على الرغم من إطلاق “هيئة تحرير الشام” سراح العشرات من القادة العسكريينَ الذين اعتُقلوا خلال الأشهر الأربعة الماضية فيما عُرف بقضية “خلايا التجسس” منذ أكثر من أسبوع، إلا أن الأزمة داخل “الهيئة” تتفاقم. على الرغم من محاولات زعيمها، أبو محمد الجولاني، احتواء التداعيات، إلا أن الانقسامات داخل “الهيئة” أخذت أبعاداً مختلفة تشمل الأجنحة والكُتل المناطقية وكذلك التكتّلات العشائرية. في الوقت ذاته، بدأت المظاهرات المناوئة لحكمها تتزايد في المناطق التي تسيطر عليها في شمال غربي سوريا، ما يضع “الهيئة” أمام أزمة تهدد استمرارها ووجودها.

آخر التسريبات أكدت تمسّك قادة الجناح العسكري بمطالبهم التي سبق وأن قُدّمت للجولاني وقيادة الهيئة. وكانت ورقة مطالب القادة العسكريين، التي تقدّموا بها للجولاني في اجتماعهم الأول معه الأسبوع الماضي، قد تضمّنت المطالبة بحلّ الجهاز الأمني وإعادة تشكيله من جديد، بحيث يكون قادته من الجناح العسكري، وإعادة تشكيل مجلس القيادة بتقليص صلاحيات القائد العام (الجولاني) في حال ثبُت عدم تورّطه في توقيف قادة وكوادر الجناح العسكري وتعريضهم للتعذيب والانتهاكات. في حال تورّطه، طالب الموقّعون على الورقة بمحاكمته وفصله من زعامة “الهيئة”، مع إطلاق سراح جميع الموقوفين دون دليل.

وافق الجولاني على هذه المطالب، كما أكدت مصادر متقاطعة، مما أثار حفيظة المسؤولين عن جهاز الأمن العام في “الهيئة”. بعض هؤلاء المسؤولين، بمن فيهم قائد الجهاد “أبو أحمد حدود”، أبلغوا قيادة التنظيم بتعليق عملهم. القادة الأمنيون الذين احتجوا برّروا استنكارهم ورفضهم لمطالب العسكريين بأن ما جرى يُعتبر “تعدّياً على صلاحياتهم”.

وفي محاولة لإيجاد حلّ وسط بين الجناحين، اقترح الجولاني أن تضم لجنة “المتابعة والتحقيق” عضوَين من الجهاز الأمني، بينهم “أبو أحمد حدود”. حيث وافق الجناح العسكري على الشقّ الأول من الاقتراح، بينما رفض الشق الثاني، مع اشتراطهم توقيع الجولاني بشكل مسبق على ورقة بيضاء، تُدوّن فيها خلاصة التحقيقات والقرارات. الجولاني وافق على هذا الطلب، لكنه اشترط بدوره توقيع الجناح العسكري على ورقة بيضاء أخرى، تُدون فيها التزاماتهم تجاه “الهيئة” وقيادتها. وبحسب صالح الحموي، وهو أحد المؤسسين لـ “جبهة النصرة” الاسم الأسبق لـ “هيئة تحرير الشام”، فإن مطالب العسكريين خلال لقائهم الأخير مع الجولاني، تضمّنت أيضاً تعيين الوزير السابق في”حكومة الإنقاذ” إبراهيم شاشو، مع اثنين من أعضاء الحكومة في اللجنة، الأمر الذي لم يرضِ قادة “كتلة إدلب” الذين أبلغوا الجولاني تعليق عملهم أيضاً.

كتل مناطقية ومركز نفوذ

تعود جذور المشكلة داخل “هيئة تحرير الشام” إلى التنافس بين الكتل المناطقية وقادتها للهيمنة على القرار داخل “الهيئة”. هذا الصراع، الذي بدأ منذ توقّف المعارك العسكرية في شمال غربي سوريا قبل أربع سنوات، بلغ ذروته في منتصف العام الماضي 2023، حين حصل زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولاني، على تسجيل صوتي منسوب للقيادي العراقي في “الهيئة”، ميسرة الجبوري (أبو ماريا القحطاني)، يكشف فيه عن نيّته وآخرين الانقلاب على القيادة الحالية.

وفقًا لمصادر متقاطعة، أكدتها لموقع “الحل نت” وصل التسجيل الصوتي إلى الجولاني عبر محمد الجاسم (أبو عمشة)، قائد “فرقة السلطان سليمان شاه” التابعة لـ “الجيش الوطني” الذي تدعمه تركيا، وتم تسجيله خلال جلسة تنسيق بين فرقة “السلطان سليمان”  و”هيئة تحرير الشام” ، التي كلّفت الأخيرة القحطاني والقيادي الآخر فيها، جهاد عيسى الشيخ (أبو أحمد زكور)، بمهمة اختراق مناطق تحت سيطرة “الحكومة المؤقتة” التابعة لـ “الائتلاف الوطني المعارض” شمال البلاد.

منذ مطلع العام 2023، بدأت “هيئة تحرير الشام” مشروعها لتعزيز نفوذها بشكل غير مباشر في شمال حلب، مستغلّةً التنافس والانقسامات بين الفصائل المحلية لبناء تحالفات واستقطاب التشكيلات الأضعف ذات القادة الطامحين. القحطاني وأبو أحمد زكور، نجحا في تحقيق اختراق كبير وبناء تحالفات قوية، مما أثار قلق تركيا بشأن تعاظم قوة”هيئة تحرير الشام” في مناطق تقع تحت نفوذ أنقرة. 

الباحث في الشؤون الإسلامية، بسام أبو عدنان، يشير إلى أن الجولاني استغل المعلومات التي زوّدته بها المخابرات التركية حول شبكة التجسس داخل “الهيئة” لتصفية حسابه مع القحطاني وزكور، بعد أن حمل مؤامرتهما في نفسه لأكثر من أربعة أشهر. لكن ما الذي دفع القحطاني وزكور للتفكير في الانقلاب على الجولاني ومجلس القيادة، رغم علاقتهم التاريخية التي تعود إلى ما قبل تأسيس “جبهة النصرة” في سوريا عام 2011؟ 

بحسب الباحث أبو عدنان، شعر العديد من القادة المؤسّسين بالتهميش مع تزايد قوة الجناح الأمني والاقتصادي في “الهيئة”، ما دفعهم للبحث عن إعادة تأكيد مكانتهم، معتمدين على دعم من كتلتَي حلب والشرقية. القحطاني ينتمي إلى “الكتلة الشرقية” التي تضم قادة وعناصر “الهيئة” المنحدرين من محافظات دير الزور والحسكة والرقة بينما يعود زكور إلى “كتلة حلب”، حيث ينحدر الأخير من حي الميسر في الجزء الشرقي من مدينة حلب، وتعود أصوله إلى “عشيرة البكارة”، الأمر الذي كان يعوّل عليه كلٍّ منهما كما يبدو مما يشير إلى استراتيجياتهما المعتمدة على خلفياتهم والإقليمية والعشائرية في هذا الصراع الداخلي.

من الواضح أن الجولاني كان على دراية بتلك الحسابات عندما كان يفكر في كيفية التعامل مع “المؤامرة”. فالاحتمال بأن تنحاز مجموعات من كلتا الكتلتين تظل قائمة في حال مواجهتها أو القبض عليهما بلا مبرر مقنع. ومع ذلك، كان يطمئن إلى القوة الكبيرة التي باتت لدى “كتلة إدلب”، التي يعتمد عليها شخصياً، خاصة بعد أن تولّى قادتها الرئيسيين الأدوار “الأمنية” و”الاقتصادية”، و استطاعوا إحكام قبضتهم على معظم مواقع النفوذ داخل “هيئة تحرير الشام”.

وعلى هذا الأساس، استغل الجولاني معلوماتٍ حول شبكة التجسس التي قدمتها له “المخابرات التركية” للتّخلّص من القحطاني وزكور. الذين رُبط اسميهما بتلك الشبكة، التي كان عدد أفرادها لا يزيد عن عشرين، ونشاطها كان محصوراً في التجسس لصالح المخابرات السورية وروسيا. إلا أن الإعلام الرسمي لـ “الهيئة” زعم تورّطهم في أكثر من خلية تجسس، وأعلن في بيان عبر معرفات “تحرير الشام” الرسمية أن إحدى هذه الخلايا تم تجنيدها بواسطة مخابرات (قوات التحالف الدولي لمكافحة داعش)، بقيادة أبو ماريا القحطاني.

هذه المعلومات التي أعلنتها وسائل إعلام “تحرير الشام” جاءت في أعقاب الاضطرابات داخل “كتلة الشرقية” بعد الإعلان عن اعتقال القحطاني من قِبل القوة الخاصة في جهاز الأمن العام. اضطر الجولاني حينها للقاء وجهاء الكتلة، بمن فيهم الشرعي العام السابق مظهر الويس والقيادي أبو محجن الحسكاوي وآخرين، ليؤكد لهم أن القحطاني ومن معه متّهمون بالتجسس، ما أجبر الكتلة على السكوت إزاء خطورة الاتهام، مع تقديم وعود بمعاملة لائقة للقحطاني خلال فترة التحقيق.

على يسار الصورة أبو ماريا القحطاني بجانب ابو محمد الجولاني زعيم "تحرير الشام"
على يسار الصورة أبو ماريا القحطاني بجانب ابو محمد الجولاني زعيم هيئة “تحرير الشام”

تصفية حسابات

تواصَل موقع “الحل نت” من خلال وسيط مقرّب مع أحد القادة العسكريين البارزين في هيئة “تحرير الشام”، الذي أكد وجود غضب شديد داخل كوادر “الجناح العسكري” بشكل خاص، وفي عموم “الهيئة” أيضاً، بسبب تعرّض القيادي العراقي (القحطاني) للتعذيب الشديد على يد “الجهاز الأمني”، مثله مثل العشرات من القادة العسكريين. وأضاف القيادي البارز في “تحرير الشام”، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، أن عدد المعتقلين في قضية التجسس يتجاوز السبعمائة قيادي وعنصر، أغلبهم من كتلة الشرقية و”لواء عمر”، الذي يضم مقاتلي حلب، بالإضافة إلى “لواء الزبير” الذي ينضوي تحته مقاتلو ريف حماه، وجميعهم ينحدرون من أصول عشائرية.

وأوضح القيادي أن هناك شعوراً بين هؤلاء العسكريين بأنهم مستهدفون بشكل خاص من قِبل الجهاز الأمني، الذي بدا أنه يسعى لضرب أي قدرة للتحرك قد تُبنى على أساس عشائري داخل “الهيئة”، مستغلّاً حجة ملاحقة الجواسيس. الاستهداف تركّز على كل مَن له صلة، مهما كانت بسيطة، بالقادة المتّهمين بالتخطيط للانقلاب.

مع تزايد حالات الاعتقال، التي طالت قادة بارزين في “الجناح العسكري”، شعر أعضاء في مجلس قيادة “تحرير الشام” بأن الأمر تجاوز حدود التحقيقات الطبيعية. زاد الطين بلّة ورود معلومات إلى ذوي المعتقلينَ باعتراف أبنائهم بالعمالة والتجسس، الأمر الذي أثار استياء الأهالي الذين كانوا مقتنعينَ ببراءة أبنائهم. دفعهم الأمر لتشكيل وفودٍ التقت بقادة “الجناح العسكري”، مطالبةً بالكشف عن مصير المعتقلينَ وضمان شفافية التحقيقات.

ردّاً على ذلك، أمر الجولاني بإطلاق سراح العشرات من المعتقلين، سعياً لكسب ولائهم في حالة رغبته بإضعاف قادة الجهاز الأمني مستقبلًا. لكن مشكلة جديدة ظهرت عندما كشف هؤلاء القادة والعناصر عن تعرّضهم لتعذيب وحشي خلال فترة التوقيف، وإجبارهم على الإدلاء باعترافات مزيفة تحت الضغط. وبالتالي، لم يكتفوا بلقاء الجولاني الذي اعتذر لهم وعوضّهم مادياً، بل طالبوا بإعادة هيكلة كاملة لضمان عدم تكرار مثل هذه الأحداث.

رسائل ونصائح واحتجاجات

من الواضح أن قادة الجناح العسكري رأوا في الأحداث الجارية فرصة ذهبية لاستعادة مكانتهم والحدّ من تزايد نفوذ الأجهزة الأمنية التي بلغت قوتها حدّاً يسمح لهم بالتصرف دون قيود. كما أن الدعم الذي تلقّوه من أعضاء في قطاعات أخرى شجّعهم على التصعيد بغية تحقيق “الإصلاح” كما يزعمون.

وفقاً لشهادات عيان نقلها موقع “الحل نت” من داخل مناطق سيطرة “الهيئة”، أصبح النقد العلني للجهاز الأمني وانتقاد سلوكياته والحديث عن انتهاكاته أمراً مألوفاً الآن، حتى أنه بدأ الناس بالتجرّؤ على التظاهر ضد “الجولاني” مؤخراً، بعد أن كان محظوراً، بل يخشى الناس حتى الاقتراب من أسمه (الجولاني). كان ملفتاً أيضاً أن بعض أعضاء التنظيم نشروا على حساباتهم الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي دعواتٍ لإقالة القيادات ومحاسبتهم، بما في ذلك الجولاني نفسه.

هذا الوضع دفع بقادة سابقين في “هيئة تحرير الشام” إلى كسر صمتهم والمطالبة باتخاذ إجراءات عاجلة لحلّ الأزمة التي تمرّ بها الهيئة، مقدّمين عروضاً للوساطة ومقترحات للحل. من بين هؤلاء القادة القيادي السابق في “جبهة النصرة”، أبو مالك التلي، الذي انشق عن التنظيم في عام 2020 وواجهه عسكرياً، بعد أن ظل بعيداً عن الأضواء لسنوات.

أصدر التلي بياناً في يوم الأحد الماضي تحت عنوان “رسالة إلى قيادة هيئة تحرير الشام”، عبّر فيه عن قلقه بشأن الاحتجاجات والتظاهرات التي نشأت نتيجة الظلم وفقدان الحقوق، محذّراً من أن هذه الأحداث قد تؤدي إلى “فتنة يهلك الحرث والنسل” حسب وصفه. 

و في بيانه، دعا التلي إلى إطلاق سراح سجناء الرأي والسجناء القضائيين الذين لم تثبت إدانتهم بعد، وطالب بإعادة تشكيل مجلس شورى حقيقي يضمّ علماء دين وأكاديميين بهدف تنظيم الشورى من جديد. كما طالب بتنحية أبو محمد الجولاني عن قيادة الهيئة وتعيين شخص مؤقت بدلاً منه حتى يتم تشكيل لجنة من أهل الحل والعقد لإدارة شؤون المناطق المحررة بالتنسيق مع الفصائل.

في ختام بيانه، حذّر التلي من أن الوضع قد يتفجر في أي لحظة، مما قد يؤدي إلى حالة من الفوضى والتفكك التي قد تستغلها قوى أخرى لفرض سيطرتها على المنطقة، مشدّدا على ضرورة تجنّب الوقوع في هذا الفخ.

جاءت رسالة التلي في أعقاب بيان أصدره أبو صالح الطحان، قائد “جيش الأحرار”، بعد الكشف عن مقتل أحد عناصر جيشه بعد ثلاثة أشهر من تسليم نفسه لجهاز الأمن العام التابع للهيئة، خلال التحقيق معه بتهمة الانخراط في”خلية التجسس”. الطحان، الذي انشق مع كتلة “لواء التمكين” عن “حركة أحرار الشام” في عام 2017 وانضم إلى”هيئة تحرير الشام” قبل أن ينشق عنها لاحقًا، طالب بمحاسبة المتسبّبين في مقتل العنصر وإعادة النظر في “قيادة المحرر”. لم يبدِ أن بيانه كان كافياً لتهدئة أسرة الضحية، التي عثرت على جثته مدفونة في حفرة دون أن تستلمها بشكل رسمي، مما أدى إلى اندلاع مظاهرات غاضبة في بلدة سرمدا خلال الأيام الماضية، وهو ما جعل الكثيرين يتوقّعون توسّع دائرة الاحتجاجات في مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” مع مرور الوقت.

التلي كان لسنوات زعيم «جبهة النصرة» في القلمون الغربي في ريف دمشق الشمالي الشرقي. وعُرف في عام 2014، خلال أزمة «راهبات معلولا» في ريف دمشق

بداية النهاية؟


يرى العقيد عبد الجبار العكيدي، المحلل العسكري والاستراتيجي، أن الحركة الاحتجاجية الحالية ستتجاوز محاولات “هيئة تحرير الشام” لاحتوائها أو قمعها، معتبراً أن ما يواجهه التنظيم يمثّل بداية النهاية له. وفي حديثه لموقع “الحل نت”،أكد العكيدي أن “هيئة تحرير الشام” ستجد نفسها في موقف مماثل لما واجهته القوى والتنظيمات السابقة التي طغت وانتهكت حقوق الناس.

من ناحية أخرى، يعتقد بعض المحللين أن الأزمة الحالية لن تؤدي إلى تفكك “الهيئة” بل فقط إلى إضعافها، وهذا يمثّل مصلحة مشتركة للقوى الأخرى. قيادة الهيئة تدرك حجم الأزمة الكبيرة التي تواجهها لكنها ليست خائفة من تفككها.  بدوره يعتقد وائل علوان، الباحث في “مركز جسور للدراسات”،  أن “هيئة تحرير الشام”،  ستحاول احتواء المشكلة لتجنّب المخاطر الأمنية والعسكرية. 

أنقرة ، التي تعاملت مع “هيئة تحرير الشام” كأمر واقع، تسعى لدمج التنظيم في النسيج السياسي والعسكري الأوسع، مع الحفاظ على أمنها القومي كأولوية. التقديرات حول تداعيات الأزمة تختلف، لكن هناك إجماع على أن “الهيئة” تواجه مشكلة معقّدة قد تغير مصير التنظيم، مع بعض الآراء التي ترى أن “الهيئة” قد تتمكن من احتواء الأزمة بينما يرى آخرون أن نهاية التنظيم قد بدأت. 


هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات