الكبير بالحكم المباشر لا يشكل انفصالا حاسما عن الماضي، وهكذا فالعادات الاستعمارية القديمة لا تتلاشى عندما يتعلق الأمر بالمصالح الفرنسية بإفريقيا، على حد تعبيره.

في أحدث تطور حول هذا الملف، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان قد قال خلال إعلان انهاء عمليات بورخان، يجب أن تكون تدخلاتنا محدودة زمنيا، كما لا نعتزم أن نبقى ملتزمين دون حدود زمنية في عمليات في الخارج، مضيفا: سيتواصل دعمنا العسكري للدول الإفريقية في المنطقة، لكن وفق الأسس الجديدة التي حددناها مع هذه الدول، وسيتكيف دعمنا مع مستوى كل دولة حسب الحاجات التي سيعبر عنها شركاؤنا.

يتعين على باريس أن تتعامل مع رأي عام إفريقي معاد لها بشكل متزايد، حيث ينمو تأثير القوى المنافسة، عبر شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الرسمية، وتسعى فرنسا حاليا إلى مواصلة عملها العسكري في إفريقيا، لكن بتكتم، إذ لم يطلق بعد أي اسم جديد للقوات العسكرية الفرنسية المنتشرة حاليا في إفريقيا.

من جهته، ماكرون أكد في خطابه الأربعاء “لن نكون متفرجين صبورين” يشهدون انتشار أخبار زائفة أو سرديات معادية لفرنسا، مشيرا إلى أن “تأثير” فرنسا سيرقى إلى مستوى الوظيفة الاستراتيجية التي ستعمل عليها وزارة الدفاع الفرنسية، كما أشار إلى أن باريس ولندن ستعقدان قمة حول شؤون الدفاع في الربع الأول من عام 2023.

اقرأ/ي أيضا: بعد الانسحاب من خيرسون.. ماذا يخطط الجيش الروسي؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة