أمرٌ لا شك فيه، أن معدلات الجريمة في البلدان تتزايد طرديا مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، وهي الحالة التي تشهدها لبنان منذ العام 2019، عندما عصفت أكبر أزمة اقتصادية بالبلاد حتى الآن. الوضع الذي انعكس على معدلات الجرائم من حيث السرقات والسلب التي باتت تحصل بطرق مختلفة، حيث ارتفعت بشكل كبير وغير مسبوق.

أوضاع زادت من حدّة مخاوف اللبنانيين، لتدفعهم إلى أخذ احتياطاتهم الأمنية، عَبر اقتناء أسلحة ووسائل الحماية الفردية المتنوعة، أو عَبر تحصين منازلهم وتدعيم أبوابها بالأقفال وتركيب أنظمة كاميرات المراقبة، في وقت تصاعدت فيه تحذيرات بعض السياسيين والمتابعين من إمكانية انفلات الوضع الأمني نتيجة التدهور السريع لسعر العملة المحلية وانهيارها إلى مستويات قياسية، ما قد يسبب حالة اضطرابات خطيرة في البلاد.

علاوة على القلق الذي يطبع على يوميات اللبنانيين، بعد أن زعزع الانهيار ركائز عيشهم الأساسية، وامتد إلى أمنهم الفردي والمجتمعي إثر ارتفاع معدلات الجرائم، وازدياد العنف نتيجة تفاقم الحاجات الحياتية وممارسات السلطة وضرب الطبقة الوسطى وتبديد آليات المحاسبة، تتصاعد المخاوف من أن يمتد ذلك إلى أبعد من هذا الحد ليُحي المخاطر الأمنية.

لبنان ومؤشرات التدهور الأمني

في الأثناء، تواصل نسبة الجرائم والسرقات ارتفاعها في لبنان، حيث بات يعاني نحو 80 بالمئة من اللبنانيين من فقر متعدد الأوجه وفق تقديرات “الأمم المتحدة”، فيما تتخطى نسبة البطالة 40 بالمئة، وذلك بعد مرور عامين ونصف العام على أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ البلاد، التي صنّفها “البنك الدولي” من بين الأعقد في تاريخ العالم، حيث أدت إلى انهيار العملة المحلية، إلى مستويات قياسية أمام الدولار ليصل سعر الدولار الواحد إلى 42000 ليرة، الأمر الذي أفقد رواتب اللبنانيين قدرتها الشرائية.

اقرأ/ي أيضا: الانفتاح العربي على العراق.. نقطة شروع لتوازنات دولية جديدة؟

إذ سجلت المؤشرات الأمنية خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الماضي ارتفاعا طفيفا، حيث تُظهر مقارنة بين شهري أيار/مايو 2021، وذات الشهر من عام 2022، ارتفاعٌ في جرائم سرقة السيارات بنسبة 19 بالمئة، وفي جرائم القتل بنسبة 20 بالمئة، بينما تراجعت جرائم السرقة بنسبة 33 بالمئة، وحالات الانتحار بنسبة 38.5 بالمئة، وهذه الأرقام بالرغم من تحسّن المؤشرات الأمنية بشكلها العام خلال الأشهر العشرة الأولى من العام الماضي مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2021.

في حين ارتفعت نسبة سرقة السيارات بين شهري أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر الماضيين من 64 إلى 67 سيارة، بينما انخفضت جرائم القتل من 21 إلى 13 جريمة، والسرقة ارتفعت من 260 حالة إلى 280، لكن هذه الأرقام في حال مقارنتها مع عام 2019 قبل تأزم الوضع في لبنان فسيتبين ارتفاعها بشكل كبير، حيث ارتفعت سرقات السيارات من 514 سيارة أصبحت إلى 1317 في 2021، أما عدد القتلى ارتفع من 109 إلى 207 قتيل، والسرقة من 1610 حادثة إلى 5940.

أرقام تشي بمدى سوء الأوضاع في لبنان، وإلى أي مدى يمكن أن تتحول، كما تشكل مؤشرا خطيرا لا يمكن التّكهن حوله، ما أثار قلقا كبيرا وجدلا لا حدود له في البلاد المنقسمة على نفسها سياسيا، تاركة أسئلة عدّة حول مستقبل البلاد، مثل ما تأثير ذلك على الجانب الأمني، وهل يمكن أن يؤدي هذا المشهد إلى استمرار ارتفاع مستويات الجريمة، وإذا ما كانت هناك سُبل كفيلة لإيجاد مخرج للأزمة.

مصير لبنان الأمني

حول ذلك أوضح الخبير الاقتصادي بيار خوري بالقول، إن الجريمة وتشكيلاتها المنظمة الناتجة عن الانفلات الأمني تتوسع في لبنان منذ بداية انهيار الدولة أواخر عام 2019، نتيجة لتدمير منهج ودور الدولة ووظائفها الإدارية والاجتماعية، التي حلت مكانها تدريجا مجموعات مصالح تسطو على الحق العام، وهو ما أدى إلى إشكالية متنامية من الخروج على القانون وأطر الدولة، مبينا أن ضعف الأجور وعدم توفر الحد الأدنى المطلوب لإدارة الأمن من محروقات أو بدل نقل مناسب للعسكريين كان سببا في ذلك أيضا.

خوري وفي حديث لموقع “الحل نت”، أشار أيضا إلى أن غياب فرص العمل، وعدم توفر سلطة رقابية حازمة وقادرة على تدارك الأوضاع كانت السبب في تدرّج أجزاء متنامية من الشعب في الأنشطة غير الشرعية لما تمثله من منفذ سهل وربما الوحيد للحصول على الأرزاق، مشيرا إلى أن هذا يعيدنا إلى المخاطر الأمنية التي تطرحها المرحلة الحالية والتي تميزت أولا بالعجز عن تجديد مؤسسات السلطة من مجلس الوزراء المنتهية ولايته والذي يدور صراع حول أحقية اجتماعه من عدمه، وإلى العجز عن انتخاب رئيسٍ للجمهورية، وإلى ما حصل مؤخرا من انشقاق في صفوف القضاء على إثر استدعاء القاضي العدلي المولج في التحقيق بكارثة مرفأ بيروت. 

اقرأ/ي أيضا: عودة ملف المفقودين الأردنيين في سوريا إلى الواجهة.. هل يفرق الجارتين؟

أضافة إلى تلك المخاطر السياسية والاجتماعية التي تهدد الأمن اللبناني، فإن الخبير الاقتصادي، لفت إلى أن أسعار صرف الدولار المنفلتة بشكل غير بريء يمكن أن تعزز رسم صورة مشهد أمني مرعب في المستقبل، خاصة إذا اصطدمت جموع الغاضبين بوجه المؤسسة الأمنية مع ما يحمله ذلك من احتمال استقطاب جديد في البلد حول دور المؤسسة الأمنية والتحكيم بشرعيتها، لافتا إلى أنه لم يعد هناك إمكانية لإيجاد مخرج للأزمة الحالية، بدون دفع تكاليف باهظة الثمن.

خوري بيّن، أن لبنان يشهد يوميا شلل إضافي على صعيد المجال الاقتصادي والاجتماعي، إلى جانب إعادة تشكيل مؤسسات الدولة، كما أن القوى السياسية الداخلية على ما يبدو لا توجد لديها النّية في إيجاد حلول للأزمة، تاركة الوضع ينزلق إلى الأسوأ بغية الحفاظ على مصالحها، لافتا إلى أن الحل الوحيد لمنع لبنان من انتكاسة أمنية كبيرة، هو تنازل قوى السلطة عن امتيازاتها ولمصلحة إعادة بناء الدولة، وهو أمر بعيد المنال، على حدّ تعبيره

من هنا بدأت أزمة لبنان الاقتصادية

 الأزمة الاقتصادية في لبنان تعود إلي تداعيات الليرة اللبنانية التي تعاني منذ عقود أمام العملات الأجنبية، لاسيما ما بعد العام 1997، ما دفع الحكومة إلى تثبيت سعر العملة لتفادي المزيد من الانهيار، ولكن هذه السياسة شكّلت عبئا على “البنك المركزي”، الذي أصبح مسؤولا عن تعويض فارق السعر بين الدولار والليرة، ما اضطر البنك للاقتراض من البنوك الخاصة، بعد نفاذ العملة الصعبة لديه، ليرتفع الدين الداخلي، وهو ما شكل بدايات التدهور عام 2019.

كذلك يعاني لبنان من تراجع كبير في الاحتياطي النقدي القابل للاستخدام في العامين الأخيرين، إذ بلغ 19 مليار دولار خلال عام 2020، مقابل 25.5 مليار دولار في عام 2018، ومع ركود النمو الاقتصادي والأزمة، واجهت الحكومة اللبنانية رفضا قاطعا لمقترحاتها بشأن تقليص أجور العاملين في الدولة ليقابل الشارع تعهداتها بتنفيذ إصلاحات طال انتظارها برفض شعبي واتهامات بضرورة إصلاح نفسها أولا والإتيان بسلطة محايدة ومختصة لحل الأزمة.

نتيجة لذلك، اجتاحت تظاهرات عارمة الشارع اللبناني في العام 2019، احتجاجا على القرارات الاقتصادية التي تضمنت فرض ضرائب زائدة، الأمر الذي أدى إلى استقالة الحكومة وذهاب البلاد باتجاه انتخابات مبكرة، وعلى الرغم من ذلك لم تنجح الانتخابات في إخراج البلاد من أزمته، إذ تحول الصراع بين القوى السياسية حول توزيع المناصب وتشكيل الحكومة، وهو المشهد الذي لا يزال حاضرا إلى الآن.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.