يجعل حجم الفاجعة والمجزرة والدمار اليوم، وسيل الدماء الفلسطيني الذي سال ويسيل ولا نعلم إلى أي مدى سيستمر، (يجعلُ) من الكلمات عبئا ثقيلا، ورؤية الصورة بكاملها عصيّة على المراقب. ربما هو شجن الذاكرة وأحلام الثورة الفلسطينية العتيقة، يعصفان بالكلمات ويزيحانها عن الواقع وعن الحقيقة المؤلمة التي لا يجب أن نتغاضى عنها، أو على الأقل نُلقي ضوءاً على الحدث بعيداً عن العاطفة، ومن زاويتين مختلفتين، تعكسان ولو جزءاً من الخارطة السياسية للمواقف المتناقضة التي تطفو على السطح عند كل حدثٍ سياسي أو عسكري في المنطقة.

بطبيعة الحال، ليس من السهل تأطير الصورة كاملة في عدة فقرات، ولكننا سنكتفي بالأكثر إلحاحا منها، وهو دور إيران في ما يجري بغزة اليوم، وحسابات الربح والخسارة الإيرانية، التي باتت تتدخل في أحداث المنطقة، بعد ثورتها الإسلامية، كأوراق تخدم مصالحها وأحلامها التوسعية، وتتورط في سفك دماء شعوبها، بشكل مباشر، أو عن طريق أذرعها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين تحت ما يسمى “محور المقاومة”.

الممانعة العاطفية والممانعة “السياسية”

لا شك بأن عملية “طوفان الأقصى” في أيامها الثلاث الأولى قد أجّجت العاطفة الفلسطينية وأيقظت الحُلم الراسخ في الوجدان، حلم التحرير والعودة للوطن، وزاد في الطنبور نغماً، حناجر وأقلام “الممانعة السياسية” التي بدأت تتسابق وإعلامها بالعزف على أوتار العاطفة للقضية الفلسطينية و”محور المقاومة”. 

في اليوم الثلاثين من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بتاريخ 5 نوفمبر 2023، يقوم المدنيون الفلسطينيون وفرق الإنقاذ بتمشيط أنقاض مبنى منهار في المغازي وسط قطاع غزة. (تصوير محمد زعنون / الشرق الأوسط)

واستطاعت استجرار بعض الأقلام التي كانت تتّسم بالواقعية السياسية إلى فخ “الممانعة العاطفية” إن جاز التعبير، لنقرأ أو نسمع عبارات مثل “تمريغ أنف المؤسسة العسكرية الإسرائيلية” أو “تحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي وهيبته ونفوذه”، أو أن “المقاومة الفلسطينية” حقّقت ما عجزت الجيوش العربية عن تحقيقه رغم تواضع سلاحها. 

ففي هزيمة عام 1967 قُتل 600 جندي إسرائيلي، ونحو 2400 جندي إسرائيلي في حرب 1973، بينما عملية “طوفان الأقصى” في يومها السادس وصل عدد القتلى الإسرائيليين إلى 1300 وإصابة أكثر من 2700 حسب “هيئة البث الإسرائيلية”؛ ولأول مرة تواجه إسرائيل معركة داخل مستوطناتها ومعقل قواتها.

ومن الواضح أيضاً أن القوى “الممانعة” التي تدعم “حماس”، إيران على وجه الخصوص، على ما يتضح حتى الآن لن تذهب بعيداً في دعمها، والدخول المباشر في الحرب، أو حتى عن طريق أذرعها في المنطقة، والأمر لن يتعدى بعض الاشتباكات الخفيفة على الحدود اللبنانية مع “حزب الله”، خصوصاً أن أميركا اعتبرت أن ما جرى هو تهديد مباشر لها. 

وهو من الخطورة ليدفع بعض السياسيين الأميركيين إلى اعتباره 11 أيلول/سبتمبر ثان، أو أن تعتبر افتتاحية صحيفة “وول ستريت جورنال” أن: “إسرائيل تقف على الخطوط الأمامية، لكن العالم الديمقراطي هو الهدف”. 

وول ستريت جورنال

وليس تحريك حاملة الطائرات الأميركية إلى المنطقة سوى رسالة تحذير لإيران من التدخل في الحرب، وفتح جبهات أخرى مع إسرائيل في لبنان أو سوريا، وبحسب صحيفة “يديعوت أحرنوت” الإسرائيلية، فإن إسرائيل وجّهت تحذيراً لـ “حزب الله” عبر فرنسا بأنه إذا دخل الحرب، فإن إسرائيل ستقوم بتوجيه ضربات قوية لدمشق تشبه الضربات التي وجهتها للضاحية الجنوبية في حرب تموز/يوليو 2006، وأن “الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه” سيكونان معرّضين للخطر.

“محور المقاومة” والقضية الفلسطينية

ليس غريباً أن تمييع القضية الفلسطينية وفقدانها لبريقها الشعبي والوجداني لدى شرائح واسعة من الشعوب العربية والإسلامية، التي كانت فلسطين قضيتها المركزية، لم يتم إلا بعد أن غدت فلسطين ورقة لدى القوى الفاعلة في المنطقة تُوضع على الطاولة للابتزاز السياسي في أماكن أخرى، وعلى رأسها إيران، خصوصاً بعد تدخّلها السافر لدعم حكومة دمشق و”الحوثيين” في اليمن على نحو طائفي. 

ليلة سقوط محور المقاومة من يتحمل وزر الدم الفلسطيني؟
لافتة ضخمة معلقة على جدار في زاوية ساحة الفردوس تظهر قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني الذي تم اغتياله مع شخصيات أخرى، وهم ينظرون إلى المسجد الأقصى في 16 مارس 2023 في بغداد، العراق. (تصوير كافيه كاظمي / غيتي)

حيث إن إيران أكثر من استخدمت هذه الورقة بعد أن سحبت البساط من تحت فصائل “المقاومة” بأشكالها كافة، وحصر “المقاومة” بالفصائل الموالية لها والتي تسلّحها وتدربها لوجستياً وعسكرياً كـ “حزب الله”، و”حماس”، و”الجهاد الإسلامي”. ومما لا شكّ فيه تورّط إيران بشكل غير مباشر في عملية “طوفان الأقصى” من حيث التسليح، والتدريب، ولربما التوقيت أيضاً.

لكن ما يثير التساؤل وربما الاستغراب: هل تُقدم “حماس” الطاعة العمياء لإيران، أم أنه تبادل مصالحٍ فقط؟ وهل من الممكن أن تُقدِم “حماس” على عملية بهذا الحجم دون حساب رد الفعل الإسرائيلي، الذي سيدفع ثمنه المدنيون الفلسطينيون، بإيعازٍ من إيران فقط؟ أم أن لدى “حماس” حسابات أخرى، تكتسب من خلالها شرعيةً وتفويضاً لقيادة العمل الوطني الفلسطيني وتحييد سلطة رام الله عن هذا الدور؟ أم أن الحصار الخانق الذي تعيشه غزة منذ ستة عشر عاماً، واستفزاز المستوطنين الإسرائيليين واقتحام الأقصى بشكل متكرر، وإمعان اليمين الإسرائيلي في إذلال الفلسطينيين في السنوات الأخيرة دون رادع أو مسائلة دولية، دفعا “حماس” لهذه المغامرة، أو أنه تضافر هذه العوامل السابقة الذكر كلها!

في حسابات الربح والخسارة، وبلا شك، فإن الرابح الأكبر في هذه الحرب هو إيران ودمشق، و”حماس” على نحو أقل، واليمين الإسرائيلي إلى درجة كبيرةٍ، والخاسر الوحيد، هم المدنيون الفلسطينيون العُزَّل. 

كيف ربح اليمين الإسرائيلي؟

اليمين الإسرائيلي هو الرابح أيضاً بالاستناد إلى أن حكومة نتنياهو التي كانت مهددة بالسقوط، وبحاجة إلى تصعيد عسكري كبير مع الفلسطينيين للتغطية على فشلها الداخلي، في ظل تصاعد الخطاب الاحتجاجي ضدها داخل إسرائيل، والذي كان من الممكن أن يتحول إلى عصيان مدني، وسبق أن هددت بالتطهير العرقي على نحو ما يجري اليوم بالفعل في غزة. 

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (يسار) يرحب في 17 أيلول/سبتمبر في القدس بالحاخام قدوري، الخبير البارز في الكابالا (التصوف اليهودي). (تصوير داود مزراحي / وكالة الصحافة الفرنسية)

وسيزيد حكماً بعد إقدام إسرائيل على اجتياحها البري، فهم لا يرون الفلسطينيين أكثر من “حيوانات بشرية” كما صرّح السّاسة الإسرائيليون أنفسهم، وهذا ما قدمته “حماس” بالفعل لنتنياهو على طبق من ذهب.

هذا ما يؤكده الكاتب والأكاديمي الإيطالي- السوري وأستاذ الدراسات الشرقية في جامعة “نابولي” الإيطالية، سامي حداد، الذي قال في حديثه لـ “الحل نت”: إن “إيران قد تكون خلقت، أو ساهمت في خلق الظروف العامة المناسبة للعملية، ودفعت حماس بشكل غير مباشر للتحرك. الأمر يتعلق بالدرجة الأولى بالتطبيع العربي مع إسرائيل وهو ما سيضعف الدور الإيراني في المنطقة على أكثر من صعيد وخصوصاً الصعيد الاقتصادي”.

ويرى حداد أن حماس وإيران استفادتا من الحصار المفروض على الفلسطينيين، معتبراً أن “حماس حركة بلا مبادئ، يمكن لها أن تعارض سياسة النظام السوري في لحظة من اللحظات، وتتلقى في الوقت نفسه مساعدات ودعماً من إيران، وهي تعمل على مشروع أساسي لها هو تقويض السلطة الفلسطينية في الضفة وخلق سلطة أمر واقع هناك تماماً كما فعلت وتفعل في غزة، وهي بذلك تشبه “حزب الله” في لبنان”.

أننا اليوم واقعون جميعاً في مأزق: تحالف حماس مع إيران من جهة، وغض النظر الغربي عن إيران وسياساتها في المنطقة من جهة ثانية. فحماس تنفّذ أجندة إيرانية، أي أجندة لا تتعلق بالمشروع الوطني الفلسطيني، والفلسطينيون في القطاع واقعون تحت سلطتها وهيمنتها كحركة مدعومة من قطر وإيران وامتدادات الإخوان المسلمين

أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة “نابولي” الإيطالي، سامي حداد

وفي قراءة مردود هذه العملية على الفلسطينيين بشكل أساسي، يعتقد حداد من خلال قراءة المشهد قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر الفائت: كان هناك حراك فلسطيني مدني ضد تل أبيب، وحراك إسرائيلي ضد حكومة نتنياهو، وهذا كله صار من الماضي الآن. العملية قوّت نتنياهو واليمين المتطرف في إسرائيل كثيراً.

إن واقع الحال يقول أن هذه التنظيمات الراديكالية الإسلامية، على الرغم من تباعدها العقائدي والأيديولوجي، تتشابه في العقلية المتحجّرة التي تعاني من تضخم الذات والتمادي في إنكارها للغير ووجوده أصلاً، فضلاً عن أن الغاية تبرر الوسيلة في أدبياتها، وفي أي فعل يخدم مصلحتها.

يحيى السنوار (الثاني من اليسار)، زعيم حركة حماس الإسلامية الفلسطينية في قطاع غزة، يقف متفرجًا بينما يحمل مقاتل ملثم من كتائب القسام التابعة لحماس سلاحًا ناريًا يقال إنه يخص الجندي الإسرائيلي هدار غولدين. (تصوير محمد عابد / وكالة الصحافة الفرنسية)

والمفارقة المثيرة للسخرية أن النقيض لها، أو ما يفترض أن يكون نقيضاً، الأحزاب اليسارية “الممانعة” في سوريا، ولبنان، وفلسطين تحديداً، والتي خلعت قبعة لينين وارتدت عمامة حسن نصرالله في تموز/يوليو 2006، وعباءة “حماس” في 2023. 

ولا تزال هذه القوى والأحزاب تردّد الأسطوانة ذاتها عن الإمبريالية المتوحشة وسياسة الكيل بمكيالين الغربية، والتدخل السافر للغرب لدعم إسرائيل في وجه القوانين الدولية، وهو ما لم يتغير منذ النكبة عام 1948 إلى يومنا هذا.

بمثابة تصوّرٍ للأيام القادمة

لن يختلف اثنان على أن ما يجري هو جريمة حرب على مرأى العالم بأسره، وحرب إبادة، من قطع الماء والكهرباء والطعام عن غزة إلى القصف العشوائي الذي لا هدف له، على ما يبدو، سوى قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين الفلسطينيين. 

طفل فلسطيني يجلس بجوار جثث قتلى القصف الإسرائيلي ملفوفة، قبل نقل الجثث من مستشفى شهداء الأقصى لدفنها، في دير البلح، وسط قطاع غزة، في 6 نوفمبر 2023، (تصوير محمود همس / وكالة فرانس برس)

لكن، هل يدفع هذا الحدث الجلل، بعد انتهائه، “حماس” إلى الأسف والندم على العملية؟ على نحو ما قاله حسن نصرالله، بعد حرب تموز/يوليو “النصر الإلهي”: بأنه لو كان يعلم أن عملية الأسر تحتمل ولو 1 بالمئة أن توصل إلى حرب كالتي حدثت لما نفّذها! وهل يدفع إلى طاولة مفاوضاتٍ تُغيِّر وجه المنطقة، وترسم شكلاً جديداً للشرق الأوسط على أسسٍ جديدة، عادة ما يخرج منها الفلسطينيون خاسرين؟ وهل ستسعى بعض الدول العربية، إلى إطلاق مسارٍ جديد لاتفاقات تنهي الوضع القائم مع إجبار إسرائيل على تقديم تنازلات فيما يتعلق بحل الدولتين.

يبدو أن الحرب ستطول، قبل أن تتضح الممكنات السياسية لما بعدها في المنطقة ككل، وليس في الأراضي الفلسطينية لوحدها، وإلى أن ينقشع غبار الحرب، وتدور رحى السياسة، سيبقى مشهد الدم الفلسطيني طاغ، ويلطخ وجه “محور المقاومة” أجمع.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات