بعد سنوات عديدة من القطيعة والصراع على النفوذ في المنطقة، كان لاتفاق السعودية وإيران المباغت وقعٌ كبير، واعتُبر بمثابة الصدمة للكثيرين. ومع ذلك، يعتقد مراقبون أن التقارب الذي جاء برعاية الحزب “الشيوعي” الصيني، سيكون له آثار جمّة إقليمية ودولية وعلى عدة مستويات، لا سيما فما يتعلق بخفض التصعيد والحد من التوتر في المنطقة.

هذا التقارب بين الرياض وطهران سيفتح بلا شك صفحة جديدة من العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، إذا جرى واستمر، بحجم ما يأتي على لسان مسؤولي البلدين. بعد يوم على الإعلان عن اتفاق عودة العلاقات الدبلوماسية ارتفع الريال الإيراني، يوم السبت الماضي، بنسبة طفيفة، بحسب تقرير نشرته وكالة “رويترز“.

لذلك، لا بد من طرح بعض التساؤلات هنا حول الآثار الاقتصادية لهذا التقارب، لا سيما بعد تصريحات وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، بأن هناك فرصا كثيرة للاستثمارات السعودية في إيران، والعكس، فيما خمّن خبراء اقتصاديون أن هذا التقارب لن يخدم المصالح الاقتصادية للبلدين، بل سيتمحور في مجمله حول المصالح الاقتصادية الصينية بالمنطقة، راعي الاتفاقية.

كما أن ثمة تساؤلات حول تأثير التقارب السعودي الإيراني على الاقتصاد العالمي ككل، وخاصة سوق الطاقة والنفط الخام وأسعاره، وإذا ما ستعزز هذه الاتفاقية التبادل التجاري بين الرياض وطهران من جهة، والتبادل الطاقي مع بكين من جهة أخرى، أو قد يؤدي إلى خلق عداوات مع الدول المصدرة للنفط إلى الصين، مثل روسيا.

الآثار الاقتصادية على الرياض وطهران

العقوبات الأميركية، التي أعاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب فرضها على إيران في 2018، بعد فشل الاتفاق النووي لعام 2015، أضرّت كثيرا بالاقتصاد الإيراني، حيث حدّت من صادراتها النفطية وقلصت القدرة على الحصول على العملات الأجنبية.

السعودية إيران

كذلك، فرض عقوبات أخرى نتيجة سلوك طهران العدائي وعدم الجدية في المفاوضات النووية، بالإضافة إلى فشل طهران في تقديم تفسير حول وجود آثار اليورانيوم في عدة مواقع غير معلنة. وغياب تعاونها بشكل كافٍ بشأن هذا الملف الحساس مع “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” مؤخرا، فضلا عن قمعها للاحتجاجات الشعبية الإيرانية، فاقم من حجم العقوبات عليها.

لكن بعد الإعلان عن التقارب السعودي الإيراني، أشار موقع الصرف الأجنبي الإلكتروني “بونباست دوت كوم” إلى أن الريال الإيراني سجل يوم السبت الماضي 447 ألفا مقابل الدولار في السوق الحرة غير الرسمية مقارنة مع 477 ألفا يوم الجمعة.

الخبير الاقتصادي، الدكتور كريم العمدة، قلل من تأثير وإنعاش اقتصاد البلدين إذا لم يحمل هذا التقارب توافق سياسي حقيقي، أي أن يحدث ويجري هذا التقارب بسلام وأمان، ما يعني أن تداعياته الاقتصادية الإيجابية تعتمد على التقارب السياسي الجَدّي.

قد يهمك: الدور الغريب للصين في التقارب السعودي الإيراني.. تحوّل في القوة أم رهان يثير المخاوف؟

العمدة يردف لموقع “الحل نت”، أنه لا يمكن إنكار أن بين البلدين أمورا مشتركة، أبرزها أن السعودية وإيران من بين أكبر عشر دول في العالم من حيث احتياطيات النفط، فمثلا السعودية هي الدولة الثانية في العالم من حيث احتياطي النفط الذي يُقدر بحوالي 267 مليار برميل من احتياطي النفط، وحصة السعودية 17.2 من احتياطيات النفط العالمي. وتأتي إيران بعدها مباشرة، وتمتلك نحو 209 مليار برميل من احتياطي النفط، وحصتها 13.5 من الاحتياطي العالمي. الاحتياطيات، وهما قوتان اقتصاديتان لا يمكن الاستهانة بهما.

إنتاج النفط في السعودية يُقدر بنحو 10.5 مليون برميل يوميا، مما يعني أن له تأثير كبير على سوق الطاقة العالمي، بينما تنتج إيران 3 ملايين برميل يوميا، وهو إنتاج ضئيل نتيجة العقوبات الدولية، ولولا هذه العقوبات، فإن إنتاجها سيكون أكثر من ذلك بكثير، وفق تعبير العمدة.

العمدة يوضح أنه إذا حقّق البلدان كامل قدراتهما في مجال الطاقة، أي أن السعودية أولا تقوم بإنتاجها الكامل من النفط ودون خوف من التهديدات لحقولها، مثل “أرامكو” وغيرها، من حيث هجمات الطائرات بدون طيار التي تستهدف حقولها من وقت لآخر. سواء من قبل جماعة “الحوثي” أو بعض الميليشيات الأخرى التي توصف بـ”المجهولة”، لكن الجميع يعلم أن إيران تُغذّي هذه الهجمات. وثانيا إذا أقامت إيران علاقات جيدة مع دول الخليج، أي أنها غيرت سلوكها العدائي بالفعل، فإن ذلك سيوفر لها فرصة لتقليل الضغط الدولي، أي أنه سيمنح لإيران الاحتكاك بالمجتمع الدولي وربما تقارب ما، وهذا ما قد يؤدي إلى رفع العقوبات تدريجيا عليها، وبالتالي ستعمل هي أيضا على إنتاج كامل مواردها النفطية دون أي عوائق.

بالمختصر إذا ما حدث تقارب حقيقي بين البلدين، ومن ثم إحداث هدوء واستقرار حقيقي في الخليج، والأوضاع الإقليمية والتوترات في المنطقة ككل، فإن ذلك سيؤثر على باقي دول المنطقة، وخاصة العربية منها، من حيث إنتاج النفط العالمي والحفاظ على الأسعار العالمية، وهذا قد يشكل نوعا من التقارب الإيراني مع المجتمع الدولي بعد دول الخليج، ثم يمكن القول أنه سيكون هناك أثر إيجابي على اقتصاد البلدين، وفق تقدير العمدة.

السعودية، التي تواجه جماعة “الحوثي” المدعومة من إيران في اليمن منذ عام 2015، تسعى جاهدة إلى إنهاء الصراع الذي عرّض منشآتها النفطية لهجمات الطائرات المسيّرة والصواريخ خلال السنوات الماضية، وفق تقارير صحفية عديدة.

أما الريال الإيراني فقد هبط إلى مستوى قياسي عند 601500 للدولار، في أواخر شباط/فبراير الماضي، ولكنه عاد للارتفاع، في آذار/مارس الجاري، بعد تراجع التوتر الدولي الأخير بشأن البرنامج النووي الإيراني. وفقد الريال ما يقرب من 30 بالمئة من قيمته منذ بدء الاحتجاجات الشعبية بإيران في أيلول/سبتمبر الماضي، بعد وفاة شابة كردية إيرانية أثناء احتجازها من قبل “شرطة الأخلاق” الإيرانية.

حجم التبادل التجاري

أما التبادل التجاري بين الرياض وطهران فهو منخفض وأرقامه بسيطة في الوقت الراهن. فبيانات مؤتمر “الأمم المتحدة للتجارة والتنمية” (الأونكتاد)، تقول إن صادرات دول الخليج إلى إيران بلغت 9 مليارات دولار في عام 2021، بينما بلغت صادراتها في عام 2017 قرابة 15 مليار دولار، أي أنه بعد توتر العلاقات بينهما خلال السنوات الماضية تراجعت العلاقات التجارية بشكل كبير، مع العلم أن 90 بالمئة من صادرات دول الخليج إلى طهران هي سلع صناعية، حسبما يوضح العمدة.

أما واردات دول الخليج من إيران فقد قُدرت عام 2017 بنحو 4 مليارات، وفي عام 2021 كانت 3 مليارات فقط. وجميع الواردات تتمحور حول النفط الخام ومشتقاته والسلع الزراعية، وهنا يقدّر الخبير الاقتصادي، العمدة، مدى التفاوت في حجم التبادل التجاري بين البلدين، واستنادا إلى الأرقام المذكورة، فإن التقارب الحقيقي بينهما سيعزز ويزيد من حجم التجارة، لكن الحصة الأكبر من هذه التجارة تتم بين الإمارات وإيران وليس السعودية، حيث تُعتبر أبو ظبي الشريك التجاري الأكبر لطهران، إذ تستحوذ على حوالي 85 بالمئة من إجمالي حجم تجارة الخليج مع الأخيرة.

بالتالي فإن هذا التقارب لا يمكنه أن يعزز من التبادلات التجارية بين البلدين، ولكنه قد يعزز من الاستقرار في المنطقة كما يعتقد العمدة، من حيث جذب المستثمرين، خاصة إذا ما تم إحياء الاتفاق النووي ورُفعت العقوبات عن طهران. والعمدة يرى ضرورة أن تمنح إيران حيز من الحرية للأقلية السنية والعربية الموجودة لديها وبالمثل أن تمنح السعودية الحرية والحقوق للشيعة الموجودين لديها، وهذا ما قد يحسّن الأجواء والعلاقات السياسية، وتحسّنا في السياحة الدينية أيضا.

تأكيدا على هذا الحديث، فقد قال وزير المالية السعودية، الجدعان، يوم الأربعاء الماضي، إن هناك الكثير من الفرص لاستثمارات سعودية في إيران، والعكس. وإنه لا يرى عوائق طالما سيتم احترام بنود الاتفاق بينهما، مضيفا خلال كلمته بمنتدى القطاع الخاص الأول لـ”صندوق الاستثمارات العامة السعودي”، إن الاستثمارات السعودية في إيران يمكن أن تحدث سريعا جدا بعد الاتفاق، وفق قناة “العربية“.

كذاك مقالٌ للرأي نشرته وكالة “بلومبيرغ” الأميركية، يقلل من الآثار الاقتصادية للتقارب، خاصة وأن صادرات النفط الإيرانية إلى الصين تخرق العقوبات، وتقلل حصة السعودية في ذلك السوق الهام.

التداعيات على الاقتصاد العالمي

العديد من التحليلات تقلل من تأثير التقارب السعودي الإيراني على الاقتصاد العالمي وسوق النفط تحديدا، وأن آثاره قد تكون سياسية وأمنية ترتبط بالمنطقة فقط دون سواها. واستدراكا على ذلك فإن حجم الاقتصادين السعودي والإيراني مجتمعين لا يمثل سوى 2 بالمئة من إجمالي الاقتصاد العالمي، إذ يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للسعودية 850 مليار دولار، فيما يبلغ الناتج المحلي الإجمالي لإيران 360 مليار دولار، وفق الخبير الاقتصادي، العمدة.

قد يهمك: مصالحة السعودية وإيران.. تحديات لدور إسرائيل في المشهد الجيوسياسي الإقليمي؟

في حين أشار بعض المحللين أنه في حال استمر هذا التقارب على المدى الطويل سيكون للرياض وكذلك طهران أهمية “كبرى في خطط الصين ضمن مبادرة الحزام والطريق، ما قد يعزز من الاقتصاد الصيني في حينها”.

بالاستناد إلى أن الصين المستورد الرئيسي للنفط من كلا البلدين، وكذلك نسبة معينة من روسيا، فقد أثار ذلك تساؤلات حول ما إذا كان هذا التقارب السعودي الإيراني قد يؤدي إلى حدوث علاقات عدائية مع روسيا، لكن العمدة من وجهة نظره يستبعد حدوث ذلك، واستدرك ذلك بأنه من مصلحة بكين وموسكو وجميع الدول المستوردة للنفط أن تهدأ الأجواء المتوترة في منطقة الخليج لما لها من أهمية في استقرار سوق الطاقة العالمي، لا سيما وأن روسيا والصين تربطهما علاقات جيدة مع طهران.

لكن من المهم القول، إنه إذا لم يكن هناك تقارب سياسي حقيقي فلن يكون هناك تقارب اقتصادي وتجاري، وكذلك لن يستقر حجم التجارة العالمية في مضيق “هرمز”، الذي يمرّ عَبره أكثر من 21 بالمئة من إمدادات الطاقة حول العالم، حيث يذهب أغلبها نحو الأسواق الآسيوية بحسب تقديرات “إدارة معلومات الطاقة الأميركية”.

إجمالا، أدت الصراعات بالوكالة بين السعودية وإيران على مدى السنوات الماضية إلى نتائج سلبية بشكل عام. وعلى الرغم من أن الرياض لا تثق بإيران كثيرا، لكنها تحركت نحو المصالحة معها، بدافع أن الاتفاق يمثل أولوية قصوى في الوقت الراهن، وربما رأت أن الظروف العصيبة، خاصة الظروف الداخلية والاقتصادية السيئة لإيران، قد تغير شيئا من سلوكها، لكن هذا غير مضمون في الواقع. وبالتالي، فإن التداعيات الاقتصادية تظل مرتبطة بالعلاقات السياسية والأمنية بين القوتين الإقليميتين الرئيسيتين على قيادة المنطقة، في سياق التنافس الذي بدأ بشكل أساسي مع قيام الثورة في طهران عام 1979.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.