في ظل الأزمة المالية والسياسية التي تعيشها البلاد، أظهرت آخر تقارير لـ “بنك الاعتماد” اللبناني، انخفاضا قياسيا في احتياطات “مصرف لبنان” من العملات الأجنبية في النصف الأول من شهر آذار/مارس الماضي بمقدار 260 مليون دولار لتنخفض احتياطات المصرف إلى حوالي 9 مليارات و450 مليون دولار.

بيد أن الميزانية أظهرت زيادة بنسبة 5.29 بالمئة أو 883.41 مليون دولار في قيمة احتياطاته من الذهب إلى 17.58 مليار دولار، أي ما يعادل 263.69 تريليون ليرة لبنانية، على أساس سعر الصرف الرسمي الجديد عند 15000 ليرة للدولار الواحد.

ذلك يأتي في ظل ارتفاع سعر الذهب عالميا على إثر مخاوف انتشار عدوى إفلاس في البلاد نتيجة لهذه الخسارات الكبيرة، في حين كانت ميزانية “البنك المركزي” قد أشارت نهاية شهر شباط/فبراير الماضي، إلى تراجع الاحتياطي الإلزامي بـ 79.39 مليون دولار خلال النصف الثاني من الشهر لتسجل قيمته 9.71 مليارات دولار تراجعا من 9.99 مليارات دولار في 15 كانون الثاني/يناير 2023، ومن 10.15 مليارات دولار نهاية العام 2022، ليكون “مصرف لبنان” قد خسر منذ بداية العام الجاري حوالي 700 مليون دولار من إجمالي قيمة احتياطه الإلزامي.

انخفاض النقد في ضوء تدخلات السوق

تقرير صادر عن “مصرف لبنان”، كان قد أشار إلى أن تدخلاته في السوق خلال الأشهر الأخيرة أدت إلى انخفاض النقد بالتداول بنسبة 22 بالمئة، حيث بلغت الكتلة النقدية المتداولة 65 ألف مليار ليرة بعد أن وصلت إلى 83 ألف مليار.

إلا أنه في المقابل وبمقارنة بين انطلاق الأزمة وما وصلت إليه عام 2023، زادت الفجوة المالية من 40 مليار دولار إلى 75 مليارا، وانخفض الناتج المحلي من 50 مليارا إلى 18 مليارا، الأمر الذي تظهر فيه مؤشرات مقلقة ستؤدي حكما إلى الإفلاس، وقضية انتهاء الاحتياطات المالية هي مسألة وقت إذا لم تتم المعالجة سريعا والشروع بالإصلاحات التي يشترط “صندوق النقد الدولي” إنجازها قبل توقيع الاتفاق مع لبنان.

في نيسان/أبريل الماضي، أعلن “صندوق النقد الدولي” توصله لاتفاق مبدئي مع لبنان على خطة للمساعدة بقيمة 3 مليارات دولار على 4 سنوات، واشترط “صندوق النقد” تطبيق البرنامج بالتزام الحكومة بتنفيذ إصلاحات مسبقة وإقرار “البرلمان” لمشاريع قوانين عاجلة، أبرزها قانون “كابيتال كونترول” الذي يقيّد عمليات السحب وتحويل العملات الأجنبية من المصارف، إضافة الى إقرار تشريعات تتعلق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتعديل قانون السرية المصرفية.

لكن في الثلث الأخير من الشهر الماضي، عاد “صندوق النقد الدولي”، ليحذّر من أن لبنان في وضع خطير للغاية بعد مرور عام على التزامه بإصلاحات أخفق في تطبيقها، وحثّ الحكومة اللبنانية على التوقف عن الاقتراض من “البنك المركزي”.

في مؤتمر صحفي في ختام زيارته لبيروت، قال رئيس بعثة الصندوق أرنستو راميريز ريغو، نعتقد أن لبنان في لحظة خطيرة للغاية، عند مفترق طرق، مؤكدا أن التقاعس عن اتخاذ إجراءات مطلوبة من شأنه أن يُدخل البلاد في أزمة لا نهاية لها.

وجهة نظر اقتصادية

حول تداعيات ذلك، بيّن الخبير بالشأن الاقتصادي مظهر محمد صالح، في حديث لموقع “الحل نت”، أن جوهر المعضلة المالية اللبنانية هو الخضوع التدريجي للسلطة النقدية المتمثلة بـ”مصرف لبنان” المركزي، بالسير في تمويل العجز الحكومي المستدام لسنوات طويلة من خلال إخضاع محفظة موجوداته بالعملة الأجنبية لقيد المصروفات الحكومية وتمويل العجز دون أن يدق المصرف المركزي اللبناني جرس الإنذار بالتوقف عن التمويل بالاحتياطيات الممسوكة لديه من الأصول الأجنبية بل استمر في توليد دين عام ممول بالإصدار النقدي.

خبراء يرون أن احتياطات مصرف لبنان هي ودائع للزبائن في الأساس/ إنترنت + وكالات

بالتالي، بحسب صالح، أُفرغت المحفظة الاستثمارية لـ “مصرف لبنان مكوناتها الأجنبية وتعرضت لخطر الانكشاف، واستبدلتها بالموجودات المحلية المتمثلة بالحوالات أو سندات الخزينة الحكومية وغيرها من الأوراق المالية المحلية، وباختلال مالي وعجز سنوي مستمر أضعف من كفاية الاحتياطيات الأجنبية لديه.

اقرأ/ي أيضا: عمّان توقف استيراد النفط من بغداد.. ما علاقة وكلاء إيران؟

جلّ موجودات “مصرف لبنان” المركزي من النقد الأجنبي كانت عبارة عن ودائع المصارف اللبنانية المشتق أغلبها من ودائع الجمهور، لذا وبسبب الاضطرابات السياسية فقد واجه المصرف المركزي سحوبات أو ما يسمى بالذعر المالي للنقد الأجنبي، اضطره إلى تقنين السحب من العملة الأجنبية والتمسك بسعر صرف ليرة عالي، ما ولّد أزمة مركبة انعكست على سعر الصرف لليرة نفسها من خلال ظهور سوق موازية أو سوداء لليرة اللبنانية حالا، وفق الخبير الاقتصادي.

كان على إدارة “مصرف لبنان”، أن تكون أكثر حذرا في إدارة سياسته النقدية في وقت مبكر، فبدلا من أن يمارس “مصرف لبنان” المركزي لسياسة حكيمة تقتضي بالأقل خفض قيمة الليرة بالتدريج مع تطور درجة انكشاف الاحتياطات الأجنبية لديه، لجأ إلى لعبة إغراءات سعر الفائدة لكي يحافظ على جاذبية الودائع الأجنبية العائدة للمصارف والحفاظ عليها كخصوم للغير والاحتفاظ بعمرها الزمني بأقل خطر ممكن مقابل دفع تكاليف عالية، أي استبدل خطر السحوبات بالفائدة العالية.

مظهر محمد صالح لـ”الحل نت”.

هكذا استمرت السلطة النقدية اللبنانية بلعبة سعر الفائدة المرتفع إلى حين انهيار قدرتها في مواجهة طلب الجمهور على النقد الأجنبي بسبب اقتصادي كامن آخر هو انفجار العجز المتراكم والمزدوج في ميزان المدفوعات والموازنة العامة في آن واحد، يقول صالح، ويشير إلى أن محنة لبنان المالية هي عميقة ولا تحلّ إلا باتجاهين الأول؛ تعويم الليرة اللبنانية حالا وتحمل تضخم جامح لمدة مناسبة، والأخر الحصول على تدفقات خارجية تلقائية لسد التزامات الجمهور وسحوباته للعملة الأجنبية وتوليد إشارة استقرار إيجابية للنظام المالي والمصرفي.

لبنان والأزمات

لبنان يشهد منذ 2019 انهيارا اقتصاديا صنفه “البنك الدولي” من بين الأسوأ في العالم، ويعتبر الأسوأ في تاريخ لبنان، ويتزامن ذلك مع أزمة سيولة حادة وقيود مصرفية مشددة، لم يعد بإمكان المودّعين معها الوصول إلى مدخراتهم العالقة، في الوقت الذي سجلت فيه الليرة بالأيام القليلة الماضية انهيارا تاريخيا مع تجاوز سعر الصرف عتبة 140 ألفا مقابل الدولار الواحد، بمعنى أن الليرة اللبنانية خسرت قرابة 98 بالمئة من قيمتها.

ذلك يأتي على وقع الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، فمنذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في نهاية تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أخفق البرلمان اللبناني 11 مرة في انتخاب رئيس للدولة جراء انقسامات سياسية عميقة. ويزيد الشلل السياسي الوضع سوءا، مع وجود حكومة تصريف أعمال عاجزة عن اتخاذ قرارات ضرورية، من بينها الإصلاحات التي يشترطها المجتمع الدولي و”صندوق النقد” الدولي، لتقديم الدعم من أجل وقف نزيف الاقتصاد اللبناني.

الخلل في انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان، سببه أن الدستور اللبناني يشترط في المادة 49 على أن رئيس الجمهورية ينتخب بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من “مجلس النواب” في الدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تليها، وتدوم رئاسته ست سنوات ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته، ولا يجوز انتخاب أحد لرئاسة الجمهورية ما لم يكن حائزا على الشروط التي تؤهله للنيابة وغير المانعة لأهلية الترشيح. 

بناء على ذلك، ومع عدم امتلاك أي من القوى السياسية الأغلبية المطلقة أو الوازنة؛ لم تستطع أي كتلة إيصال مرشحها إلى الرئاسة دون التوافق مع باقي الكتل سواء “حزب الله” وحلفائه أو القوى المعارضة أو المستقلين، بالإضافة إلى عدم التوافق فيما بينها على مرشح تسوية للخروج من الأزمة، وفي الوقت الذي يضع فيه حزب “القوات اللبنانية” شرطا لاختيار مرشح الرئاسة على أن يكون سياديا، بما يعني أنه ليس من فريق “حزب الله”، يرفض الأخير أي مرشح غير داعم لمفهوم “المقاومة” الذي يروّج له.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة