الاحتجاجات التي تشهدها إيران، تدخل الشهر الرابع دون توقف من جانب المحتجين الذين ينددون بسياسات النظام غير الداعمة للحريات الاجتماعية، ويدعون لإسقاطه. وبالرغم من صدور قرار حل “شرطة الأخلاق”، إلا أن هذا القرار الذي صدر يوم 3 كانون الأول/ديسمبر الحالي، أثار بعض الشكوك حول الدلالات والتداعيات المترتبة عليه، والآلية التي سيتم تطبيقها لفرض مراقبة و”وصاية” النظام على الشعب.

من جهة ثانية، حمّل محافظ “البنك المركزي الإيراني” علي صالح عبادي، الاحتجاجات المناهضة للحكومة مسؤوليةَ انخفاض العملة إلى مستويات قياسية، وقال إنَّ “أحداث الشهرين الماضيين” أسهمت، إلى جانب العقوبات الأميركية، في انخفاض قياسي للعملة الإيرانية.

استمرار الاحتجاجات، على الرغم من القرار المُعلن بحل “شرطة الأخلاق”، وانخفاض العملية الإيرانية، يدعو للتساؤل حول مصداقية قرار حل “شرطة الأخلاق”، والتأثيرات الاقتصادية للاحتجاجات وما هو مستقبلها.

“شرطة الأخلاق” بين الحل والتجميد

منذ بداية الاحتجاجات لم يبد النظام الإيراني أي رغبة تدل على استعداده للاستجابة لمطالب المحتجين، بل واصل قمعهم وإلقاء اللوم على قوى أجنبية معادية، لكن خلال الأيام التي سبقت صدور القرار الأخير، بدا أن منصات وسائل الإعلام الحكومية تتبنى لهجة أكثر تصالحية، معربة عن الرغبة في التعامل مع مشاكل الشعب، وهذا ما دفع السلطات الإيرانية لإصدار القرار بحل “شرطة الأخلاق”.

لكن هناك بعض الدلالات التي أثارها هذا القرار، من أبرزها، وجود انقسام حول تفسير قرارات النظام الأخيرة، رغم ما تم تفسيره من جانب البعض على أن القرار بمثابة تراجع من قبل النظام أمام الضغط الشعبي المستمر ضده، كما فسّره البعض الآخر على أنه قد يكون محاولة من جانب النظام لتهدئة الاضطرابات الداخلية دون تقديم تنازلات حقيقية للمحتجين.

أيضا هناك غموض حول سياسات النظام الإيراني، ألغت السلطات المعنية “دوريات الإرشاد” من دون أي تفسير للكيفية التي ستعتمدها الدولة لمراقبة السلوكيات الاجتماعية، مما أثار شكوكا حول مدى إمكانية اعتبار هذا القرار تحول كبير في السياسة المتّبعة، خاصة أنه لم يعالج مطالب المحتجين بإلغاء قواعد اللباس الإلزامي تماما، أو التعامل مع قائمة واسعة من المظالم المتعلقة بالحريات المدنية والحوكمة وسيادة القانون.

كما بدا واضحا عدم رغبة النظام بتقديم المزيد من التنازلات، حيث لم يصف قرار حل “شرطة الأخلاق” بـ”التنازل”، خشية أن يؤدي أي تنازل جديد إلى إغراء الرافضين والمحتشدين ودفعهم إلى فهم الرسالة على أنها توحي بأن النظام بدأ في التنازل تحت الضغوط، وأن المزيد من الضغوط ستؤدي إلى المزيد من التنازلات، ومن ثم يمكن أن يكون قرار إلغاء “شرطة الأخلاق” محفزا للمزيد من الضغوط.

وجدان عبدالرحمن، الخبير في الشؤون الإيرانية، يرى خلال حديثه لـ”الحل نت”، أن هناك تباينا كبيرا حول حل “شرطة الأخلاق”، فهناك بعض المسؤولين الإيرانيين الذين بينوا أنه لم يصدر قرار رسمي بهذا الحل، فيما أشار آخرون إلى أنها لا تزال موجودة، كما أعلن البعض بصراحة عن استمرار وجودها، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي تم تداول أن قرار الحل، ما هو إلا تكتيك لإخماد الحراك ثم ستعود لعملها بعد ذلك.

قد يهمك:إيران ترفع حالة التأهب في أكثر من 50 مدينة.. ما القصة؟

عبدالرحمن، يؤكد أن “شرطة الأخلاق” تم تجميد عملها مؤقتا ريثما تهدأ الأوضاع ثم ستعود لعملها، مشيرا إلى أن البرلمان الإيراني أعلن بوضوح أن السلطات ستعيد فرض ارتداء الحجاب على من لا ترتديه من النساء الإيرانيات، ولكن حتى الآن لم يؤدي هذا القرار إلى تهدئة الشارع، ولا تزال الاحتجاجات مستمرة.

انهيار في الاقتصاد

العملة الإيرانية تراجعت إلى مستوى منخفض جديد مقابل الدولار، يوم السبت الفائت، إذ حاول الإيرانيون الساعون للعثور على ملاذات آمنة لمدّخراتهم شراءَ الدولار أو العملات الأجنبية الأخرى أو الذهب. وفقَد الريال الإيراني ما يقرب من 20 بالمئة من قيمته منذ اندلاع الاحتجاجات على مستوى البلاد قبل 3 أشهر، وجرى تداول الدولار بما يصل إلى 395 ألفا و600 ريال في السوق غير الرسمية، ارتفاعا من 386 ألفا و800 ريال، يوم الجمعة الفائت، وفقاً لموقع الصرف الأجنبي “بونباست دوت كوم”.

عبدالرحمن، يوضح أن الآثار الاقتصادية للاحتجاجات مدمرة بشكل كبير للاقتصاد الإيراني المتهالك أساسا، في ظل العقوبات الغربية المستمرة، وتلك التي فُرضت بعد اندلاع الاحتجاجات ومواجهتها بالقمع من السلطات الإيرانية.

فالاحتجاجات نتج عنها عواقب خطيرة أثّرت على العلاقات التجارية والاقتصادية لإيران مع عدة دول غربية، أيضا ساهمت الاضرابات التي شهدها الداخل الإيراني بتراجع الاقتصاد بشكل كبير، وأيضا موضوع قطع الأنترنت أضر بالاقتصاد بشكل كبير، فهناك العديد من المؤسسات الاقتصادية والعلمية التي توقفت بسببه، كما ساهم قطع الإنترنت بحرمان نحو 11 مليون إيراني من الاستفادة من العمل عبر الإنترنت، وكل ذلك أثّر سلبا وساهم في الانهيار الحالي.

إيران إلى أين؟

على عكس التوقعات بعد قرار حل “شرطة الأخلاق” ازدادت حدّة الاحتجاجات بدل أن تهدأ، حيث يمكن اكتشاف الدور الكبير الذي لعبته المرأة الإيرانية في الاحتجاجات، ورغم أن حدث الحجاب فجّر الحراك في الداخل الإيراني، إلا أنه لم يكن الإشكالية الوحيدة التي تنحصر فيها المعضلة، فقد كان لتطور خطاب المحتجين برفع شعارات هادفة إلى تغيير سياسي على مستوى النظام وهيكله الديني، ومناهضة رأس الدولة مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي، دلالة على أن الاحتجاجات ليست ضد الحجاب بمعناه الديني ولكن بمعناه السياسي الذي يعني حجب الشعب عامة عن حقوقه الأساسية.

الاحتجاجات خلقت أيضا حالة انقسام بين التيارات السياسية، فقضية الحجاب مسألة حساسة في إيران يتواجه فيها معسكران، هما المحافظون الذين يصرون على بقاء قانون 1983، والتقدميون الذين يريدون منح المرأة الحق في اختيار ارتداء الحجاب أو عدم ارتدائه.

من جهة ثانية، لم تغير طهران من أساليب قمعها للمحتجين والتي أدت إلى سقوط عشرات القتلى ومئات المصابين، حيث أفاد “مجلس الأمن القومي” أعلى هيئة أمنية في إيران بأن أكثر من مئتي شخص قتلوا في الاضطرابات، وأعلنت منظمة “حقوق الإنسان في إيران” ومقرها النرويج في 29 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي أن 448 شخصا على الأقل قتلوا بأيدي قوات الأمن خلال الاحتجاجات المتواصلة في مختلف أنحاء البلاد، وتم توقيف الآلاف.

كما جدّد المحتجون الجدل الخاص بضرورة تعديل الدستور ليتناسب ومستجدات العصر، لما يرونه من أن الدستور الإيراني الصادر عام 1979 قد خضع لمراجعة شاملة عام 1989، واصفين تلك المرحلة بأنها “الجمهورية الأولى” ولكن البلاد تمر بما يسمونها بـ”الجمهورية الثانية” خلال أكثر من 3 عقود، وأن الوقت قد حان لمراجعة الدستور مرة أخرى والتحول إلى “الجمهورية الثالثة”.

مع ذلك كله فالاحتجاجات لن تتوقف، وإن خفّت في بعض الأحيان نتيجة القبضة الأمنية، حيث يرى وجدان عبدالرحمن، أن التكتيكات في الاحتجاجات بدأت تتغير لأن النظام يستخدم الرصاص الحي في الشوارع ما جعل المحتجين يتراجعون أحيانا، ولكن مع اللجوء لأساليب بديلة منها الإضرابات العامة، وحرق المقرات الأمنية والعسكرية المختلفة، واستهداف الحوزات الدينية التي بقيت صامتة واعتبرها المحتجون متواطئة مع النظام ضد الشعب.

أيضا فإن هذه الاحتجاجات مستمرة في ظل قيام النظام الإيراني بفتح ملفَّين هما في الأصل قائمان، وهما الملف النووي الذي تسبب بتعقيد المشهد بين إيران والغرب، وانخراط إيران بدعم روسيا في غزوها لأوكرانيا خاصة بتزويدها بالطائرات المسيّرة ما اعتبره الغرب خطا أحمر في مواجهة “الناتو”.

لذلك فإن القادم بالنسبة لإيران هو استمرار الاحتجاجات دون توقف كما حصل في المرات السابقة، وهناك عاملين يجعلانها مستمرة. عامل خارجي نتيجة الدعم الغربي لها للضغط على نظام طهران في مختلف الملفات، وعامل داخلي هو الإضرابات التي باتت تقوم بها قطاعات مختلفة ومهمة.

حالة الغليان التي يشهدها الشارع الإيراني سوف تستمر في ظل استمرار بحث النظام عن الآلية التي يحتوي بها غضب المحتجين دون المساس بالثوابت التي قام عليها، وهذا ما أجج مطالب المحتجين لترتفع مطالبها من مجرد إصلاحات إلى المطالبة بتغيير النظام ورأسه المرشد الأعلى الخامنئي.

إقرأ:عسكرة الملاحة الدولية.. إستراتيجية إيران لابتزاز الغرب؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.