مصطلح “ما في مصروف” ليس مجرد عبارة عابرة، بل هو صدى لمعاناة حقيقية تؤثر في العديد من الأُسر السورية، إن هذه العبارة تعكس تحديات اقتصادية غير طبيعية تعيشها سوريا جراء السياسات الاقتصادية للحكومة السورية، وتأثيرها الوخيم على الحياة اليومية للمواطنين، خاصة الأطفال.

إن الوقوف أمام هذا المشهد القاسي يجعلنا ندرك مدى أهمية الحديث عن هذا الموضوع الحساس والمؤثر، إنه ينطوي على قصص حقيقية لأطفال سوريين يعانون من عواقب أزمة اقتصادية طاحنة، وتأثيرها على تعليمهم ومستقبلهم.

الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها سوريا منذ سنوات، لها تأثيرات وخيمة على حياة المواطنين، خاصة الفئات الأكثر ضعفا وهم الأطفال، خصوصا أن هذه المشكلة تواجه العديد من الأطفال السوريين الذين يذهبون إلى المدارس، وهي عدم حصولهم على مصروف يومي من أهاليهم، بسبب الفقر والغلاء وانهيار العملة، والتي تؤثر على نواحي مختلفة من حياتهم اليومية، مثل التغذية والصحة والتعليم والترفيه والعلاقات الاجتماعية. 

100 ألف ليرة مصروف طفل لشهر كامل؟

في حديثها مع “الحل نت”، تقول أم محمد السبروجي، وهي أم لـ 3 أطفال في الصف الخامس والثالث والأول على التوالي، “أطفالنا هم مستقبل شعب بأكمله، وتعليمهم يمثّل أحد أهم ركائز هذا المستقبل، وإذا لم يكن لديهم وجبات غذائية كافية أو القدرة على شراء اللوازم المدرسية الأساسية، فإن ذلك سيؤثر بشكل كبير على تركيزهم في الفصول الدراسية وأدائهم الأكاديمي”.

لا تناقش السبروجي مع “الحل نت” الظروف الاقتصادية وما آلت إليه الأحوال داخل البلاد بسبب السياسات الاقتصادية التقليدية التي تتّبعها الحكومة، بل ترى أن مشكلتها أكبر من ذلك، فهي ترى أن ابنها الذي دخل جديدا إلى عالم التعليم وتحديدا منذ أسبوعين، بدأت تظهر لديه مشاكل نفسية مثل القلق والاكتئاب.

هذا القلق والاكتئاب الذي تحوّل لاحقا إلى كوابيس ليلية لديه، تفسرها السبروجي، أنها نتاج لعدم إعطائها المصروف منذ اليوم الأول، حيث يقتصر طعامه خلال الاستراحة على سندويشة الزعتر، بينما يشاهد أقرانه في المدرسة يشترون ما لذ وطاب، ويسألونه عندما يمرق بنظراته إلى طعامهم، لماذا لا تشتري، هل أهلك يعطونك مصروف.

الخوف من أن تتأثر نفسية محمد الذي رحل والده مؤخرا نتيجة جلطة دماغية ألمت به بسبب ضيق الأحوال المادية حسب حديث والدته، هو ما يشغل بالها، فهي لا تستطيع أن تخصص 100 ألف ليرة مصروفا له، حيث تبلغ تكلفة السندويشة وعلبة العصير ما يقارب 5 آلاف ليرة سورية.

أطفال بلا خرجية 

“أطفال بلا خرجية” هي عبارة تستخدم لوصف الأطفال الذين لا يحصلون على مال من أهاليهم لشراء الطعام أو الألعاب أو الكتب في المدرسة، وهذه العبارة تعبر عن الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه الكثير من الأطفال في بعض البلدان، خاصة في ظل الحروب والأزمات والفقر، وهي تشبه عبارة أطفال بلا مأوى، التي تستخدم لوصف الأطفال الذين يعيشون في الشارع دون مأوى أو رعاية أو تعليم.

الكثير من الأُسر السورية حرمتْ أطفالها من المصروف أو “الخرجية” التي كانت عبارة عن تقليد لا يمكن المساس به، ومتعارف عليه بأوقات معينة من اليوم وغالبا قبل الذهاب إلى المدرسة، وغالبا ما يكون المبلغ كافيا لشراء ما يشتهيه الطفل في المدرسة أو خارجها.

فالإجابة على السؤال لماذا لا يحصل الأطفال على خرجية، بسبب؛ لأن الأسر السورية لا تستطيع تحمّل هذه النفقة الإضافية في ظل تردي الأوضاع المعيشية وارتفاع الأسعار وانخفاض الدخل، فالخرجية التي كانت تعتبر تقليدا لا يمكن المساس بها، أصبحت اليوم ترفا لا يمكن تحملها.

على سبيل المثال تقول السبروجي، “لو أعطيتُ أولادي خرجية يوميا، فسأحتاج إلى 300 ألف ليرة في الشهر، وهذا مبلغ كبير جدا، يمكنني منه شراء الخبز والطعام الأساسي لعائلتي، فأنا أفضل أن أحرمهم من الخرجية وأعطيهم ما يسد الرمق”.

لا يمكن إنكار أن الأطفال السوريين يشعرون بالحزن والاكتئاب والنقص والحرمان، ويفقدون الثقة بأنفسهم وبآبائهم، ومن الناحية الاجتماعية، يتعرض الأطفال للتمييز والاستهزاء والتّنمر من قبل زملائهم الذين يحصلون على خرجية، ويصبحون عرضة للسرقة أو التسول أو الانحراف.

هذا ما تؤكده لـ”الحل نت”، نهاد أبو عريضة، معلمة في إحدى المدارس الابتدائية في دمشق، والتي ذكرت “أرى بأم عيني كيف يتألم الأطفال الذين لا يحصلون على خرجية، وكيف ينظرون بحسرة وحسد إلى الأطفال الذين يشترون الأشياء التي يحبونها، وأرى أيضا كيف تحدث المشاجرات والمشاكل بين الأطفال بسبب هذا الفارق الطبقي، وأحاول دائما أن أنصح الآباء والأمهات بعدم إرسال مبالغ كبيرة مع أطفالهم، أو بإعطاء الأطفال بعض الطعام من المنزل، لكن لا يستمع الجميع، فالخرجية أصبحت مؤشرا على الثراء أو الفقر في وقتنا هذا”.

الطبقة الغنية بسوريا لا تتجاوز 10 بالمئة

في سوريا بعد 12 عام من تربّع الحكومة على سياسة واحدة في الاقتصاد، بدأت ظاهرة اختفاء الطبقة الوسطى في المجتمع السوري، وظهور طبقتين متناقضتين؛ طبقة غنية تعيش في رفاهية، وطبقة فقيرة تعاني من الجوع والفقر، ما أدى هذا التحول الكبير في تركيبة المجتمع السوري إلى اختلال فيه.

لتحديد نسبة الطبقة الوسطى في أي بلد، يجب أن نستخدم معايير موضوعية ومنطقية، تعتمد على الدخل والاستهلاك والمؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولكن هذه المعايير تختلف من بلد إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، بحسب الظروف والمتغيرات التي تؤثر على الواقع المعيشي للناس.

على سبيل المثال في بعض البلدان، يعتبر الشخص الذي يحصل على دخل يومي يزيد عن 10 دولارات أميركية من الطبقة الوسطى، بينما في بلدان أخرى، يجب أن يحصل على دخل يومي يزيد عن 20 دولارا أميركيا لينتمي إلى هذه الطبقة.

في سوريا كانت الطبقة الوسطى تشكل نسبة كبيرة من المجتمع قبل عام 2011، وتضمنت فئات مختلفة من الناس، مثل الموظفين والمهنيين والمتقاعدين والمزارعين والتجار والحرفيين والمثقفين والطلاب، وكانت هذه الطبقة تعيش براحة نسبية، وتستطيع تلبية احتياجاتها الأساسية وبعض الرغبات الفوقية، وتشارك في النشاطات الاجتماعية والثقافية والسياسية بحرية ومسؤولية، وكانت هذه الطبقة تلعب دورا فعالا في دعم الاقتصاد الوطني والتنوع الثقافي والحوار السياسي في البلاد.

لكن منذ عام 2014 بدأت الطبقة الوسطى في المجتمع السوري تتلاشى شيئا فشيئا، ومع ارتفاع الأسعار وانخفاض الدخل وانهيار العملة، اختفت الطبقة الوسطى تماما، وظهرت طبقتين متناقضتين، لكن تشير تقارير إلى أن نسبة الطبقة الغنية لا تتجاوز الـ 10 بالمئة من مجموع السكان.

في حين أن أكثر من ثلث الشعب السوري يعتبر غير آمن غذائيا، وذلك حسب مسح الأمن الغذائي الذي أجراه المكتب “المركزي” للإحصاء بالتعاون مع هيئة التخطيط والتعاون الدولي ومنظمة برنامج الأغذية العالمي، والذي كشف عن أن نسبة 23.4 بالمئة فقط من الشعب السوري آمن غذائيا.

في استطلاع للرأي أجراه الفريق الاقتصادي لموقع “بزنس 2 بزنس”، لفت بعض الأطفال من طلاب أحد أهم المدارس الخاصة في سوريا إلى أن مصروفهم الشهري يتجاوز الـ 200 ألف ليرة سورية.

قبيل عام 2011 كان متوسط مصروف الأطفال في سوريا يبلغ 15 ليرة سورية، وكان بإمكان الطفل شراء عبوة كولا سعة ثلث لتر بها، أو كيس شيبسي متوسط الحجم، وبينما كان يبلغ الحد الأدنى للأجور أكثر من 6000 ليرة بقليل، كانت “الخرجية” لا تشكل أكثر من 25.0 بالمئة، ما يعني أن راتب الموظف يمكن أن يسدد قيمة 400 “خرجية” متوسطة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات