في ظل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وخلق ميليشيا “الحوثي” أزمة في البحر الأحمر، جرت زيارات متبادلة بين موسكو و”الحوثيين”، الأمر الذي يطرح أسئلة عديدة حول ماهية هذه الزيارات والهدف منها، وفيما إذا كانت روسيا تود التوسع في الشأن اليمني واستغلال أزمة البحر الأحمر لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية بعد زيادة الضغوط الغربية عليها في ظل حربها على أوكرانيا التي دخلت عامها الثالث.

هذه المصالح يمكن ترجمتها على أرض الواقع من خلال استمرار إعاقة حركة الملاحة في باب المندب وبالتالي يمكن لروسيا أن تجد لنفسها قوة على الساحة العالمية عبر التأثير على الاقتصاد الدولي، إذ أن ما يقارب 12 بالمئة من التجارة العالمية تعبر عبر البحر الأحمر، ناهيك عن لعب دور سياسي مؤقت في الملف اليمني وفرض نفسها على دول الخليج العربي ودول أخرى. 

موقف ملتبس من أزمة البحر الأحمر 

الواضح من اللقاءات الأخيرة بين موسكو وجماعة “الحوثي” اليمنية، هو أن روسيا تريد أن توظف هذه الأزمة الجديدة لتحقيق نوع من نفوذ الظل المؤقت في باب المندب وكسب معركة مع الدول الغربية من خلال توجيه أنظارها إلى البحر الأحمر، في ظل استعدادها لفرض عقوبات جديدة عليها في أعقاب حربها على أوكرانيا والتهم الموجهة إليها باغتيال المعارض الروسي أليكسي نافالني.  

موسكو لا تريد تهدئة الأوضاع في البحر الأحمر، إذ لم تتخذ موقفا واضحا من هجمات “الحوثيين” وما خلفته من عواقب اقتصادية على الاقتصاد العالمي، بل دعت إلى عقد اجتماع إلى “مجلس الأمن الدولي” في كانون الثاني/ يناير الفائت، حيث دانت الضربات الأميركية والبريطانية للحوثيين في اليمن، والتي تعتبرها الولايات المتحدة قانونية وتتفق مع القانون الدولي، لكن موسكو سيكون موقفها متناسقا مع طهران. 

الولايات المتحدة أعلنت في كانون الأول/ ديسمبر المنصرم، عن إطلاق تحالف من قوة حماية بحرية متعددة الجنسيات لدعم الملاحة في البحر الأحمر تحت اسم “حارس الازدهار”، وسط الهجمات المتكررة التي شنها “الحوثيون” على السفن التجارية العابرة لمضيق باب المندب حيث نفذت عدة ضربات ضد الميليشيا اليمنية المدعومة من إيران.

الموقف الروسي من أزمة البحر الأحمر ملتبس للغاية بحسب مدير “مركز ستراتيجكس للدراسات” حازم الضمور، إذ امتنعت موسكو عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2722، الذي يُدين هجمات “الحوثيين” ويطالبهم بالوقف الفوري لها، ولم تستخدم حق النقض الفيتو لوقفه، لكنها في الوقت نفسه أدانت الضربات الجوية الأميركية – البريطانية المشتركة ضد الميليشيا اليمنية.

كما حذرت روسيا خلال الزيارة الأولى لوفد جماعة “الحوثي” إلى موسكو، من أن الضربات التي تشنها الولايات المتحدة وبريطانيا على اليمن قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة والصعيد الإقليمي، من دون التطرق إلى تداعيات أزمة البحر الأحمر التي تقول جماعة “الحوثي” إنها جاءت دعما لفلسطين. 

السفارة الروسية في اليمن قالت وقتذاك، إن الممثل الخاص لرئيس روسيا في المنطقة وإفريقيا ونائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، استقبل في موسكو وفدا من جماعة أنصار الله “الحوثيين” برئاسة محمد عبد السلام كبير المفاوضين في الجماعة، وأن المحادثة أولت اهتماما خاصا “للتطورات المأساوية في منطقة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وكذلك توتر الوضع في البحر الأحمر”.

مكاسب اقتصادية روسية

مصالح روسيا الاقتصادية بمنأى عن أزمة البحر الأحمر ولا تأتي من خلاله، وإنما عن طريق الخطوط البرية، فهي تأتي من جنوب شرق قارة آسيا عبر الصين والهند وإيران. 

في حين أن ناقلاتها النفطية ما تزال تعبر البحر الأحمر ولم تحول أي ناقلات تحمل الخام الروسي مسارها وفقا لبيانات تتبع الناقلات التي رصدتها “بلومبرغ“. وينطبق هذا على كل من السفن المملوكة لشركة “Sovcomflot” التي تسيطر عليها الدولة، والسفن التي تشكل أسطول الظل، الذي أُنشئ لمساعدة موسكو على التهرب من القيود الغربية على صادراتها النفطية.

بحسب حديث لكبيرة مسؤولي تطوير الأعمال في “ريل غيت يوروب”، جوليجا شيجلايت لـ “CNBC” الأميركية، فإنه “منذ أن بدأ الحوثيون مهاجمة السفن في البحر الأحمر قرب نهاية عام 2023، ارتفع الطلب على السكك الحديدية، وبعد الحادثة التي وقعت في البحر الأحمر ارتفع الطلب بشكل كبير”، بينما يسمح الاتحاد الأوروبي بنقل البضائع الخاضعة للعقوبات عبر السكك الحديدية عبر روسيا. 

العضو المنتدب لشركة “ريل بريج كارغو” إيغور تامباكا، وهي شركة لوجستية هولندية، قال أيضا لـ “CNBC“، إن حجوزات خطوط السكك الحديدية بين الصين وأوروبا، ارتفعت بنسبة 37 بالمئة خلال الأسابيع الأربعة الماضية، مضيفاً “انفجر الطلب على السكك الحديدية”.

ولا تتوقف المكاسب الروسية عند ذلك، إذ استفادت موسكو من أزمة البحر الأحمر في ارتفاع أسعار النفط العالمية وازدياد الطلب عليها، في ضوء نقص الإمدادات من الشرق الأوسط، إذ أن ذلك سيكون له أثر على الاقتصاد الروسي في العام الحالي. 

توظيف الملف اليمني

في ظل استمرار التصعيد في اليمن والبحر الأحمر، جرت مباحثات دبلوماسية روسية في محافظة عدن يوم الخميس 15 شباط/ فبراير الحالي، لمناقشة آفاق التسوية السياسية في اليمن وتوطيد العلاقات بين البلدين.

يبدو أن موسكو تتجه لتوظيف الملف اليمني ضمن لعبة مصالحها على الساحة الدولية مؤقتا، للحصول على مكاسب سياسية في ملفات أخرى أكثر أهمية لروسيا، خاصة وأن هذا الملف منظور أمام مجلس الأمن الدولي. 

هذا التوجه يأتي بعد أن أخذت الدبلوماسية الروسية نهجا متوازنا في الأزمة اليمنية منذ اندلاعها في عام 2011، إذ تركت قنوات التواصل مفتوحة مع جميع الأطياف، لكن هذا الموقف بدأ يتغير ليكون أكثر قربا من حليفتها الاستراتيجية إيران وبما يتماشى مع مواجهتها مع الغرب في حربها على أوكرانيا. 

ميخائيل بوغدانوف ومحمد عبد السلام – (الحل نت)

وفقا لحديث الضمور لـ “الحل نت”، يجمع كل من روسيا وإيران وما يُعرف بـ”محور المقاومة” هدف رئيسي يتمثل في إضعاف الولايات المتحدة والمحور الغربي، وتقليص نفوذه في أقاليم العالم، لا سيما في الشرق الأوسط. ومن هذا المنطلق وجدت موسكو في الحرب بقطاع غزة، والتصعيد في الجبهات الثانوية الفرصة لتعزيز اتصالاتها مع ذلك المحور ولتحقيق جملة من الأهداف، أولها إضعاف واشنطن، وإشغالها في صراعات جانبية للضغط على الموارد والدعم الأميركي المتجه إلى أوكرانيا، وتُشير التقارير، إلى أن روسيا قدمت الدعم الاستخباراتي والمعلوماتي للمحور من أجل رفع قيمة أهدافه وهجماته ضد المصالح الأميركية.

أما الهدف الثاني فهو تشجيع انسحاب القوات الأميركية من الشرق الأوسط وتحديدا من العراق وسوريا، حيث القوات الروسية والأميركية على احتكاك مباشر في مناطق انتشارها في شمال سوريا، كما يقول الضمور.

بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا في شباط/فبراير 2022، طورت روسيا بشكل لافت علاقاتها مع إيران والمحور المساند لها في المنطقة، حيث قدمت طهران الدعم العسكري للجيش الروسي في الحرب، لا سيما الطائرات دون طيار التي كانت استخداماتها فاعلة في الجبهات وفي العمق الأوكراني، ودعم “الحوثيين” إعلان موسكو استقلال دونيتسك ولوغانسك، وانفصالهما عن أوكرانيا.

ما الذي يزعج موسكو وبكين؟ 

استخدام موسكو للتوترات في البحر الأحمر لن يدوم طويلا في ظل إصرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على إزالة هذه الأزمة لما لها من تأثير مباشر على مصالحهما، إذ أطلق الأوروبيون مؤخرا عملية “أسبيدس” للمساعدة في حماية الملاحة الدولية في البحر الأحمر من هجمات ميليشيا “الحوثي”، ناهيك عن إرسال الصين أسطولا حربيا إلى منطقة البحر الأحمر. 

روسيا ربما لا تريد أن تدخل في تحالف مع “الحوثيين”، بحسب حديث المحلل السياسي منذر الحوارات لـ”الحل نت”، لكن تريد أن تبقِ نفسها على تواصل مع الأطراف كافة حتى يعطيها ذلك دورا مهما، إذ أن موسكو تريد أن تستفيد من الوضع الراهن ولكن من دون أن تورط نفسها في عملية تضامن أو تحالف مع تنظيم لا دولة فيه. 

ما يزعج روسيا والصين الآن، هو أن الولايات المتحدة عادت بقوة إلى البحر الأحمر وبحر العرب والى منطقة مضيق هرمز، كل هذه المنطقة استعادت فيها الولايات المتحدة وجودها العسكري بشكل كبير جدا ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعداه تواجد غربي أوروبي على شكل تحالف ربما لا يشارك في الحرب الدائرة أو الضربات الأميركية البريطانية، ولكنه جاهز للإسناد في حال توسعت العمليات والحرب إلى ما هو أكثر من “الحوثيين”، وفق الحوارات. 

أما مدير “مركز ستراتيجكس للدراسات” حازم الضمور، فيرى أن موسكو تريد الحفاظ على علاقاتها مع دول الخليج وتحديداً السعودية والإمارات، كما أن الأزمة في البحر الأحمر تعتبر عالمية، ومن غير الوارد أن تقدم أي دولة لها الدعم وبشكل قد يضعها موضع انتقاد دول العالم.

“إلى جانب أن روسيا لا تطمح حاليا للعب أدوار رئيسية في المشهد القائم بالشرق الأوسط، نظرا لتركيزها على الحرب في أوكرانيا، والتي تنظر لها باعتبارها الأعلى قيمة استراتيجيا، وتحديدا في انعكاس نتائج الحرب على تموضعها وقوتها في القارة الأوروبية، ومن الصعب في ضوء ذلك الانشغال أن تكون روسيا قادرة على توظيف انخراط طويل الأمد لها في المنطقة والحفاظ على استدامته”، يضيف الضمور. 

ونفذ “الحوثيون” منذ منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر المنصرم، أكثر من 45 هجوما على سفن تجاريّة وعسكريّة، وهو ما يشكل تهديدا حقيقيا للاقتصاد العالمي، بينما أكدت الولايات المتحدة، أنها “لن تتردد في اتخاذ إجراءات، حسب الحاجة، للدفاع عن الأرواح وعن التدفّق الحرّ للتجارة في أحد أهمّ الممرّات المائيّة في العالم”، وفق بيان وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن. 

أخيرا، وفي ظل عودة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة عسكريا وإطلاق الاتحاد الأوروبي لعملية “أسبيدس” في منطقة البحر الأحمر لحماية حركة الملاحة، فإن روسيا لا يمكن أن تلعب دورا في هذه الأزمة وتضع نفسها في مأزق دولي، إضافة إلى خسارة علاقاتها الاستراتيجية والتجارية مع الصين، لكنها بلا شك تريد استغلال هذه الأزمة وتفاقمها لتوجيه أنظار العالم إليها، بينما تكون قد حققت أهدافا ذات قيمة استراتيجية لها، ومنها أوكرانيا على سبيل المثال لا الحصر. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 2 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات