في الوقت الذي يعيش فيه السودان أوضاعا مشتعلة نتيجة الصراعات المسلحة بين قوات الجيش التي يقودها الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات “الدعم السريع” شبه العسكرية بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو، الشهير بـ”حميدتي”، والمتهمة بارتكاب انتهاكات في دارفور، وضد المشاركين في احتجاجات أيلول/سبتمبر 2013، التي راح ضحيتها العشرات في الخرطوم، وكذلك خلال فض اعتصام محتجين قرب القيادة العامة للجيش بالعاصمة في حزيران/يونيو 2019، تسعى روسيا من خلال مرتزقة “فاغنر” استغلال الوضع  وإشعال حرب أهلية في السودان، من أجل نهب ثرواتها من الذهب.

في تحقيق أجرته شبكة “سي إن إن” الصيف الماضي عن “حميدتي”، كمستفيد رئيسي من الدعم الروسي. كشف التحقيق كيف استغلت روسيا، من خلال علاقتها مع دقلو والجنرال عبد الفتاح البرهان الحاكم العسكري للبلاد موارد السودان الذهبية في دعم التمويل الروسي ضد العقوبات الغربية ولتمويل حربها في أوكرانيا. كما تلقى دقلو تدريبات عسكرية روسية أيضا.

مجموعة من الوثائق التي راجعتها “سي إن إن”، إلى جانب مقابلات متعددة مع مسؤولين سودانيين وأميركيين رفيعي المستوى، رسمت صورة لمخطط روسي مفصل لنهب ثروات السودان، كما أظهر التحقيق أيضا كيف تواطأ دقلو والبرهان مع موسكو في العملية، مما حرم السودان أحد أفقر دول العالم على الرغم من كونه أحد أكبر منتجي الذهب في العالم من المورد الثمين. وفق ما نقله موقع “أخبار الآن”.

التدخل الروسي في السودان

أنشطة التعدين التي تقوم بها مرتزقة “فاغنر” في السودان ساعدت في تكوين احتياطيات من الذهب في البنك المركزي الروسي، والتي كانت ضرورية لموسكو في أعقاب غزوها لأوكرانيا، حيث أفادت شبكة “سي إن إن” أن ما لا يقل عن 16 رحلة روسية هرّبت الذهب من السودان إلى روسيا على مدى عام واحد.

صورة لعناصر من ميليشيا "فاغنر" المصدر : AFP‏
صورة لعناصر من ميليشيا “فاغنر” المصدر : AFP‏

وجود “فاغنر” سيئة السمعة في السودان يتجاوز تغطية وسائل الإعلام، حيث أنشأت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي موالية لموسكو، من أجل نشر معلومات مضللة وتأجيج نار الفتنة والحرب الأهلية في المنطقة. حصلت الميليشيا في وقت سابق على امتيازات تعدين الذهب القيمة في السودان ودخلت في شراكة مع “حميدتي”، وفقا لصحيفة “نيويورك تايمز”.

قد يهمك: زعزعة استقرار القارة السمراء.. دور سلبي لروسيا والصين؟

الحكومة السودانية تنكر وجود “فاغنر” في البلاد، لكن تمتد أذرع الأخيرة عبر إفريقيا، حيث اكتشف طاقم “سي إن إن” أن بعض عملاء “فاغنر” يعملون في السودان. إذ يترأس يفغيني بريغوجين “فاغنر” المعروف بـ”طباخ بوتين”، و ميخائيل بوتبكين يترأس العمليات في السودان، أما أليكساندر سيرجيفيتش كوزنتسوف فهو المنفذ الرئيسي لـ”فاغنر”، الذي أدين سابقا بالاختطاف والسرقة، وهو يعمل مع اللواء “حميدتي”، مقابل التدريب والأسلحة.

صحيفة “نيويورك تايمز”، كانت كشفت في تحقيق صحفي عن أن مصنعا يقع في منطقة العبيدية الغنية بالذهب على بُعد 320 كيلومترا شمال الخرطوم يخضع لحراسة مشددة محاط بأبراج لامعة، يسميه السكان المحليون “الشركة الروسية”، ويعمل في نشاط التعدين، لكنه في الحقيقة واجهة لميليشيا “فاغنر”.

المصنع يعالج أكوام الخام من سبائك الذهب، حيث حصلت “فاغنر” على امتيازات تعدين مربحة تنتج سيلا متدفقا من الذهب كما تظهر السجلات، ويعزز مخزون “الكرملين” من الذهب، البالغة قيمته 130 مليار دولار، الذي تستخدمه روسيا للتخفيف من تأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها بعد غزوها لأوكرانيا، من خلال دعم العملة الروسية المحلية الروبل.

الصحيفة أشارت إلى أن “شركة فاغنر”، المعروفة بأنشطتها العسكرية، ومساعدتها الأنظمة الديكتاتورية للبقاء في الحكم، من خلال شبكتها الغامضة من المرتزقة، أصبحت أكثر من مجرد آلة حرب في إفريقيا، تتمدد وتتعزز قوتها من خلال سيطرة اقتصادية وعمليات التأثير السياسي.

الاستنزاف الروسي لثروات السودان

روسيا تحاول تعزيز علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع السودان، وتعتبره من الدول الهامة في شرق إفريقيا، حيث وقعت موسكو في السنوات الأخيرة، عدة اتفاقيات مع الخرطوم في مجالات مختلفة مثل التعاون العسكري والاقتصادي والزراعي، بحسب المحلل السياسي والاقتصادي محمد الناير لـ”الحل نت”. روسيا لديها مصالح استراتيجية في منطقة البحر الأحمر، بحسب الناير حيث تمتد الطرق التجارية البحرية الهامة التي تربط أوروبا وآسيا بإفريقيا والشرق الأوسط. ويمكن للسودان، بوصفه دولة تطل على البحر الأحمر، أن يكون شريكا استراتيجيا لروسيا في هذه المنطقة.

اقرأ أيضا: الدبلوماسية العسكرية.. “فاغنر” أنموذجا لقضية الشركات الأمنية المشبوهة وانعكاساتها

الدوافع المحتملة لدعم روسيا لقوات “حميدتي” ، من وجهة نظر الناير، تشمل التأثير على السياسة في المنطقة وتعزيز وجودها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كما أن هناك مصالح استراتيجية واقتصادية قد تدفعها أيضا، مثل الحصول على حقوق استكشاف النفط والغاز في السودان، وإقامة قاعدة عسكرية بحرية على ساحل البحر الأحمر في السودان، حيث يضمن ذلك تغلغلها في العمق الإفريقي بشكل أكبر.

المجلس العسكري الانتقالي سابقا وافق على الإبقاء على العقود الروسية الضخمة في قطاعات الدفاع والتعدين والطاقة في السودان، علما بأن هذه العقود توسّعت إلى حد كبير في الأعوام الأخيرة. وفقا لـ”معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام”، تأتي السودان في المرتبة الثانية في قائمة الدول الإفريقية التي تشتري الأسلحة الروسية، بعد الجزائر، ويُشار في هذا الصدد إلى أنها اشترت 50 في المئة من أسلحتها من روسيا عام 2017.

شركة التعدين الروسية ” أم إنفست” حصلت على وصول تفضيلي إلى احتياطات الذهب السودانية عام 2017، بعد انعقاد اجتماع بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السابق عمر البشير في “سوشي”. وبما أن البنى التحتية السودانية تساهم في نقل النفط من جنوب السودان إلى الأسواق العالمية، أعربت موسكو عن اهتمامها ببناء معمل لتكرير النفط في السودان بغية زيادة أرباحها من صفقات التنقيب عن النفط في جنوب البلاد.

إلى جانب هذه العقود، تتطلع روسيا إلى بناء قاعدة في الساحل السوداني المطل على البحر الأحمر لزيادة تأثيرها في القرن الإفريقي وتوسيع حضورها في مضيق “باب المندب”. وكان الرئيس السوداني آنذاك عمر البشير قد طلب من روسيا النظر في بناء قاعدة على البحر الأحمر في تشرين الثاني/نوفمبر 2017.

كانت زيارة لافروف الأخيرة إلى الخرطوم، قد عادت بالمشروع إلى الأضواء من جديد بعد طول غموض وصمت وتكتم، وتزامنت مع زيارة مشتركة لعدد من المبعوثين الغربيين الدوليين من كل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للسودان، وفق لموقع “أخبار الآن”.

إذ تطمح روسيا إلى استعادة مواقع النفوذ الاستراتيجي التي فقدتها بزوال الاتحاد السوفيتي في إفريقيا، فقد سعت لتوطيد علاقتها مع الرئيس المخلوع، عمر البشير، الذي قام بزيارة موسكو، في يوليو 2018، وطلب من بوتين حمايته من المخططات الهادفة لإسقاط نظامه الحاكم، واتفق معه على إقامة قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر.

لا شك أن السودان، بموقعه الاستراتيجي مقابل خليج عدن على البحر الأحمر، يشكل أهمية قصوى لموسكو، حيث تعبر ذلك الممر المائي حوالي 10 بالمئة من البضائع العالمية بما فيها النفط والغاز الطبيعي، كما أن روسيا تستطيع من خلال إقامة قاعدة على البحر الأحمر الربط المباشر مع قاعدتها البحرية في طرطوس السورية فضلا عن تمكينها من لعب دور فاعل في النزاعات الدولية.

الموقف الدولي

إن الأحداث والتطورات الحاصلة في السودان لها أسباب وتحديات خاصة بها، وقد توجد نظرات ومواقف مختلفة من قبل الدول حيال التدخل الروسي في الشؤون الداخلية للسودان، حيث تنتقد الدول الغربية ومنظمات المجتمع المدني هذا التدخل وتحث على الحفاظ على الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما أن المجتمع الدولي بشكل عام يدعو إلى الحوار والتفاوض للتوصل إلى حل سلمي للأزمة السياسية في السودان.

الولايات المتحدة الأميركية تسعى من جانبها لجعل السودان شريكا أساسيا لها في المنطقة التي غابت عنها لفترة طويلة مما سمح بتمدد النفوذ الصيني والروسي كثيرا، وهو الأمر الذي اتضح من خلال الاهتمام الكبير الذي أظهرته إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، وكذلك الرئيس الحالي، جو بايدن، فضلا عن المشرعين في “الكونغرس” من الحزبين تجاه ضرورة إنجاح الفترة الانتقالية في السودان، وهو الأمر الذي انعكس في الجهد السياسي والدبلوماسي اللصيق والزيارات غير المسبوقة للمسؤولين الأميركيين للخرطوم.

أما روسيا فقد وقفت على الضفة الأخرى وحالت دون اتخاذ مجلس الأمن قرارات تُدين الانقلاب وتدعو المكون العسكري إلى استئناف الأوضاع المدنية بشكل فوري، وهو الموقف الذي يتماهى مع سياسة موسكو التي تعتبر أن الحاكم الذي يملك القوة العسكرية يمثل كل شيء، وفقا لما نقله موقع قناة “الحرة”.

إذ تكاد الأزمة السودانية تصل ذروتها عبر استمرار الرفض الشعبي الواسع للانقلاب مع تمسك العسكر بالسلطة، فإن مواقف الدول الخارجية ستلعب دورا مهما في ترجيح إحدى الكفتين، فبينما تنشط المواقف الداعمة للحكم المدني في تكثيف الضغوط بحثا عن حلول تتوافق مع مطالب الجماهير، لا يزال الدور الروسي يُغري الجيش بالمضي في تثبيت أركان الانقلاب، ويحث على أن تبقى الأزمة مستمرة في سبيل تحقيق مكاسبه في المنطقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات