احتجاجات الشارع الفرنسي على رفع سن التقاعد المثير للجدل، تحولت إلى انتفاضة ضد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إذ أجاز قانون رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاما يوم الخميس  16 آذار/مارس، بعد ساعات من مصادقة مجلس الشيوخ الفرنسي بموافقة 201 من الأعضاء مقابل 115 عضوا صوتوا ضده، بدون أخذ موافقة “الجمعية الوطنية” (مجلس النواب)، إذ لجأ ماكرون وحكومته إلى مادة 49.3 من الدستور الفرنسي الذي ينص بأنه يحق لرئيس الجمهورية تمرير قانون لمرة واحدة كل عام بدون موافقة “الجمعية الوطنية”.

على إثر ذلك انفجر الشارع الفرنسي الذي كان يتظاهر منذ أشهر احتجاجاً على القانون، لينفجر بوجه الرئيس نفسه معتبرين ذلك تجاوزاً للديمقراطية، والمطالبة برحيله وسحب الثقة من حكومته “في الجمعية الوطنية”.

كان الشارع الفرنسي قد احتج منذ نهاية العام 2019 مع طرح فكرة القانون، لتعود إلى الواجهة من جديد منذ نهاية العام الماضي بعد انتهاء جائحة “كورونا”، إلا أن الخميس الماضي 23 آذار/مارس والذي سمي بـ “الخميس الأسود”، شهدت مظاهرات ومواجهات عنيفة بين المتظاهرين والشرطة الفرنسية، وصلت إلى أعمال شغب كبيرة جداً.

فرنسا حاليا تعيش أسوء فتراتها مع إضرابات نقابية وعمالية كبيرة شلت الحياة العامة في عدة من المدن، إلى جانب دعوات إضرابية أكبر في رسالة تصعيد كبيرة من الشارع إلى الرئيس العنيد.

قصة القانون المثير وتاريخه.. ولماذا الآن؟

مع نزول مليون ونصف مليون مواطن فرنسي إلى الشوارع احتجاجا على تعديل قانون التقاعد، بحسب وزارة الداخلية الفرنسية، إلا أن النقابات والتي تعارض القانون تقول بأن عدد المتظاهرين في “الخميس الأسود” وحده وصل إلى 3.5 مليون متظاهر. شوارع فرنسا شهدت أعمال عنف كبيرة وبحسب وزارة الداخلية الفرنسية فإن 150 شرطيا قد أصيبوا خلال المواجهات، وتقول النقابات أن الداخلية الفرنسية اعتقلت ما بين 400 إلى 500 متظاهر إلى الآن.

الرئيس الفرنسي ماكرون أعد مشروع القانون منذ العام 2019 برفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاما، وهو الأقل بين قوانين دول الاتحاد الأوروبي، إذ يصل سن التقاعد في الدول المجاور إلى 67 عاما، إلا أن المشروع لم يمر وقتها بسبب وباء “كورونا” (كوفيد-19)، فمنذ السبعينيات القرن الماضي وهناك حالة شد وجذب بين الحكومات المتعاقبة.

في عام 1982 قام الرئيس الفرنسي آنذاك، فرانسوا ميتران، بخفض سن التقاعد من 65 إلى 60 عاما، وفي العام 1991 تحدثت الحكومة الفرنسية عن فجوة اقتصادية مستقبلا بسبب هذا القانون الذي يضغط على الميزانية العامة، وأن العجز سيصل إلى 12 مليار دولار في العام 2027، وكان الحل هو رفع سن التقاعد لسد هذا العجز، لتحاول الحكومة الفرنسية في العام 1995 أثناء حكم الرئيس الفرنسي وقتها، جاك شيراك، رفع سن التقاعد إلا أن الشعب الفرنسي خرج إلى الشوارع لمدة ثلاثة أسابيع، مما أجبر شيراك وقتها على التراجع، وقام بحل الحكومة ودعا إلى انتخابات مبكرة.

الرئيس الفرنسي الأسبق، نيكولا ساركوزي، قام في العام 2007 برفع سن التقاعد من 60 إلى 62 عاما، ودفع ثمن ذلك لاحقا، وكان أحد أسباب عدم نجاحه في الفوز بالانتخابات الرئاسية للمرة الثانية بسبب إقراره هذا القانون والذي يعتبر لعنة على كل رئيس يقترب منه ويحاول التعديل عليه.

إلا أن التساؤل الأكثر، لماذا يحاول ماكرون الآن تعديل هذا القانون وهو يعلم تبعات ذلك. بحسب الدستور الفرنسي لا يسمح لأي رئيس الترشح للانتخابات الرئاسية أكتر من دورتين انتخابيتين، وماكرون وبعد فوزه بالولاية الثانية، ليس لديه أي حسابات سياسية مستقبلا ولأجل ذلك فهو غير آبه، وبسبب ذلك فإنه لم يقترح تعديل القانون الذي يحارب من أجله الآن في فترة ولايته الأولى، وعليه يحاول سد هذا العجز الاقتصادي بالمضي قدما وبدون تراجع على رفع سن التقاعد.

تداعيات القانون على الشارع الفرنسي

على الرغم من المواجهات العنيفة التي تشهدها فرنسا، والاضرابات النقابية التي لا تتوقف، تأثر الشارع الفرنسي بشكل كبير، إلا أن البداية لم تكن كذلك منذ طرح القرار أو مشروع لتعديل قانون التقاعد “كان زخم الاحتجاجات ضعيفة لأن الشارع كان يعول على الجمعية الوطنية برفض هذا القانون من خلال التصويت ضده، وكان الهدف من بعض الاحتجاجات هو إيصال صوت الشارع للجمعية الوطنية لرفض القانون”.

بحسب الصحفي السوري المقيم في فرنسا، ثائر الطحلي، في حديثه إلى “الحل نت”، فإن السبب الذي أدى التصعيد في الشارع هو “إقرار القانون من قبل الرئيس بدون موافقة الجمعية الوطنية، لأن المادة رقم 49.3 في الدستور الفرنسي تسمح للرئيس بإقرار أي قانون بدون تصويت الجمعية العامة في حالة الاستعصاء السياسي، وهو ما آثار غضب الشارع الفرنسي بشكل كبير”. كما أوضح الطحلي، بأنه في الأيام القادمة “سيكون هناك اضطرابات كبيرة وإضرابات، فقبل أيام تعطلت شبكة المواصلات العامة بشكل كبير، وهناك تراكم كبير للقمامة في الشوارع وهذا له آثار عند الشارع الفرنسي”.

من تداعيات الاجتجاجات، قام ملك بريطانيا، تشارلز الثالث، بتأجيل زيارته إلى فرنسا بسبب المظاهرات، وهو ما وضع الرئيس الفرنسي في موقف محرج، وإضافة إلى تراكم القمامة بشكل كبير في شوارع باريس ومدن الجنوب تعطلت شبكة المواصلات العامة والتي يعتمد عليها الشعب الفرنسي بشكل كبير، إلا أن تداعيات المظاهرات والاضرابات لم تتوقف مع تصعيد الشارع الفرنسي في وجه حكومته، اضطرت الإدارة العامة للطيران المدني الفرنسي بطلب من شركات الطيران، لإلغاء 20 بالمئة من رحلاتها إلى المطارات الفرنسية نظراً لإضراب عمال وموظفين في المطارات، وهو ما يضغط على الاقتصاد الفرنسي والحكومة أيضا.

ثلاثة خيارات

الأكاديمي والباحث السياسي، إبراهيم مسلم، في حديثه إلى “الحل نت”، يرى أن ماكرون يحاول “توحيد قوانين فرنسا مع قوانين دول الاتحاد الأوربي، وأيضا لتوفير الكثير من الأموال لصالح الموازنة العامة للدولة، وإصرار الرئيس يأتي كونه له خبرة في مجال الاقتصاد ويسعى إلى إنهاء الأزمة الاقتصادية من خلال هذا القانون”.

كما أن القانون وفقا لمسلم، “سيتم تطبيق على مراحل، حيث ينص مشروع القانون على رفع سن التقاعد القانوني تدريجيا من 62 إلى 64 عاما، بواقع 3 أشهر سنويا، وذلك اعتبارا من الأول من سبتمبر 2023 وحتى 2030”، ومع تأكيد مسلم على تضرر الحياة العامة وشل الحركة في البلاد، ومنها قطاع النظافة، وهو مشهد لم يعتد عليه الفرنسيون وغريب عليهم، إلا أنه لا يتوقع أن يستطيع الشارع إجبار الرئيس على التراجع “لأن سن التقاعد في فرنسا هو من بين الأدنى بين سائر الدول الأوروبية، وماكرون وحكومته مصرين على التمديد حتى 64”، بحسب مسلم.

إلا أن الطحلي يرى ثلاث خيارات قد تنهي هذا الاضطراب ما بين الحكومة والشعب، الأول أن تستمر المظاهرات حتى تفقد زخمها ويقتنع الناس. الثاني، أن المحكمة الدستورية العليا تراجع القانون وترفضه وهو مستبعد نوعاً ما دستورياً. أما الخيار الثالث، هو استفتاء شعبي وهذا الأمر يتطلب تجهيزات خلال سنة، والقانون الفرنسي ينص على أن أي قانون يدخل حيز التنفيذ ومر عليه عام لا يبطل. أما الحل الوحيد أن يتراجع ماكرون وهذا مستبعد.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيمضي في قراره ولن يتراجع، لكونه في ولايته الأخيرة وليس لديه أي حسابات سياسية وانتخابية، فالرجل اقتصادي ولا يفهم إلا بلغة الأرقام، فالقانون من وجهه نظره سيسد عجز بالموازنة العامة وسيدر عليه المليارات، وربما يصل إلى اتفاق مع النقابات على بعض البنود من القانون لإنهاء حالة التظاهر الذي يشل حركة البلاد بشكل كبير.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات