في منطقة تعاني من عداوات طويلة الأمد وخصومات عميقة الجذور، برز بصيص أمل مع احتلال الصين مركز الصدارة في الوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران. لكن المحاولة الجريئة للتوفيق بين دولتين من أقوى دول الشرق الأوسط هي إنجاز متواضع في مواجهة طموحات ضخمة، محفوفة بالتعقيدات والسوابق التاريخية.

لم يكن التاريخ المضطرب بين السعودية وإيران سرا. فعلى الرغم من الجهود المتقطعة لاستعادة العلاقات الدبلوماسية على مر السنين، كانت هذه المساعي في كثير من الأحيان قصيرة الأجل، وطغى عليها انعدام الثقة المتجذر والمصالح الإقليمية المتنافسة. ومع ذلك، رغم أن المبادرة الأخيرة تحمل إحساسا متجددا بالهدف ومواءمة الطموحات الاستراتيجية التي قد تحمل مفتاح المصالحة الدائمة، إلا أن ملامحها لا تشي بذلك.

في حين قد يُنظر إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران على أنها خطوة مهمة، إلا أن جملة التساؤلات تأخذ منحىً آخر، إذ كيف تقارن الوساطة الصينية – السعودية – الإيرانية الأخيرة بالمحاولات السابقة التي قامت بها السعودية وإيران لإعادة العلاقات الدبلوماسية، لماذا لن تساهم رغبة السعودية في فك الارتباط العسكري عن اليمن في إعادة العلاقات مع إيران. وعلاوة على ذلك، كيف تحد الديناميكيات الأساسية للتنافس بين المملكة وإيران، بما في ذلك المخاوف بشأن الأمن الإقليمي والبرنامج النووي الإيراني، من التأثير المحتمل لاستكمال استعادة العلاقات.

إنجاز مهم ولكنه ضئيل

التقارب السعودي الإيراني الذي توسطت فيه الصين يعتبر اختراقا دبلوماسيا كبيرا بعد سنوات من العداء المتبادل والهجمات المشبوهة والتجسس بين البلدين، لكن هذه ليست المرة الأولى التي تتحرك فيها السعودية وإيران لاستعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ أقامتا العلاقات لأول مرة في عام 1929. واستعادا العلاقات الدبلوماسية في عام 1946، بعد انقطاع في عام 1944، وفي عام 1991، بعد انقطاع في عام 1987. 

تسوية الخلافات السعودية الإيرانية في العاصمة الصينية بكين - إنترنت
تسوية الخلافات السعودية الإيرانية في العاصمة الصينية بكين – إنترنت

حاليا بدأت الدولتان في الخروج من انفصال طويل حدث في أعقاب إعدام السعودية لرجل الدين الشيعي نمر النمر والاقتحام اللاحق للسفارة السعودية في طهران. فمن وجهة نظر الرياض، فإن التطبيع مع إيران البلد الذي طالما اعتبره النظام الملكي السعودي أحد أكبر التهديدات الأمنية؛ يزيل العقبات في رحلة الإصلاح والتحول الاقتصادي.

أولى الآمال التي بُنيت على الاتفاق الذي كانت الصين تستعرض نفسها فيه، هو خفض التصعيد في مناطق مثل اليمن، حيث تخوض السعودية حربا ضد المتمردين “الحوثيين” المدعومين من إيران منذ عام 2015، حيث بالاتفاق أصبح الوضع أكثر واقعيا من ذي قبل. وأيضا قد يتم تقليل المخاطر على الشحن وإمدادات النفط في المنطقة، ويمكن أن تزيد التجارة والاستثمار بين الدول من النمو.

إلا إن جماعة “الحوثي” وقبل أيام عقّدت سير المفاوضات بملف المرتبات محاولة عرقلة إحراز اتفاق شامل مع الحكومة الشرعية التي تدعمها الرياض، حيث وضعت تعقيدات جديدة بشأن الاتفاق على آلية تسليم رواتب الموظفين في المحافظات الواقعة تحت سيطرتها، واشترطت صرف المرتبات لكل عناصرها بحسب كشوفات هذا العام.

علاوة على ذلك، لوّحت ميليشيا “الحوثي” مجددا بقصف موانئ السعودية كردّ على تجاهل الرياض اشتراطاتها المتعلقة بمسار السلام، حيث زعم القيادي في الميليشيا، جلال الرويشان، أن جماعته لديها القدرة على التحكم عسكريا بالموانئ السعودية وتدفق رؤوس الأموال إليها.

في السنوات القليلة الماضية، شهدت المنطقة العديد من الهجمات، لا سيما على السفن السعودية والإماراتية والبنية التحتية للطاقة، والتي ألقت الرياض وواشنطن باللوم فيها على طهران فيما ترفض الأخيرة الاتهامات، ومع تجديد جماعة “الحوثي” بتهديد مصالح السعودية، ستظل الرياض وطهران خصمين لهما رؤى متنافسة للمنطقة، رغم الاتفاق الذي تستعرض فيه الصين عضلاتها.

الولايات المتحدة لا تزال الشريك الاستراتيجي

وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قال أمام وزراء “مجلس التعاون الخليجي” في الرياض أمس الأربعاء، إن بلاده لا تزال ملتزمة تجاه شركائها في منطقة الخليج، في وقت تشهد التحالفات الإقليمية تغييرات سريعة تتمحور حول التقارب الأخير بين السعودية وإيران.

وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان يلتقي بنظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان في بكين - إنترنت
وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان يلتقي بنظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان في بكين – إنترنت

الأكاديمي والباحث السياسي، مايكل لورو، أوضح في حديثه لـ”الحل نت”، أن أي وساطة صينية أو أي تدخل دبلوماسي لن تهدد تفوق الولايات المتحدة في المنطقة، فكل الدول بما في ذلك إيران تعرف ذلك. إذ تمتد الشراكة الأمنية بين الولايات المتحدة والسعودية لما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، ويتم تزويد الترسانة العسكرية السعودية وصيانتها من قبل الأفراد العسكريين الأميركيين.

طبقا لحديث لورو، فإنه إذا نجحت السعودية بالفعل في تخليص نفسها من اليمن، فإن الاتفاقية السعودية الإيرانية ستكون بلا شك لها دورا محوريا في هذا التطور. ومع ذلك، “من الضروري التخفيف من توقعاتنا، حيث من غير المرجح أن تتبدد بين عشية وضحاها العداوة العميقة والتطلعات الجيوسياسية التي حددت علاقتهما على مدى عقود”.

بلينكن في مستهلّ الاجتماع الذي جرى على مدى يومين حول الشراكة الاستراتيجية بين الخليج وواشنطن، ذكر أن “الولايات المتحدة موجودة في هذه المنطقة لتقول إننا لا نزال منخرطين بعمق في الشراكة معكم جميعا”، مشددين عزمهم على مواجهة أي أعمال عدوانية أو غير قانونية في البحر أو أي مكان آخر مما من شأنه تهديد الممرات الملاحية والتجارة الدولية والمنشآت النفطية في دول المجلس.

وفقا لحديث لورو، فإنه بينما تنظّم الصين هذا الأداء الدبلوماسي وتصفه بالكبير، لكن تمييز ما إذا كان هذا المسعى الجريء سيمثل نقطة تحول حقيقية في سجلات السياسة في الشرق الأوسط، لأن الإشارات تدل على أنه سينحدر إلى عالم الإيماءات الرمزية والاختراقات العابرة، والوقت وحده هو الذي سيكشف عن الطبيعة الحقيقية وتأثير هذه الوساطة الصينية – السعودية – الإيرانية.

الرابح الأكبر الذي خرج من المصالحة الإيرانية السعودية هي الصين، من وجهة نظر الباحث السياسي؛ ليس لأنها أنجزت الاتفاق؛ بل كونها كانت الرابح في صفقات التجارة والنفط، فيما التوقيت مناسب لكلا البلدين لاستكشاف سبل التعاون وإذابة العلاقات المتجمدة بينهما لم يكن مناسبا.

ضبط ميزان القوى في الشرق الأوسط

لا يمكن تجاهل قدرة الولايات المتحدة على التأثير في مسار العلاقات السعودية الإيرانية، وكذلك الوساطة الصينية، من خلال أهداف الولايات المتحدة الموازية أو المتقاطعة، ففي سياق استراتيجية الولايات المتحدة للعمل في بيئة إقليمية آمنة في آسيا والمحيط الهادئ، سمحت واشنطن لبكين بلعب دور أكبر في الشرق الأوسط بهدف تجفيف الصين من الصراعات المعقدة في المنطقة، طبقا لمركز”استراتيجيك”.

وزير الاقتصاد الإيراني إحسان خاندوزي مع نظيره السعودي فاضل الإبراهيم - إنترنت
وزير الاقتصاد الإيراني إحسان خاندوزي مع نظيره السعودي فاضل الإبراهيم – إنترنت

وفقا للمركز، “صحيح أن الدبلوماسيين الصينيين حققوا نجاحا كبيرا، لكنهم يواجهون تحديات كثيرة في ظل الخلافات العقائدية بين السعودية وإيران. على سبيل المثال، لا يزال من المرجح أن تحدث عودة التوترات بين الدولتين. وقد يؤدي ذلك إلى وضع الصين في مركز الصراعات، مما يعمق دور الصين في حلقة معقدة ومترابطة من عدم الاستقرار في المنطقة”.

في حين قد يُنظر إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية على أنها خطوة مهمة نحو حل الصراع اليمني، فمن الضروري الاعتراف بحسب لورو، بأن الدوافع الأساسية للتنافس بين المملكة السعودية وإيران لا تزال دون تغيير إلى حد كبير. ولا تزال النزاعات حول المواقع المقدسة، والمعارك بالوكالة في الدول المجاورة، والمناورات من أجل الترتيبات الأمنية الإقليمية ، والمخاوف المحيطة ببرنامج إيران النووي تغذي هذا الخلاف القديم.

يمكن النظر إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية بقيادة بكين على أنها لفتة رمزية، إلا أن تأثيرها على تخفيف التوترات ومعالجة هذه القضايا الأساسية لا يزال محدودا، وبدا ذلك واضحا في انسحاب الصين السياسي من الاجتماعات التي عقدتها الرياض، سواء عربيا والتي نتج عنها حضور سوريا إلى القمّة العربية، أو المفاوضات مع جماعة “الحوثي”، أو الاشتباكات في السودان.

بالنظر إلى هذه الديناميكيات المعقدة، فإن تقييم النتائج الإجمالية لاستعادة العلاقات بين السعودية وإيران برعاية الصين بات واضحا، كونه ولّد زخما دبلوماسيا مؤقتا، ما يعني أنه مجرد عرض دبلوماسي تم تنظيمه من خلال التدخل الصيني، في حين أن الإنجازات الكبيرة لم تتحقق، والوقت وحده هو الذي سيكشف الطبيعة الحقيقية لهذا المسعى وتأثيره وكونه مناورة دبلوماسية عابرة تنسّقها قوى خارجية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة