في عالم متغير ومتسارع، تحاول النساء السوريات مواكبة التطورات والصيحات التي تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تشمل أشكالا جديدة ومبتكرة من الحفلات والمناسبات؛ فسواء كانت حفلات الولادة أو أعياد الميلاد أو حفلات الخطوبة أو الطلاق أو ذكرى الزواج، فإن النساء السوريات يسعين إلى إظهار جانبهنّ المميز والمبهر، وإلى مشاركة لحظاتهنّ السعيدة أو الحزينة مع أصدقائهنّ ومتابعيهنّ على السوشال ميديا.

لكن هذا الهوس بالحفلات له ثمنه الباهظ، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تضرب سوريا منذ سنوات، فكثير من هذه الحفلات تتطلب تكاليف عالية من حيث التجهيز والتنظيم والديكور والضيافة والتصوير؛ ولأن كثيرا من النساء السوريات لا يستطعن تحمّل هذه التكاليف من مدّخراتهن أو دخلهن، فإنهن يلجأن إلى حلّاً آخر، ألا وهو القروض.

فقد ازدهر في سوريا مؤخرا سوقا للقروض المصرفية أو غير المصرفية، يستهدف خصوصا النساء الراغبات في عمل حفلات من نوع آخر، فعدّة بنوك وشركات تمويل تقدّم خدمات تقسيط أو تأجير أو تأمين للسيدات، بشروط مغرية أو مرنة، لزيادة الإقبال على هذه الخدمات، كما أن عدّة مراكز إعداد وتنظيم الحفلات تتعاون مع هذه المؤسسات المالية، لتسهيل عملية اقتراض الأموال للسيدات، بحجة أن هذا يخدم رغباتهنّ وحاجاتهن.

فكرة الـ “هابي مومنت” تجتاج البيوت السورية

هذه الظاهرة تجسّد ثقافة اجتماعية تعتمد على التصوير والتوثيق ومشاركة كل تفاصيل الحياة اليومية على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا ما أثّر بشكل كبير على النساء السوريات وجعلهن يضعن مزيدا من الضغط على أنفسهن لتنظيم حفلات مميزة ومتميزة تعكس نجاحهنّ وسعادتهنّ، ولكن هل هذا حلٌّ حقيقي أم مشكلة جديدة، وهل هذا يُعبّر عن حرية اختيار أم قهر اجتماعي، وهل هذا يؤدي إلى سعادة نفسية أم إلى ديون مادية.

فكرة الـ”هابي مومنت” أو اللحظات السعيدة، تعبّر هذه الظاهرة عن ثقافة اجتماعية تعتمد بشكل كبير على التصوير والتوثيق، ومشاركة كل تفاصيل الحياة اليومية على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد أثر هذا الأمر بشكل كبير على النساء السوريات، حيث زاد من الضغط على أنفسهن لتنظيم حفلات مميزة واستثنائية تعكس نجاحهن وسعادتهن.

الشهادات التي حصل عليها “الحل نت” من النساء السوريات تظهر تحولا ملموسا في نمط حياتهنّ، إذ يجدن أنفسهن في سباق دائم لتنظيم حفلات واحتفالات للمناسبات المختلفة، هذه الضغوطات الاجتماعية والثقافية تشجعهنّ على البحث عن مظهر مثالي وإقامة حفلات مبهجة، مما يتسبب في زيادة النفقات والتكاليف.

روزانا السويدي، وهي معلمة قالت لـ”الحل نت”، “لاحظت في السنوات الأخيرة كيف أصبحت منشورات السوشيال ميديا تؤثر بشكل كبير على معظم صديقاتي وأقاربي، كل واحدة تسعى لإقامة حفلات مميزة وجذابة لأي مناسبة قادمة، سواء كان ذلك حفل زفاف، حفلة خطوبة، أو حتى عيد ميلاد بسيط، لم أستطع أن أقاوم هذا الضغط وشعوري بأن يجب أن أقدم شيئا استثنائيا لعائلتي”.

من جهتها سلمى التي تعمل في بنك “عودة”، ذكرت “بالنسبة لي، تحولت فكرة الــ هابي مومنت، إلى ضغط اجتماعي حقيقي، وقرّرت تنظيم حفلة زفاف يحكي فيها الكل، لكن سرعان ما وجدت نفسي محاصرة بتكاليف باهظة حوالي 25 مليون ليرة سورية، لم يكن لدي أي خيار سوى اللجوء إلى البنك لطلب قرض من أجل تمويل الحفلة”.

نور التي لا تزال تبحث عن عمل بعد تخرّجها من كلية الآداب بجامعة “دمشق”، أوضحت لـ”الحل نت”، أنه على الرغم من الأزمة الاقتصادية السائدة في سوريا، إلا أن ضغط الاحتفال بالمناسبات يزداد يوما بعد يوم، وتقول “لا يمكننا أن نتخلى عن تلك اللحظات السعيدة، ولكن في الوقت نفسه، نجد أنفسنا مضطرات للاقتراض من البنوك لتمويل تلك الاحتفالات”.

أما لينا الحريري التي عاشت اللحظة منذ أيام خلال حفل استقبال مولودها الجديد والتي بلغ تكلفتها 12 مليون ليرة سورية، أشارت إلى أنه دائما كانت مؤمنة بأهمية إظهار الفرح والاحتفال باللحظات السعيدة في الحياة، لكن بعد تفاقم الوضع الاقتصادي في سوريا، أصبح من الصعب جدا تحمّل تلك التكاليف، وطلبت قرضا من البنك التجاري لتمويل حفل استقبال المولود، مضيفة “هذا كان قرار صعب ولكن لم أرغب في تفويت تلك اللحظة”.

“بيبي شاور” للأمهات العصريات.. والكراوية للجدّات فقط

هذه الشهادات تكشف عن تحوّل النساء السوريات نحو استخدام القروض لتمويل فكرة الـ “هابي مومنت”، والتي تسببت في زيادة الضغوط المالية على الأفراد في وقت تواجه فيه البلاد أزمة اقتصادية صعبة، تلك القرارات تظهر قوة الاحتفال بالسعادة والتمسك باللحظات الجميلة في حياة الناس، ولكنها أيضًا تسلط الضوء على تحديات مالية جديدة تواجه الأُسر في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.

من وجهة نظر الحريري فهذه الفكرة ليست جديدة، فقد كانت موجودة في بعض البيوت السورية التقليدية، فمثلا على رغم اختلاف عادات استقبال المولود الجديد بين منطقة سورية وأخرى، كان مشروب “الكراوية” المكون من الرز المطحون المغلي مع مزيج السكر والمكسرات وبهارات الكراوية المشروب الذي توالت الأجيال في سوريا على تقديمه للمهنّئين الذين يتوافدون إلى منزل الأم الحديثة الولادة.

لكن هذا المشروب بدأ يفقد بريقه أمام الطرق الحديثة والمبتكرة للاحتفال بالقادم الجديد، فمع تطور التكنولوجيا وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، بدأت هذه الفكرة تأخذ شكلا جديدا ومختلفا تحت مسمى حفلة “بيبي شاور”.

فالآن يمكن للناس تصوير ومشاركة لحظاتهم السعيدة مع العالم بضغطة زر، فسواء كانت حفلات الميلاد أو الزفاف أو التخرج أو السفر أو المناسبات الخاصة، فإن كثيرا من الناس يحبون إظهار هذه اللحظات بشكل مبهر ومثير للإعجاب؛ ولهذا يستخدمون خدمات مختصة في التصوير والديكور والإضاءة والمؤثرات، لإنشاء مشاهد رائعة تلائم المناسبة.

هذه الخدمات حسب حديث السويدي ليست رخيصة، بل تتطلب مصاريف كبيرة، ولأن كثيرا من الناس لا يستطيعون تحمّل هذه المصاريف من مدخولهم أو مدّخراتهم، فإنهم يلجأون إلى حلّ آخر، ألا وهو القروض التي باتت توفرها العديد من البنوك وشركات التمويل الخاصة.

لذلك ازدهر في سوريا مؤخرا سوق للقروض المصرفية أو غير المصرفية، يستهدف خصوصا النساء اللواتي يتجهن لهذه الحفلات من أجل إظهار بيتها ومناسباتها لأقاربها أو حتى متابعينها، فعلى سبيل المثال تغيرت النظرة التقليدية للمرأة المطلقة، والتي كانت تخفي خبر طلاقها بدعوى “العيب”، وباتت اليوم في سوريا تعقد تجمعات نسائية للاحتفال بالطلاق. 

قروض فورية وبدون كفيل

هذا الاتجاه الجديد لدى النساء السوريات، أدى لانتشار الشركات التي تعمل على تقديم القروض للنساء ودون كفيل، وجاء ذلك بعد تصدّر تساؤل على صفحات البحث الأولى، حول كيفية الحصول على قرض فوري بدون كفيل في سوريا، خاصة بسبب القرارات التي تم إصدارها مؤخرا من قِبل المصرف “التجاري” السوري وغيره من الجهات المانحة للقروض والتي سهّلت عملية الحصول على قرض شخصية في البلاد بشكل كبير.

حاليا يتم منح القرض الفوري، من قِبل مصرف “الوطنية” للتمويل الأصغر وهو موجّه خصيصا للأفراد من ذوي الدخل المحدود، مثل الموظفين في القطاعات الحكومية أو الموظفين في القطاعات الخاصة، كما يمكن لأصحاب الأعمال والمِهن الحرة الحصول على القرض هذا إلى جانب المتوفر من قروض تجارية في المؤسسات المالية.

يتم صرف قيمة القرض هذا بشكل مباشر وخلال 24 ساعة فقط فور استيفاء الأوراق والوثائق المطلوبة، ويمكن تسديد هذا القرض خلال فترة تتراوح بين 6 شهور وتصل حتى 48 شهر أي لمدة 3 سنوات، لكن بمعدل فائدة سنوية تصل حتى نسبة 18 بالمئة من المبلغ المقترض.

من الناحية الاقتصادية، تشهد سوريا أزمة حادة تضرب معظم قطاعاتها، وأدت إلى انهيار قيمة الليرة وارتفاع معدلات التضخم والفقر، فحسب تقرير لـ”البنك” الدولي، فإن أكثر من 90 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وأن 12 مليون سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي. 

كما أن التقارير تشير إلى ارتفاع نسبة التسرب المدرسي وانخفاض مستوى الخدمات الصحية والتعليمية، وفي محاولة لمواجهة هذه الأزمة، اتخذت الحكومة السورية قرارات اقتصادية مثيرة للجدل، مثل رفع أسعار المحروقات وزيادة رواتب الموظفين، ولكن هذه القرارات لم تخفّف من وطأة الارتفاع الكبير في أسعار السلع.

من جهة أخرى، تشهد سوريا تغيرات اجتماعية وثقافية ناتجة عن التطور التكنولوجي وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، فالآن، يستطيع الناس مشاركة حياتهم وآرائهم مع الآخرين بسهولة، والتعرف على صيحات جديدة في الموضة والأزياء والديكور.

بهذا نجد أن هناك علاقة بين الأوضاع الاقتصادية والتطور الاجتماعي في سوريا، وأن ارتفاع نسبة المقترضين يعكس تأثير هذين العاملين على قرارات وسلوكيات الناس، فالقروض قد تكون حلّا مؤقتا لتلبية حاجات أو رغبات الناس، لكنها قد تكون مشكلة جديدة على المدى البعيد، إذا لم يتمكن الناس من سدادها أو إذا تسببت في ديون أو فوائد زائدة.

الحديث عن سوريات يقترضن من البنوك لحفلات من نوع آخر، هو ملفت للانتباه ويثير الفضول، ولكنه يخفي خلفه حقائق مؤلمة ومتناقضة، فالحفلاتُ التي تبدو ممتعة وجميلة على السوشيال ميديا، قد تكون مرهقة ومكلفة على الواقع، والقروض التي تبدو مغرية ومرنة على الورق، قد تكون محفوفة بالمخاطر والعواقب على المدى البعيد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات