في عالم اليوم، لم يعد الإنترنت مجرد تقنية؛ بل ضرورة حياتية تربط بين الأفراد والمجتمعات، تسهّل الأعمال والتعليم، وتمكّن من الوصول إلى معلومات لا حدود لها في غضون ثوانٍ، لا سيما وأن هذه الشبكة العنكبوتية الواسعة، تمدّ خيوطها عبر المحيطات بواسطة كابلات الإنترنت الدولية.

من قلب الشرق الأوسط، حيث تتقاطع مسارات الحرب في غزة، ترتسم ملامح أزمة جديدة قد تؤثر على وصول ملايين الأشخاص حول العالم، بعد تهديدٍ مبطّن لجماعة “الحوثي” اليمنية بقطع كابلات الإنترنت الدولية الممتدة في أعماق البحر الأحمر، قرب اليمن، مما يحمل في طياته تبعات قد تعصف بالاتصالات والأسواق المالية العالمية. 

هذا التطور المقلق يضعنا أمام سيناريو قد يعيد تشكيل فهمنا لمخاطر الحروب في عصر العولمة الرقمية.

ماذا يحصل؟

في خطوة استفزازية واضحة، نشرت قناة “تلغرام” مرتبطة بجماعة “الحوثي” رسالة تلمّح إلى إمكانية استهداف كابلات الإنترنت البحرية – هي شبكة من الألياف البصرية التي تربط القارات والدول ببعضها البعض عبر قاع البحار – التي تمرّ بالقرب من السواحل اليمنية في البحر الأحمر.

حذر منتدى الخليج الدولي، بأن الكابلات البحرية الحيوية، قد تكون هدفا جديدا للحوثي. (إنترنت)

شركات الاتصالات المرتبطة بالحكومة اليمنية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، قالت إنها تخشى أن المتمردينَ “الحوثيين” يخطّطون لتخريب شبكة من الكابلات البحرية في البحر الأحمر ضرورية لعمل الإنترنت الغربي ونقل البيانات المالية.

ورغم أنه لم يصدر “الحوثيون” أي بيان رسمي يتضمن تهديداً مباشراً لكابلات الإنترنت البحرية، لكنهم نشروا خرائط وصور تظهر موقع هذه الكابلات وأهميتها، مما اعتُبر أنه تلميحٌ أو استفزازٌ للمجتمع الدولي، لا سيما وأن “الحوثيين” قاموا بشنّ هجماتٍ على سفن تجارية ونفطية في البحر الأحمر، مما يثير المخاوف من تصعيدهم العسكري في المنطقة.

لكن ما يؤكد نيّة “الحوثي” للهجوم، هو ما ذكره المحلل السياسي اليمني، راشد معروف، بأن الجماعة أصدرت قراراً بإخلاء القرى الساحلية على البحر الأحمر شمال الحديدة من الجبانة إلى مديرية اللحية، ووجّه “الحوثيون” سكان هذه القرى بالإخلاء الفوري والابتعاد عن الساحل 50 كيلو.

‏وبحسب السكان، فإن “الحوثيين” أبلغوهم بأن هناك هجوم متوقع من قِبل قوات أميركية على هذا الشريط الساحلي للسيطرة على ميناء الصليف ورأس عيسى، ويجب الإخلاء فورا ويمنع منعا باتا قطع الأشجار أو رعي المواشي والأغنام في هذه المناطق.

يأتي هذا القرار بالتزامن مع استنفارٍ كبير لـ”الحوثيين” ونقل قوات وصواريخ بحرية وإنشاء معسكرات ونشر نقاط جديدة على طول الشريط الساحلي.

هذا التحرّك يشير إلى تصعيد محتمل في استراتيجيات “الحوثيين” للضغط على المجتمع الدولي، ولكن قطعاً حسب حديث الصحفي اليمني، محمد الشرعبي، لـ”الحل نت”، ليس بهدف إيقاف الحرب على غزة، بل من أجل أجندات تخدم النظام الإيراني.

من المعلوم، أن عقدةً من الكابلات البحرية للاتصالات الهامة جدّا لعمل شبكة الإنترنت وشبكات الاتصالات الأخرى تمرّ من مضيق باب المندب، هذا التهديد يُعدّ الأخطر من “الجماعة” اليمنية المصنّفة إرهابية، وطبقا للتحليلات، فقد يكلّف هذا الهجوم “الحوثيين” وجودهم.

يد إيران الخفية

التهديد بقطع الكابلات ليس بالأمر الجديد؛ ولكن تنفيذه يتطلب قدرات محددة من خلال استخدام قوارب سريعة، غواصينَ مدربينَ، أو حتى ألغام بحرية، قد يتمكنون فعلياً من الوصول إلى هذه الكابلات وتعطيلها. 

مئة متر فقط تفصل الحوثيين عن هدف قاتل تحت الماء. (إنترنت)

رغم التحديات التقنية واللوجستية، فإن ضحالة بعض مناطق البحر الأحمر والخبرة القتالية لـ”الحوثيين” قد تسهّل من هذه المهمة. ومن جهته، يشير المدير التنفيذي لشركة الإنترنت فرع اليمن، شرف الزين، في حديثه إلى “الحل نت”، إلى أن الوصول إلى هذه الكابلات يمثّل تحدّياً كبيراً بسبب العمق الكبير الذي تقع فيه هذه الكابلات على قاع البحر. مؤكدًا على أهمية التعاون الدولي لحماية هذه الكابلات الحيوية من أي تهديدات محتملة.

ووفقا لتحليلات الشرعبي المطّلع على قرارات جماعة “الحوثي” عن قرب، فإن الهجوم وإن حدث لن يكون سوى بأيدي إيرانية أو عبر عناصر دُرّبت في طهران على هذه الهجمات، كون العناصر المحلية لا تمتلك خبرة الغوص وتنفيذ إغارات بحرية على عمق يصل إلى أكثر من 100 متر بحري، والذي يوازي 1 كيلو بري. 

ضلوع إيران في هذه القضية لا مجال للشك فيه طبقا لحديث الصحفي اليمني، فضربُ كابلات الإنترنت البحرية يفتح أمامها الطريق لضرب الأمن والاتصالات العالمية، فإذا نجح “الحوثيون” في تنفيذ هذا الهجوم، فقد يؤدي ذلك إلى تعطيل خدمات الإنترنت والهاتف والبيانات في مناطق واسعة من العالم، خاصة في الشرق الأوسط وأوروبا وإفريقيا. 

ليس ذلك فحسب، بل إنه سيؤثر ذلك سلباً على الاقتصاد والتجارة والتعليم والصحة وغيرها من المجالات الحيوية، وبذلك تربح إيران جولة للتفاوض ليس أمام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بل أيضا أمام حليفتها الصين التي ترتبط مع القطب الغربي عبر هذه الكوابل.

هنا يشير الشرعبي، إلى أن زعيم جماعة “الحوثي” لا يعي عواقب الدخول في هذه المخاطرة، لأنه لا يرى منها سوى تسجيل انتصار على الغرب أمام أنصاره، فيما تغيب عنه – بسبب سوء إدارته وقلة خبراته العلمية – مغبة هذا القرار بتهديد وجوده هو وجماعته.

تهديد البنية التحتية الرقمية

اللورد البريطاني، ديفيد ألتون، قال في مؤتمرٍ أُقيم بـ برلمان المملكة المتحدة في كانون الثاني/يناير الفائت، إن “النظام الإيراني يصعّد الصراع في الشرق الأوسط، ليس لأنه قوي، بل لأنه ضعيف. إضافةً إلى ذلك، يؤجج النظام الحرب في المنطقة ليُخفي قمعه الداخلي”.

ماذا يعني تهديد "الحوثي" بقطع كابلات الإنترنت البحرية؟
أشخاص يتجولون على ظهر السفينة التجارية جالاكسي ليدر، التي استولى عليها الحوثيون اليمنيون الشهر الماضي، قبالة ساحل الصليف، اليمن، في 5 ديسمبر/كانون الأول 2023. تصوير: خالد عبد الله – رويترز

التهديدات الأخيرة التي أُطلقت في اليمن بقطع كابلات الإنترنت البحرية في البحر الأحمر، أحدثت هزّاتٍ في المجتمع العالمي. وهذا يثير تساؤلات حرجة حول التداعيات المحتملة لمثل هذا الإجراء و التداعيات الجيوسياسية الأوسع. 

مضيق باب المندب، الواقع بين اليمن وجيبوتي، يشكّل نقطة عبور استراتيجية ليس فقط للشحن البحري بل أيضاً للكابلات البحرية التي تنقل البيانات الضرورية للاتصالات العالمية. 

هذا الممر المائي الضيق، الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن، يُعدّ حيوياً لضمان تدفّقٍ سلس للمعلومات بين أوروبا، الشرق الأوسط، وآسيا. بفضل موقعه الجغرافي الفريد، يلعب دوراً محورياً في دعم أكثر من 95 بالمئة من حركة البيانات العالمية، بما في ذلك تبادل المعاملات المالية الضخمة التي تصل قيمتها إلى تريليونات الدولارات يومياً.

يومياً بيانات تُقدر قيمتها بحوالي 10 تريليون دولار أميركي من المعاملات المالية، مما يبرز أهميتها القصوى للاقتصاد العالمي. وأي ضرر، ولو كان بسيطاً، قد يتسبب في انقطاعات واسعة النطاق في الوصول إلى الإنترنت، ما يؤدي إلى عواقب اقتصادية جسيمة تؤثر على دول بأكملها.

تشير التقديرات إلى أن البحر الأحمر يحمل حوالي 17 بالمئة من حركة الإنترنت في العالم عبر أنابيب الألياف، وأيضا ما يصل إلى 16 من هذه الكابلات البحرية – والتي لا تكون في كثير من الأحيان أكثر سُمكًا من خرطوم المياه وتكون عرضة للأضرار الناجمة عن مراسي السفن والزلازل – تمر عبر البحر الأحمر باتجاه مصر. 

من بين أكثر هذه الخطوط استراتيجية هو خط آسيا-إفريقيا-أوروبا AE-1 الذي يبلغ طوله 15500 ميل (25000 كيلومتر) ويمتد من جنوب شرق آسيا إلى أوروبا عبر البحر الأحمر.

إن تعطيل هذه الكابلات سيكون له تأثير متتالي، مما يسبب انقطاع الإنترنت، حيث سيواجه الملايين من الأشخاص في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك اليمن نفسها، انقطاعاً كاملاً للإنترنت، وتعطيل الاتصالات، والوصول إلى المعلومات، والخدمات عبر الإنترنت.

أيضا اضطرابات اقتصادية، إذ ستواجه الأنشطة التجارية التي تعتمد على الإنترنت للاتصالات ونقل البيانات وإجراء المعاملات عبر الإنترنت خسائر اقتصادية فادحة. فضلا عن أن الأسواق والمؤسسات المالية التي تعتمد على تبادل البيانات في الوقت الفعلي ستواجه اضطرابات كبيرة وخسائر محتملة.

كيف تعمل الكابلات البحرية؟

تستخدم الكابلات البحرية تقنية الألياف الضوئية لنقل البيانات، حيث تقوم بتحويل الإشارات الكهربائية إلى إشارات ضوئية يتم إرسالها عبر الألياف الضوئية بسرعة الضوء. 

ماذا يعني تهديد "الحوثي" بقطع كابلات الإنترنت البحرية؟
يمكن أن تكون شبكة الكابلات هدفا سهلا مثاليا لهجومهم القادم. (إنترنت)

هذه الإشارات يمكن أن تحمل كميات هائلة من البيانات عبر مسافات طويلة دون فقدان كبير للجودة. والألياف الضوئية داخل الكابلات محمية بطبقات عدة، بما في ذلك الغلاف الواقي لمقاومة الضغط العالي والظروف البيئية القاسية على قاع البحر.

عمق البحر في مضيق باب المندب يصل إلى حوالي 490 متراً في أعمق نقاطه. وهذا العمق يشكّل تحدّياً لعمليات الصيانة والإصلاح للكابلات البحرية، ولكنه لا يزال في نطاق الإمكانيات التقنية للغواصينَ المحترفينَ والمعدّات المتخصصة.

كما أن كابلات الإنترنت التي تمرّ عبر مضيق باب المندب تحظى بأهمية بالغة للصين، نظراً لدورها الحاسم في دعم التواصل والتجارة الإلكترونية بين الصين والأسواق العالمية، خاصة تلك الموجودة في أوروبا والشرق الأوسط. 

كابل “AE-1” يربط بين آسيا وأوروبا عبر البحر الأحمر، ويمرّ عبر الصين في هونغ كونغ، وكابل “SEA-ME-WE 4” يربط بين جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، ويمرّ عبر الصين في هونغ كونغ وشينجن.

أيضا “كابل SMW5″، يربط بين جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، ويمر عبر الصين في هونغ كونغ. وكابل “FA-1” يربط بين آسيا وأوروبا عبر البحر الأحمر، ويمر عبر الصين في فوجيان. وكابل “PEACE” يربط بين باكستان وشرق إفريقيا، ويمر عبر الصين.

علاوة على ذلك، كابل “SEA-ME-WE 5” يربط بين جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، ويمر عبر الصين في هونغ كونغ. وكابل “AAG” يربط بين آسيا وأوروبا عبر البحر الأحمر، ويمر عبر الصين في هونغ كونغ. وكابل “IAX” يربط بين الهند وجنوب شرق آسيا، ويمر عبر الصين. وكابل “SJC” يربط بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية، ويمر عبر الصين.

كما أن كابل “Bay to Bay Express” يربط بين الصين والولايات المتحدة، ويمر عبر الصين. وكابل “China-US Pacific Express” يربط بين الصين والولايات المتحدة، ويمرّ عبر هونغ كونغ. وكابل “Hawaiki Cable” يربط بين الولايات المتحدة ونيوزيلندا وأستراليا، ويمرّ عبر هونغ كونغ أيضا.

في نهاية المطاف، يتطلب منع هجوم الكابل اتّباع نهج متعدد الأوجه لا سيما أن المؤشرات تدلّ على أن إيران وراء ذلك. إن معالجة الأسباب الجذرية للصراع في اليمن من خلال الجهود الدبلوماسية وتمكين الحكومة اليمنية الشرعية التي تتبع لطهران وهي خطوات حاسمة. 

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يساعد تعزيز التعاون الدولي في مجال الأمن السيبراني واستكشاف قنوات اتصال بديلة في التخفيف من تأثير الاضطرابات المحتملة. ومن الضروري أن نتذكر أن عواقب مثل هذا الهجوم تمتد إلى ما هو أبعد من الانقطاع الفوري للإنترنت، مما قد يؤثر على الاستقرار الإقليمي والرفاهية الاقتصادية وحياة الملايين من الناس.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات