مع اقتراب الذكرى الحادية عشر لسقوط جماعة “الإخوان المسلمين” من حكم مصر إثر تظاهرات شعبية جارفة فاضت بها الميادين والساحات في العاصمة القاهرة كما في باقي الأقاليم، فهناك مجموعة من الأحداث الكاشفة تبرز حقائق عديدة بخصوص استقواء الجماعة المصنّفة “إرهابية” في عدد من البلدان العربية بالقوى الخارجية لمساعدتها في “التمكين” السياسي، أو البقاء بالحُكم. ولا يُعد الاستقواء بالقوى الخارجية مجرد اتهام قانوني بقدر ما هو توصيف سياسي يضيء على الطبيعة الوظيفية التي شكّلت هيكل وبناء الجماعة الأم للإسلام السياسي.

فقد تأسست في الإسماعيلية، شرق قناة السويس، بالنصف الثاني من القرن العشرين، وذلك بعد نحو أربعة أعوام من سقوط الخلافة العثمانية، وحاجة عدة أطراف في الداخل (الحكم الملكي) وقوى خارجية (بريطانيا) والأخيرة كانت تستخدم ورقة الإسلام السياسي لإدارة مصالح الإمبراطورية وقتذاك في مستعمراتها بالشرق الأوسط، إلى استعادة الخلافة أو تشكيل كيان سنّي أممي وابتعاث حامل سياسي عقائدي من خلال هذا التنظيم الإسلاموي.

ولهذا كان أول تمويل يحظى به حسن البنا في مصر هو من بريطانيا بقيمة خمسمئة جنيه في حين كان الجنيه المصري يعادل وقتذاك 7.5 غرام ذهب. وبدأت باعتبارها جمعية دينية تهدف إلى تعميم قيم وممارسات أخلاقوية ومجتمعية، زعم المرشد المؤسس حسن البنا، أنها تتوافق مع “صحيح الدين”، بينما كانت في الحقيقة محاولات حثيثة ومحمومة لـ”أخونة” المجتمع، وفرض الأفكار الأصولية والسلفية بالصورة التي تسهّل مهمة الجماعة في تشكيل قواعدها التنظيمية، والانحراف من شكل المجتمع الليبرالي في مصر والكوزموبوليتاني المتنوع هويّاتياً وقومياً إلى صورة أحادية شمولية، لا تقبل الاختلاف وتنبذ مظاهر الحرية.

استقواء “الإخوان” بالقوى الخارجية

ورغم زعم البنا أن جماعته لا تتجاوز نطاق العمل الدعوي وترفض الانخراط السياسي، إلا أن ذلك كان حيلة أخرى لإخفاء أغراضه البعيدة والتي تقوم على بناء “أسس تربوية” تتماس مع أدبيات الجماعة، إلى أن يصبح الوضع مهيئاً بشكل كامل للغلبة وفرض الأمر الواقع والقفز على الحكم و”أسلمة” المؤسسات والأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية.

احتمى “الإخوان” بالبريطانيين في المرحلة الكولونيالية بمصر، ولعبوا عدة أدوار وظيفية لصالح سياساتهم- “إنترنت”

ولعل الباحث الأميركي المرموق روبرت درايفوس كان من بين الذين ألمحوا إلى الطبيعة الرعائية التي حظى بها “الإخوان” من القوى الخارجية، لغرض استخدامهم والاستعانة بهم في تحقيق مصالح مشتركة وأهداف سياسية وبراغماتية، وقد ذكر في كتاب: “لعبة الشيطان” بالتفاصيل، أن حسن البنا حصل على “منحة من شركة السويس البريطانية” وذلك قبل تأميمها لاستعادتها لمصر بعد فترة وجيزة من وصول “الضباط الأحرار” للحُكم والإعلان عن الجمهورية. وقال درايفوس: “الحركة تمتعت على مدار ربع قرن منذ تأسيسها بالدعم من رجال المخابرات والدبلوماسيين البريطانيين”.

ويتطابق ذلك مع ما ذكره الباحث البريطاني مارك كورتيس والذي أكد على أن قادة الجماعة الإسلاموية في مرحلة الشتات بعد ملاحقتهم أمنياً نتيجة تورّطهم بالعنف في خمسينات وستينات القرن الماضي، وحظر أنشطتهم وحلّ الجماعة، مروراً بتآكل وجودهم وانحسارهم اجتماعياً، انتقلوا إلى العواصم الأوروبية حيث كان من بين القيادات سعيد رمضان الذي دشّن ما يعرف بـ”المركز الإسلامي” بجنيف مطلع الستينات. ونجحوا منذ ذلك الحين في تأسيس “شبكات علاقات ومنظمات إسلامية كثيرة في الدول الأوروبية الأخرى” كما في كتابه: “تواطؤ بريطانيا مع الإسلام الراديكالي”.

احتمى “الإخوان” بالبريطانيين في المرحلة الكولونيالية بمصر، ولعبوا عدة أدوار وظيفية لصالح سياساتهم، منها المشاركة المحدودة للغاية التي لا تتجاوز عشرات الأفراد في حرب فلسطين عام 1948، بل أثبتت وثائق عديدة تاريخية أن تلك المشاركة على خلاف ما يتم الترويج من الأذرع الإعلامية للجماعة كانت مقابل مكافآت مالية ورواتب تدفع من الجيش المصري وليس تطوعاً. ومن ضمن الاستخدامات العديدة للإخوان وفق الوثائق البريطانية، الاعتماد على الجماعة لـ”للانتقام” والحرب “النفسية” و”الإعلامية” ضد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، والذي كان يهدد المصالح البريطانية والنفطية في اليمن.

صحوة بالغرب ضد الاستخدام السياسي للدين

وعلى خلاف ذلك، باتت هناك صحوة في الغرب ضد الاستخدام السياسي للدين، أو التوظيف المباشر لقوى الإسلام السياسي، كما يحدث في بريطانيا والتصنيف الجديد للإخوان، بالإضافة إلى الإجراءات الفرنسية وغيرها في ألمانيا. فالمكتب الفيدرالي الألماني لحماية الدستور سبق له وحذر من خطر “الإخوان المسلمين” بل اعتبر هذا الخطر يفوق “داعش و”القاعدة” وقال إنه يمثل “تهديداً للديمقراطية أكبر من تهديد المنظمات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة وتنظيم داعش”.

وفي تقرير للاستخبارات الألمانية قبل عامين، اعتبرتهم “الذئاب في ثياب الحملان”، وأنها تتسلل بشكل خفي في مؤسسات وأجهزة الدولة، وتنتشر بالمجتمع، لجهة تشكيل بيئة متطرفة موازية للنظام القائم والسائد الديمقراطي، مشيراً إلى تضاعف أعداد قادة وعناصر التنظيم.

مع ذكرى سقوط جماعة “الإخوان” من بيئتها الأم وقد لفظتها نهائياً، يبدو أن الجماعة تواجه معضلة في البحث عن مرجعيات رعائية في الخارج من دول تواصل توظيفها سياسياً وإقليمياً.

إلى ذلك، يقول “المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية”، إن هناك إدراك متزايد في الغرب لأن اللعب بورقة الإسلام السياسي له تكلفة باهظة بالنسبة للغرب نفسه مع تفاقم تجنيد الأوروبيين المسلمين عبر الإنترنت، والارتفاع الملحوظ في ظاهرة “الذئاب المنفردة”، أي هؤلاء الذين يتم تجنيدهم للقيام بعمليات إرهابية داخل أوروبا بدون أن تكون لهم صلات تنظيمية سابقة مع الجماعات الأصولية والمتطرفة.

كما أن تطورات العقد الأخير (2010-2020) جعلت مجموعات “الإخوان” في أوروبا في وضع أضعف نسبياً سياسياً وهيكلياً ومالياً. فالتّحول نحو الراديكالية السياسية العنيفة، ومخاوف الغرب المتعاظمة من التطرّف الديني وتجنيد متشددين، والعمليات الإرهابية التي هزت أوروبا بعنف خلال السنوات القليلة الماضية. كل هذا جعل جماعات الإسلام السياسي وفي مقدمتهم “الإخوان” في الغرب أكثر ضعفاً بسبب نضوب التواصل معها، وتراجع دعمها سياسياً، وتجفيف منابع تمويلها تدريجياً.

وتابع: “خلال هذا العقد تم ظهور عدد من الوثائق الرسمية البريطانية التي توضح جذور العلاقة بين الإخوان وبريطانيا بعيدا عن التكهنات والنظريات المختلفة حول هذه العلاقة. وهذا المقال سيكون بداية لعدة مقالات تقدم قراءة في هذه الوثائق بحثاً عن تفسير دقيق لهذه العلاقة المركبة بين جماعة الإخوان والغرب بصفة عامة، وبريطانيا على وجه الخصوص”.

إذاً، مع ذكرى سقوط الجماعة من بيئتها الأم وقد لفظتها نهائياً، يبدو أن الجماعة تواجه معضلة في البحث عن مرجعيات رعائية في الخارج من دول تواصل توظيفها سياسياً وإقليمياً، خاصة مع الحذر المتنامي في الغرب، وبناء مشاريع لمحاصرتها وتقييد أنشطتها وتقويض تحركاتها، فضلاً عن منع وتجفيف منابع التمويل وتصفية شبكاتها المالية والاقتصادية.

رفضت واشنطن تقديم الدعم لـ”الإخوان”

وعلى منصة رابعة، حاولت الجماعة ترديد نداءات متكررة تلحّ فيها على الإدارة الأميركية والرئيس السابق باراك أوباما، بإعادتهم للسلطة والضغط على مصر بوقف الدعم العسكري ومطالب المؤسس العسكرية تأمين عودة محمد مرسي وعدم الالتفات لمطالب الشارع الذي احتج على “حكم المرشد”،  فضلاً عن أنشطة مشبوهة من خلال لوبياتهم في الولايات المتحدة لتحريك الرأي العام ودوائر صنع القرار، عبر رسائل يتم توزيعها في المساجد كما حدث في مسجد “دار الهجرة” في فرجينيا.

من المظاهرات ضد حكم محمد مرسي في مصر عام 2013 – “الرياض”

وهنا يوضح إريك تراجر في “معهد واشنطن”، بأن الهدوء الذي رافق سقوط حكم “الإخوان” في مصر والمفارقة في الصعود السريع للجماعة و تجربتها الفاشلة في الحكم، له أسباب وسياقات “لكن قرار إدارة أوباما بالتعامل مع الجماعة دون قيد أو شرط ساهم في قرار هذه الأخيرة التطلّع إلى السلطة، كما جعلها تشعر بالأمان رغم فرضها حكماً استبدادياً بشكل أكبر وتعزيز سلطتها. ونظراً إلى إيديولوجياتها المعادية للغرب، توقّعت جماعة (الإخوان المسلمين) أن يشكّل الغرب عائقاً أساسياً يمنع صعودها السياسي؛ غير أن مفاجأة سارة كانت بانتظارها عندما تعاطت واشنطن معها بطريقة ودّية.

وقد اعتمدت واشنطن هذه الإستراتيجية لاعتقادها أن “الإخوان المسلمين” سيبقون في السلطة لبعض الوقت، وأن الولايات المتحدة قد تؤثّر بشكل أكبر على الجماعة من خلال سياسة الثواب عوضاً عن المزيج الاعتيادي من الثواب والعقاب. إن فشل هذه السياسة إلى جانب عجز واشنطن الكامل عن فهم منظمة كانت تروّج للرسالة المتطرفة نفسها طوال تاريخها الممتدّ على أكثر من ثمانين عاماً، يثير الشكوك حول ما إذا كانت واشنطن ستتمكن يوماً من اتخاذ القرارات الصائبة بشأن السياسات المحلية لدول الشرق الأوسط.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات