ترجع بداية ظهور “حزب الله” اللبناني إلى الحرب الأهلية الدامية في لبنان، في الفترة من (1975-1990)، والغزو الإسرائيلي لها عام 1982 وطرد “منظمة التحرير الفلسطينية”، لتتشكل هنا رغبة إيران بعد عام 1979 في تصدير ثورة حلفائها الإسلاميين. 

وبينما وفّرت الحالتان الأوليان الأساس المنطقي لنشوء قوة شبه عسكرية منظمة جديدة لحماية مصالح الشيعة وعلى وجه التحديد في جنوب لبنان ومقاومة إسرائيل؛ فقد أرسلت إيران ما يزيد على ألف فرد من “الحرس الثوري” الإيراني الجديد لتربية وتدريب ودعم مجموعة شيعية أكثر تشدداً في لبنان قادرة على تقويض الحزب الحالي.

المجموعة الجديدة أعلنت عن وصولها بسلسلة من التفجيرات الانتحارية ضد الثكنات العسكرية الأميركية في بيروت عام 1983؛ وشنّت حملة ضد القوات الإسرائيلية؛ وأصبح رسمياً “حزب الله” في عام 1985 من خلال كُتيب عام يعكس معاداة الصهيونية كمبدأ تنظيمي للجماعة، ولكن كيف تحولت طموحات “حزب الله” في الهيمنة، إلى حلم تجاوز إمكانيته السياسية؟

الطموح الذي فاق الحدود

مثل “الحرس الثوري” عكست أيديولوجية “حزب الله” الإسلامية في البداية الأممية الشيوعية – مع التركيز على إنشاء أمة إسلامية موحدة بلا حدود جغرافية، حفّزتها الثورة الإيرانية، وفي حين تخلى “حزب الله” عن هذه الشخصية جزئياً في وقت لاحق، فقد ضمن وجود صلة دائمة بين أهداف الجماعة والمُثل الثورية الإيرانية. 

حزب الله
مقاتلو حزب الله اللبناني يستعدون للسير في جنازة أحد زملائه المسلحين، الذي قُتل في جنوب لبنان خلال إطلاق نار عبر الحدود مع القوات الإسرائيلية، في 4 نوفمبر 2023. (تصوير أحمد الربيعي/وكالة الصحافة الفرنسية)

فضلاً عن ذلك، فإن الموقف الشرس المناهض لإسرائيل، والذي غذته طهران في المجموعة الجديدة، خدم مشهد الصراع اللبناني على خير وجه، حيث كان توغل إسرائيل للبنان يثير الاستياء في مختلف أنحاء البلاد.

هنا نجد أن “حزب الله” منذ اللحظات الأولى من وجوده السياسي يبحث عن السيطرة على المشهد السياسي، وإيجاد طرق والمناخ الملائم لتمدّده العسكري تحت راية معادية لإسرائيل ومزوّداً بالأسلحة والتمويل الإيراني، حيث عمل في تلك الفترة على إزاحة جميع الجماعات الطائفية المسلحة في لبنان حتى يتحقق له الهيمنة السياسية والعسكرية. 

وهذا يفسّر لنا ما يُعرف باسم ” اتفاق الطائف” الذي عمل على إنهاء حالة الحرب الأهلية اللبنانية، في الوقت نفسه أكد على وجود “حزب الله” الفعلي حيث تم نزع سلاح جميع الجماعات الطائفية باستثناء الحزب الذي برّر بدوره تسليحه بضرورة مقاومة الاحتلال لجنوب لبنان.

الوجود السياسي والأيديولوجي والعسكري لـ”حزب الله” مقترن بوجود إسرائيل؛ لأن وجود الأخير يعني الإجابة الكافية عن التساؤلات المرتبطة بحاجته المستمرة إلى البقاء مسلّحاً وحول دوره المبالغ فيه في السياسة اللبنانية. ويمكن القول إن هذا ساهم جزئياً كمبرر لنصرالله لإثارة صراع جديد مع إسرائيل، والذي تجلّى في عملية الاختطاف في يوليو/تموز 2006 والحرب التي تلت ذلك.

وحتى عندما أجبر “حزب الله” إسرائيل على الانسحاب مرة أخرى، فإن تعبيرات نصرالله العلنية عن الأسف عكست رد الفعل العنيف الذي واجهته الجماعة داخل لبنان، وكانت هذه آخر مواجهة كبرى لـ”حزب الله” مع إسرائيل.

البحث عن الزعامة

وما أشبه اليوم بالأمس؛ فدائما ما يعتمد “حزب الله” على إشعال الوضع حتى يضمن وجوده المستمر، وهو ما أشار إليه بوضوح رئيس “المنتدى العربي للدراسات”، نبيل البكيري، لـ”الحل نت” بقوله: “ما يقوم به حزب الله يندرج ضمن سياق الوظيفة السياسية التي يقوم بها منذ لحظة التأسيس كجناح إيراني متقدم على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. 

أنصار حركة حزب الله اللبنانية يشاركون في فعالية بمناسبة يوم الشهداء، وسط المعارك المستمرة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية. (تصوير مروان نعماني/ وكالة الأنباء الألمانية)

وبالتالي كل ما يقوم به الحزب يأتي في هذا السياق فقط من الهيمنة على الدولة اللبنانية والحفاظ على بقاء حكومة بشار الأسد إلى الدور الذي يقوم به اليوم؛ كأداة مهمة في يد إيران ومشروع توسعها في المنطقة العربية وخاصة خلال هذه العشر السنوات الماضية، وتمكن وأسقط عواصم عربية مهمة تحت النفوذ الإيراني من بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت تحت هذا النفوذ.

ومع احتدام الصراع بين غزة وإسرائيل، فلابد أن يكون لـ”حزب الله” دور فيه؛ إلا أن هذا الدور جاء مخيباً للآمال العريضة التي كانت تنتظره، ولكنه في الوقت ذاته معبراً عن أيديولوجية راسخة لدى “حزب الله” والمتمثلة في البحث عن دور، وحسن استغلال المشهد السياسي الراهن لمصالحه.

فعند إلقاء نظرة سريعة على ما فعله حسن نصرالله، خلال كلمته في الشهر الجاري، نجد أنها ركزت على عدة أمور: 

أولاً: حذر إسرائيل من مهاجمة لبنان، مؤكداً تركيز “حزب الله” على لبنان. 

ثانياً: قال إن ردّ “حزب الله” قد تم تحديده بالفعل منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، مما يعني ضمناً أن طبيعة الرّد الحالية كافية وهذا عكس ما كان منتظراً منه، فلطالما قدّم حزبه بوصفه المدافع عن الأمة العربية. 

ثالثاً: قال إن هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر خططت لها “حماس” وحدها، وهنا يعني كلام نصرالله وبشكل صريح رفض التورط في حرب مع إسرائيل، ولم يعلّق على طبيعة الفعل نفسه. 

لذلك، لا جدوى من توقّع “حزب الله” وإعلان الحرب على إسرائيل، لأن هذه الحرب لا تصب في مصلحته.

فمع توغّل القوات الإسرائيلية جنوباً داخل غزة بهدف تدمير “حماس”، يراقب العالم عن كثب ما يحدث على الحدود الشمالية لإسرائيل، حيث انخرطت قواتها لأسابيع في مصادمات عنيفة مع عدو آخر أقوى، ألا وهو “حزب الله”.

ولهذا وجدت جماعة “حزب الله” اللبنانية المسلحة نفسها في موقف حرج منذ أن شنّت حليفتها حركة “حماس” هجوماً مفاجئاً على إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. والآن، وبعد سنوات من الاستعداد للقتال ضد إسرائيل، أصبح “حزب الله” ممزّقاً بين الحفاظ على مصداقيته، كمدافع عن الفلسطينيين، وتردده في التورّط في حرب واسعة النطاق.

“حزب الله”: ما بين الحلم والحقيقة

صحيح أنه توجد مناوشات على الحدود بين “حزب الله” وإسرائيل، إلا أنه يمكن اعتبار هذه المناوشات ضمن المحافظة على إطار الكيان السياسي لـ”حزب الله”، كما يهدف الحزب من هذه المناوشات إلى زعزعة استقرار إسرائيل نفسياً. 

احتجاج لدعم الفلسطينيين في غزة في 18 أكتوبر 2023 في طهران، إيران. (تصوير ماجد سعيدي/ غيتي)

كما يهدف أيضاً إلى إعادة تأكيد قاعدة الاشتباك والردع غير المعلنة التي تم تأسيسها على كلا الجانبين على مرّ السنين، فضلاً عن محاولة الحفاظ على مستوى معين من التناسب في الهجمات؛ لأنه مع اشتداد تبادل إطلاق النار على الحدود، فإنه يخلق ديناميكية مكتفية ذاتيا. 

فداخل حسابات نصر الله وقادة الحزب، إذا اندلعت حرب واسعة النطاق، بغض النظر عن النتيجة، فمن المرجح أن يتكبد “حزب الله” خسائر كبيرة، وليس هناك ما يضمن أنه قادر على إعادة البناء بالسرعة التي فعلها بعد حرب عام 2006، مما يؤثر على دوره كرادع لإيران. 

وهذا ما لا تريده إيران، ولهذا يؤكد نيكولاس بلانفورد، الخبير في شؤون “حزب الله” لدى مجلة “أتلانتيك” والمقيم في بيروت، أنه لا يرى بأن الإيرانيين يضحّون بـ”حزب الله” على مذبح “حماس”، فالحزب مهم للغاية بالنسبة لهم لدرجة أنهم لا يريدون إهداره في حرب واسعة النطاق لا طائل من ورائها مع إسرائيل.

وعلينا هنا أن نضع في الاعتبار أن “حزب الله” منذ وجوده وحتى الآن هو مجرد أداة تلوّح بها إيران عند اللزوم، وكما أشرنا في السابق فإن “حزب الله” هو أعظم صادرات طهران من الثورة الإسلامية وعنصر أساسي في بنية الردع الإيرانية. وأي شخص يفكر في مهاجمة إيران، سواء باستهداف منشآتها النووية أو محاولة زعزعة استقرار النظام، يجب أن يأخذ في الاعتبار تصرفات “حزب الله” في لبنان. 

وهو ما أتفق مع حديث البكيري لـ”الحل نت”، فما يتعلق بالدور المعلن عن أن “حزب الله” يمثّل امتدادا لـ”الحرس الثوري” و”فيلق القدس”، ودورهم في معركة تحرير القدس كما يعرفه الإيرانيون، فيعتقد أن حرب غزة الأخيرة هذه “طوفان الأقصى” كشفت أكثر عن هلامية هذا الشعار وعدم صدقية القيام بدور ما إلى جانب “حماس” وجناحها العسكري اليوم في غزة.

عصاة “ضبابية الحرب”

صحيح أن “حزب الله” دائم البحث عن دوره تحت الأضواء الدولية؛ إلا أن المشهد اليوم داخل لبنان غير مساعد على صعوده لمسرح الإحداث، لأن لبنان الآن يعاني من أزمة اقتصادية خانقة أكثر من أي وقت مضى. 

حزب الله
تطلق الدبابات الإسرائيلية قذائفها خلال مناورة في مرتفعات الجولان التي ضمتها في 9 نوفمبر، 2023، وسط تصاعد التوترات عبر الحدود بين حزب الله وإسرائيل (تصوير جلاء ماري / وكالة الصحافة الفرنسية)

كما أن “حزب الله” بات لا يتمتع بشعبية خارج قاعدته الدينية الشيعية. ويرى اللبنانيون الآن، أن “حزب الله” جزء من الطبقة السياسية الفاسدة التي قادت البلاد إلى الخراب الاقتصادي. وقد توقفوا عن تصديق خطاب “حزب الله” بأن أذرعه تخدم الدفاع عن لبنان، وبدلاً من ذلك رأوا مع الوقت والتجارب العديدة للحزب، أنه يسعى إلى تحقيق أجندته الخاصة ويعرض الأمة للخطر.

وأيضاً وجود الولايات المتحدة المتربصة به، ففي حال إبداء محاولات من “حزب الله” لاستغلال الوضع ومحاولة الظهور الدولي أكثر، ربما يكون الرّد من الولايات المتحدة التي أرسلت حاملة طائرات “يو إس إس دوايت أيزنهاور” والسفن المرافقة لها على السواحل الإسرائيلية، هو ما يُعرف في العلوم السياسية بـ”ضبابية الحرب” هو سلوك تلجأ إليه الدول الكبرى لمنع دخول طرف آخر في الحرب القائمة وعدم توسيع رقعة الصراع. 

والإشارة هنا تعني أن إسرائيل ليست بمفردها في الحرب، ومن يريد أن يحارب إسرائيل عليه أن يحارب الولايات المتحدة أولاً. 

فعلى الرغم من أن حسابات “حزب الله” الباحثة عن دورٍ يحقّق له المكاسب العسكرية، ويأمّن له السيادة في لبنان والزعامة في المنطقة العربية؛ إلا إن طموحاته في الهيمنة تظل أكبر من إمكانياته السياسية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات