يتجه العالم بشكل مستمر وبخطوات متسارعة نحو استهلاك الطاقة النظيفة، والتي تقع غالبيتها تحت مظلة الطاقة المتجددة التي تنتجها الطبيعة من الرياح، والشمس، والماء، وحتى الطاقة الكامنة تحت الأرض، مقابل التخلي تدريجيا عن استهلاك الوقود الأحفوري ولو أن تحقق هذه المعادلة في الوقت الحالي في غاية الصعوبة.

غالبية الدول التي تسعى للتحول إلى الطاقة النظيفة هي الدول الصناعية وبالأخص دول الاتحاد الأوروبي التي تضع في خططها المستقبلية تخفيض استهلاك موارد الطاقة الأحفورية مقابل تأمين احتياجاتها من الوقود خالي الانبعاثات لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050، إضافة لتخفيض الاعتماد على النفط والغاز القادم من روسيا. بالمقابل تسعى الدول المنتجة لموارد الطاقة الأحفورية مثل دول الخليج العربي والجزائر ودول اخرى إلى الاستثمار في بنيتها التحتية لتنويع مصادر إنتاج الطاقة، بحيث لا تتوقف صادراتها من النفط أو الغاز بل لتشمل انتاج انواع الطاقة المتجددة الأخرى.

بعد شن روسيا الحرب على أوكرانيا وتهديدها المتكرر لدول الاتحاد الأوروبي بقطع إمدادات الغاز؛ سعت الأخيرة إلى تسريع إيجاد بدائل أخرى عن الغاز الروسي أو بتسريع الانتقال إلى إنتاج الطاقة المتجددة، وتبرز الجزائر كدولة مهمة في سياسة دول الاتحاد الأوروبي لتحقيق مستوى متقدم في أمن الطاقة لعدد من الأسباب نناقشها في سطور هذه المادة، والتي تقوم على مناقشة ثلاثة قواعد رئيسية يبرز فيها موقع الجزائر في سياسة الطاقة الأوروبية؛ الأولى توسيع استيراد الغاز، الثانية استغلال الموقع الجغرافي القريب من موانئ القارة الأوروبية، الثالثة قدرة الجزائر على إنتاج الطاقة النظيفة في المستقبل القريب.  

توسيع الاعتماد على الغاز القادم من الجزائر 

بحسب آخر الإحصائيات التي أجريت في عام 2022، بلغ مجموع احتياطيات الغاز المكتشفة في الجزائر 4.5 تريليون متر مكعب، وامتلاك هذه الكمية الضخمة يعني أن الدولة قادرة على تلبية قسم كبير من استهلاك الاتحاد الأوروبي للغاز، لكن ليس لدرجة أن تحل الجزائر مكان الغاز الروسي، بل لتكون مصدرا مهما من مصادر استبدال الغاز الروسي.

تصنف الجزائر من الدول المهمة في سوق الطاقة الدولية لخبرتها في صناعة الطاقة ولموقعها على البحر المتوسط، ولقربها من أكبر أسواق استهلاك الطاقة في العالم وهي دول الاتحاد الأوروبي.

وبحسب معطيات عام 2022 بلغت صادرات الغاز الجزائري 102 مليون متر مكعب يوميا، الأمر الذي منح الجزائر المرتبة الثانية من بين أكثر الدول المصدرة للغاز إلى أوروبا، متجاوزة بذلك صادرات كل من روسيا وأذربيجان، في حين جاءت دولة النرويج في المرتبة الأولى. وفي نهاية عام 2022، سجّلت إيرادات الغاز الجزائري إلى دول الاتحاد الأوروبي زيادة بنحو 82 بالمئة، عن عام 2021، وارتفعت إيرادات الجزائر من تصدير الغاز إلى دول الاتحاد الأوروبي، لتسجل 20 مليار دولار خلال 2022، مقابل 11 مليار دولار في 2021.

في حين تطمح إيطاليا التي هي أكبر مستورد للغاز الجزائري بزيادة استيرادها من الجزائر بعدما وقعت معها 5 مذكرات تفاهم جديدة، شملت مذكرتين لتعزيز التعاون الطاقي وزيادة إمدادات الغاز والربط الكهربائي، وصولًا إلى إنشاء خط أنابيب جديد لنقل الهيدروجين من الجزائر إلى روما.

وفي تموز/يوليو 2022، وقّعت كل من شركة “النفط الإيطالية إيني” و”أوكسيدنتال الأمريكية” و”توتال الفرنسية” عقدا لتقاسم إنتاج النفط والغاز بقيمة 4 مليارات دولار مع شركة “سوناطراك” الجزائرية المملوكة للدولة، والتي ستزود دولا مثل إيطاليا بكميات كبيرة من الغاز الطبيعي.

وقد طرحت الجزائر عددا من مشاريع تطوير حقول الغاز لزيارة الإنتاج، وقد خصّصت في عام 2023 حوالي 30 مليار دولار بهدف استكشاف حقول جديدة وزيادة إنتاج الغاز الطبيعي، ومن المتوقع أن يذهب جزء كبير من الإنتاج إلى سوق الطاقة الأوروبية.

الموقع الجغرافي للجزائر

يلعب موقع الجزائر الجغرافي على البحر المتوسط والقريب من السواحل الأوروبية دورا رئيسيا في سياسة الطاقة الأوروبية، فقد سهل القرب الجغرافي من قيام 3 مشاريع لخطوط أنابيب الغاز بين الجزائر والقارة الأوروبية: الأول، “خط أنابيب غالسي”، وهو خط قديم متوقف عن العمل منذ 10 سنوات، وبحسب موقع الطاقة المتخصص يجري الحديث على إعادة إحيائه مرة أخرى لنقل الهيدروجين إلى أوروبا، وتبلغ سعته 238 مليار قدم مكعب سنويًا، وبطول 534 ميلًا. الثاني، خط ” ميدغاز”، والذي يربط الجزائر بإسبانيا، والبالغ طوله 125 ميلا، وبسعة 8 مليارات متر مكعب سنويًا، والذي بدأ تشغيله عام 2011. الخط الثالث عبر تونس إلى إيطاليا والذي بدأ تشغيله منذ عام 1983، وطوله 1025 ميلا، وبقدرة تصديرية تساوي 1340 مليار قدم مكعب سنويا بحسب منصة الطاقة. 

كما ستشكل الجزائر دولة عبور للغاز الإفريقي إلى دول الاتحاد الأوروبي، ففي الوقت الحالي يتم بناء خط أنابيب قادم من نيجيريا والنيجر ويعبر 70 بالمئة من الخط من الصحراء الجزائرية ليصدر بعدها الغاز الطبيعي عبر الأنابيب الجزائرية إلى السوق الأوروبية، كما هو موضح في الخريطة رقم (1). كل هذا الخط يجعل من الجزائر دولة عبور رئيسية للغاز الإفريقي وستكسب منه الدولة سنويا إيرادات مالية كأجور عبور، فضلا عن أنه سيمنح الجزائر ورقة مهمة في سياستها الخارجية تجاه دول الاتحاد الأوروبي باعتبارها دولة مصدرة ويعبر من خلالها الغاز الموجه للسوق الأوروبية. 

الخريطة رقم (1) خط الغاز من نيجيريا والنيجر إلى الجزائر

أهمية الطاقة المتجددة في الجزائر

قبل الدخول في هذه القاعدة من المادة يجب تسليط الضوء على نقطة في غاية الأهمية وهي الجدل العلمي حول جدوى نقل الهيدروجين في خطوط الغاز وجدواها الاقتصادية، فما زالت الدراسات في مرحلة التطبيق العملي على الجدوى من هذه العملية من الناحية التطبيقية، وفي هذا الإطار عززت شركة أميركية آمال العديد من الدول في الاستفادة من البنية التحتية لخطوط الغاز في تصدير الهيدروجين إلى الخارج، فقد صرحت الشركة أن عملية نقل الهيدروجين عبر خطوط الأنابيب أقلّ تكلفة وأكثر أمانًا في النقل لمسافات طويلة، مقارنة بالنقل عبر الشاحنات باهظ التكلفة وفقا لموقع أرغوس ميديا (Argus Media). وقد أعلنت الجزائر عن خطط في عام 2022، لتصدير الهيدروجين إلى أوروبا مستقبلا، عبر استعمال خطوط أنابيب الغاز الحالية. ووقّعت الحكومتان الجزائرية والإيطالية في كانون الثاني/يناير 2023، مذكرة تفاهم تتعلق بإنشاء خط أنابيب لنقل الهيدروجين من الجزائر إلى روما، وتشمل الاتفاقيات إعادة إحياء “خط أنابيب غالسي” بين البلدين لاستعماله في تصدير الهيدروجين إلى أوروبا. وكانت شركة “ميدغاز” قد أعلنت عن إجراء دراسات لتصدير الهيدروجين من الجزائر إلى أوروبا في أنابيب الغاز المشتركة مع إسبانيا. هذا وتمتلك الجزائر مقومات لأن تكون منتج مهم للهيدروجين الأخضر، من طاقة شمسية في اغلب اوقات السنة وعلى مساحات شاسعة جدا، كما تمتلك مسافات طويلة من السواحل على البحر المتوسط يجعل منها منصات مميزة لإنتاج الطاقة من الرياح عبر تأسيس عنفات الرياح على طول السواحل، إضافة لتوفر البنية التحتية (والتي نقصد بها كل ما يتعلق بصناعة النفط والغاز) القادرة على الوصول لإنتاج سريع من الطاقة المتجددة، وقد أكد وزير الطاقة الجزائري في عام 2022 أن بلاده رصدت موازنة تتراوح بين 20 و25 مليار دولار لاستغلال الهيدروجين الأخضر.

من الواضح أن الجزائر ستكون محورا رئيسا في إنتاج الهيدروجين وتصديره إلى أوروبا، نظرا إلى ما تمتلكه من إمكانات ضخمة على مستوى احتياطيات الغاز، والبنية التحتية القادرة على التصدير إلى السوق الأوروبية، فضلا عن قرب الموقع الجغرافي الذي يسهل على الطرفين عملية الاستيراد والتصدير، كما من المتوقع أن تكون الجزائر واحدة من الدول المهمة التي ستعتمد عليها دول الاتحاد الأوروبي في استيراد الهيدروجين الأخضر، وبهذه العوامل المجتمعة ستكون الجزائر ركيزة أساسية في سياسة أمن الطاقة الأوروبية المستقبلية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات