تنافس محموم ينطوي عليه دخول الصين عسكريا إلى منطقة البحر الأحمر، بعد إحجامها عن الانطواء مع القوى الغربية التي انِخرطت عسكريا في البحر الأحمر، لمواجهة التهديدات الحوثية لحركة الملاحة والتجارة الدوليين. فما هو سبب الانخراط العسكري الصيني لحماية ممرات الملاحة الدولية في منطقة البحر الأحمر، وهي المستثناة من الضربات الحوثية لسفنها؟ 

من ميناء عسكرى فى مدينة تشانجيانج بجنوب الصين أبحر الأسطول الـ 46  إلى خليج عدن والمياه الواقعة قبالة سواحل الصومال، لينضم إلى مهمة مرافقة الأسطول البحرى 45 هناك. ووفقا لأستاذ الدراسات الدولية، الدكتور شاهر الشاهر، هي عملية اعتيادية تقوم بها الصين منذ 2008، بإرسال أساطيل لهذه المنطقة، مع إعطاء رقم لكل مهمة. 

الشاهر لفت خلال مداخلته لقناة “القاهرة الإخبارية“، إلى أن الأسطول 46 أقل من الأسطول الأول الذي أرسلته الصين في عدد القطع البحرية، وأن الأسطول 45 سينسحب ليحل محله الأسطول 46، نافيا أن يكون هناك علاقة بين إرسال الأسطول الأخير، والتصعيد الذي تشهده منطقة البحر الأحمر، إذ إن السفن الصينية مستثناة من استهداف الحوثيين.

إلا أن موقع “مبتدأ” أشار، إلى أن منطقة البحر الأحمر تشهد منعطفا جديدا بإرسال الصين أسطولها إلى هذه المنطقة في ظل الأزمة التي أحدثتها هجمات “الحوثي” على سفن الملاحة والتجارة الدوليين، وتصاعد الغارات الأميركية والبريطانية على أهداف تابعة للحوثيين في اليمن، ضمن عمليات تحالف “حارس الازدهار”، مشيرا إلى أن الأسطول الصيني يضم أكثر من 700 ضابط وجندي، منهم العشرات من أفراد القوات الخاصة، مع مروحيتين ومدمرة صواريخ موجهة.

لذا لا يمكن النظر إلى الخطوة الصينية، إلا من خلال تواجد دولي متزايد في البحر الأحمر، بدءا بتحالف الازدهار الذي تقوده الولايات المتحدة، ثم التحالف الأوروبي “أسبيدس”، وسواهما من الدول المتحالفة والمتصارعة. وفي إطار الاستعدادات للمهمة، أجرى الأسطول الصيني تحليلا دقيقا ووضع خطط مفصلة، مع تدريبات تحاكي سيناريوهات إنقاذ سفن تجارية مختطفة، والتصدي لإرهابيين وقراصنة، حسب وكالة “شينخوا“.

مدير “مركز الأهرام للدراسات”، محمد فايز فرحات، اعتبر أن إرسال الصين لأسطول بحري إلى المنطقة تعبير واضح بأنها لن تسمح للولايات المتحدة والقوى الغربية بالسيطرة على البحر الاحمر. مضيفا، أن على الصين مراجعة قرار الأسطول البحري بسبب “عدم تهديد سفنها لهجمات الحوثين”.

حرب باردة

حسب “مركز شاف” لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية، يشهد البحر الأحمر حربا باردة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، خلالها، يفرض التنافس الصيني الأميركي على الأخيرة إجراء عملية توازن معقدة، تعمل بموجبها على معايرة سياساتها تجاه بكين في البحر الأحمر، بعد أن باتت الأخيرة خلال العقدين الماضيين لاعبا مهما فيه، بامتلاكها لقاعدة عسكرية في جيبوتي المطلة على باب المندب، ذو الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية الكبيرة، ما أعطى بكين أوراقا للعب دور محوري، من خلال التنسيق مع القوى الكبرى لحماية الممرات البحرية ومكافحة الإرهاب ومواجهة التحديات الأمنية.

إلا أن أهمية البحر الأحمر كحلقة وصل للمنافسة الجيوسياسية تطرح مشاكل أمنية لبلدان المنطقة، حسب شاف. فعدم وجود توافق في الآراء بشأن قواعد المنافسة بين القوى الإقليمية والدولية، أدى لتكثيف السباق المحموم للفاعلين الحكوميين وغير الحكوميين على الموارد الطبيعية ومجالات النفوذ هناك، بينما يستمر توازن القوى بالمنطقة في التقلب. وتمهد التطورات الحالية لمزيد من التدافع والتنافس والصراع الدولي المكثف، كما تضيف القواعد والتجمعات العسكرية الأجنبية العديدة في البحر الأحمر حقائق مادية جديدة تجعل المنطقة أكثر عرضة لعدم الاستقرار.

جوهر الصراع القائم حاليا في السودان وليبيا وغزة، مع الأزمة المفتعلة بين أثيوبيا والصومال يقوم في أساسه على التنافس على البحر الأحمر، حسب الخبير المصري في الشؤون الأفريقية رامي زهدي. فأحد أهم الأسباب الجوهرية لهذه الحروب، هو التنافس على مزيد من السيطرة والهيمنة والاستغلال لمنطقة البحر الأحمر، والتي لا تنحصر أهميتها كممر مائي فقط، لكنها منطقة غنية جدا بالثروات النفطية والمعدنية، حيث تحتوي المنطقة على معادن كثيرة، إضافة لكونها منطقة آهلة جدا، ومتوقعة أو مرجحة للاستثمارات السياحية. وعلي ذلك، الصراع فيها أعمق بكثير من مجرد تأمين للملاحة البحرية.

افتتاح القاعدة الصينية في جيبوتي عام 2017، مثّل إعلان إستراتيجي لمرحلة مختلفة في التعاطي وفق رؤى ومعادلات جديدة، حسب “الجزيرة نت“. وعليه، حذر سياسيون أميركيون، بأن بكين خطر حقيقي على مصالح بلادهم في البحر الأحمر والمنطقة، فعلى الرغم من مشاركتها الفاعلة في محاربة القرصنة، حيث قامت بعشرات الحملات وأكثر من 30 عملية مرافقة للسفن، إلا أن الصين أقدمت على نشر غواصات عسكرية، ما أثار الشكوك حول نواياها العسكرية. وإلى جوار ذلك، وسعت بكين حجم مبيعات الأسلحة لدول حوض البحر الأحمر، حيث زادت المشتريات العسكرية لأغلب هذه الدول خلال الـ 15 سنة الأخيرة.

نظرا للأهمية الاستراتيجية للمنطقة، علاقة الصين فيها قديمة، وتزايدت في إطار استراتيجيتها للشراكة مع إفريقيا مطلع القرن الـ 21، وتسارعت مع ظهور القرصنة في خليج عدن، مما دفع الصين لزيادة حضورها، حيث شاركت بقوات حفظ السلام في إقليم دارفور عام 2007، وأصبحت أكبر مستثمر خارجي في إثيوبيا والسودان، وفي شراكة محدودة مع إريتريا بسبب العزلة الدولية التي كانت تعانيها، لتتوسّع بكين في حضورها بكامل حوض البحر الأحمر بشكل أذهل المراقبين. مع ذلك، يشير الموقع القطري، إلى أن ميزان العلاقات في المنطقة يميل لصالح القوى الغربية دائما، مع حضور صيني منخفض، بسبب استمرار الحروب والاضطرابات فيها، يرتفع كلما تعرضت علاقات دول المنطقة لهزات مع دول الغرب عامة. 

الهاجس الهندي 

أسباب عديدة تدفع كل من واشنطن ونيودلهي لتعزيز علاقاتهما حاليا، وأهمها قلقهما المشترك بخصوص تزايد نفوذ بكين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والتوسع البحري للقوات الصينية في المحيط الهندي، مع وجود مشاكل حدودية بين الصين والهند. لذا تتعاون واشنطن مع حلفائها لإعادة توجيه سلاسل توريد التكنولوجيا العالمية بعيدا عن الصين، لتقليل الاعتماد عليها، علاوة على تنامي تحركاتها الأمنية والعسكرية بالتعاون مع حلفائها الإقليميين في آسيا لتطويق واحتواء بكين، حسب مركز “المستقبل” للأبحاث.

على الجانب الهندي، تُشير دراسة لكوا لين كولين، وهو باحث وزميل برنامج الأمن البحري في “جامعة نانيغ” التكنولوجية السنغافورية، إلى التنافس المحتدم بين بكين ونيودلهي في المجال البحري، حيث يُساور الأخيرة العديد من المخاوف حول وصول الأولى إلى المحيط الهندي الذي يُعد منطقة نفوذ لها، ويرجع ذلك لامتلاك الصين أسلحة بحرية عالية الكفاءة، بالإضافة إلى قدرتها على الوصول إلى الموانئ الإقليمية المجاورة للهند، خاصة الباكستانية.

وفقا لذلك، تحشد الهند قواها البحرية الهندية بشكل أساسي نحو منطقة نفوذها المباشر، من الساحل الشرقي لإفريقيا، وصولا إلى مناطق التوقف الاستراتيجية المؤدية من وإلى المحيط الهندي، لا سيما مضيقا ملقا وسنغافورة وغيرهما. وبالنظر إلى تلك المناطق، فإن الحشد الهندي موجه أكثر نحو تأمين المصالح داخل منطقة المحيط الهندي المباشرة، في حين أن إبراز القوة في مناطق أبعد يشكل مهمة ثانوية. عليه، تم تفسير نشر الهند للقوة البحرية في البحر الأحمر من قبل الرأي العام الأميركي والغربي، على أنه نتيجة “المنافسة المتزايدة مع الصين”، وفق صحيفة “جلوبال تايمز” الصينية.

إعلان الصين عن إرسال قطع بحرية عسكرية للبحر الأحمر، هو جزء من دائرة التنافس العالمية القائمة الآن، وإيجاد موطئ قدم في منطقة البحر الأحمر خصوصا، حسب حديث رامي زهدي مع “الحل نت”، بغض النظر عن الأسباب التي يحاول كل طرف تقديمها، وبغض النظر عن وجود توترات أو تهديد أمني للملاحة البحرية في هذا البحر، أو وجود مشكلات ما بين الدول المشاطئة له، أو الدول المجاورة أو غير المباشرة، والتي لها حدود متصلة مع البحر الأحمر. وكلها أسباب تحاول القوى الدولية تسويقها الآن من أجل حماية الملاحة في أهم ممر ملاحي في العالم، والصادقة في جزء منها. فيما يقوم الجزء الآخر منها على تضخيم الأزمة لتكون الباب الشرعي لهذه الدول لدخول المنطقة. 

زهدي يضيف، أن التنافس بين الصين والهند، التي أرسلت سابقا قوات البحر الأحمر، أحد دوافع بكين لإرسال قواتها البحرية، إضافة لتنافسها مع أميركا والاتحاد الأوروبي، الذي أقدم مؤخرا وبشكل فردي وجماعي على دخول عسكري لمنطقة البحر الأحمر، من خلال العملية العسكرية الأوروبية “أسبيدس”، بالإضافة للقواعد العسكرية الموجودة في منطقة البحر الأحمر سابقا، وهي قواعد متعددة تتجاوز جنسياتها 10 جنسيات مختلفة. 

الصين والساحة الإفريقية

التنافس الهندي-الصيني ظهر في أزمة تهديد “الحوثيين” لحركة الملاحة والتجارة الدولية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر، حسب حديث مدير وحدة الدراسات الآسيوية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، مصطفى شلش في تقرير لموقع “ىصيف 22″، مضيفا كان للهند خلالها اليد العليا، عبر مشاركة أسطولها البحري، وإجرائها عملية إنقاذ مصوّرة لسفينة تعرضت لمحاولة اختطاف. 

شلش نوّه، إلى نظرة الصين المشوشة تجاه الشرق الأوسط، برغبتها دخول المنطقة عبر شراكات اقتصادية، دون استطاعة، أو رغبة في توسيعها لشراكات أمنية أو عسكرية، ما سيؤثر على اقتصاد الصين لاحقا، حيث تربط الدول الخليجية اقتصادها بالدول التي تحميها، كأميركا، ولربما بالهند، نظرا لدور بحريتها في البحر الأحمر مؤخرا، لافتا للمنافسة الشرسة بين الصين والهند، سواء من خلال مساعدة الأخيرة ومساهمتها الأهم مع القوات الأميركية في البحر الأحمر، أو بمنافستها للصين في الممر الاقتصادي الهندي-الأوروبي-الشرق أوسطي. 

خلال ورقته البحثية، ينوه كولين إلى أن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، المصممة لرفع بكين إلى مكانة عالمية، من خلال تعزيز التجارة بينها وبين نظرائها الأجانب، تتطلب دورا فعالا للقوات البحرية لتدعيم تطبيقها. فيما تعكس أنماط التحركات البحرية الهندية والصينية الأولويات الاستراتيجية لكلا الدولتين. حيث زادت نيودلهي من حجم أسطولها البحري ما بين عامي 2005-2015، مع تركيز أكثر على أصول المياه البنية (قوات الدفاع الساحلية، التي تقتصر على المياه الإقليمية التي تبلغ مساحتها 12 نانو مترا) في مقابل الأصول العاملة في المياه الزرقاء (التي تعمل في المحيطات المفتوحة، بقدرة تتجاوز 200 نانو مترا، مسافة المنطقة الاقتصادية الخالصة وفقا لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، مع القدرة على إجراء عمليات نشر خارج المنطقة). فيما ذهبت البحرية الصينية بما يتعلق بأسطولها البحري بين عامي 2000-2015، للحفاظ على نفس النسبة تقريبا من القوة العاملة في المياه الزرقاء، ما يعني قدرة أكبر على العمل في المياه البعيدة.

بحسب زهدي، حتى وإن بدا حسن النوايا لدى هذه الدول في حماية الملاحة والتجارة في البحر الأحمر، لا يخلو الأمر من فرصة للقوى الدولية بالتنافس على القارة الإفريقية عموما، وتحديدا على منطقة القرن الإفريقي، ثم أكثر تحديدا على منطقة البحر الأحمر وباب المندب. حيث يستطيع المتحكم في المدخل الجنوبي لهذا البحر، ممارسة ضغوط سياسية واستراتيجية وعسكرية في مواقع أخرى من العالم، لذا فإن التنافس في هذه المنطقة هو طريقة لتقوية مراكز القوى الدولية في حروبها أو نزاعاتها وصراعاتها، حتى وإن كان خارج أو بعيدا عن منطقة البحر الأحمر كثيرا.

الصين لم تكن معنية أو مستهدفة من قبل “الحوثيين”، مع تبنيها لروايتهم الرابطة بين تهديدهم لحرية الملاحة والتجارة الدولية بالحرب الإسرائيلية على غزة. لذا أوقفت بكين شحناتها التجارية إلى الموانئ الإسرائيلية. وعلى ذلك، لا يمكن النظر لخطوة بكين بإرسال أسطول بحري عسكري إلا من منظار تنافسها مع القوى الغربية عموما، والأميركي خصوصا. مع تنافسها المحموم على الريادة الإقليمية وريادة الجنوب العالمي مع الهند. وهو ما يزيد من تعقيدات المشهد في منطقة البحر الأحمر، ولربما يضاعف سخونته، بالنظر لعلاقة بكين الحميمية مع طهران، داعم “الحوثيين” الأكبر، ويشكلان معا تهديدا للملاحة البحرية من البحر الأحمر حتى الخليج العربي. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات