عاود تنظيم “داعش” الإرهابي مجدداً ظهوره الذي يكاد لا يتوقف في البادية السورية. حيث إنه بالرغم من هزيمة التنظيم الإرهابي في الباغوز، شرقي سوريا، على يد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، عام 2019، إلا أنه ما زال يشكل تهديدات عسكرية وأمنية شديدة، بل ويبعث بتحديات عنيفة، خاصة في ظل تمكن خلاياه الخفية و”ذئابه المنفردة” من الكمون، وإيجاد مخابيء وملاذات آمنة في عدة مناطق جغرافية تتسم طبيعتها وجغرافيتها بالوعورة، كما هو الحال في البادية السورية. 

وتنطلق عناصر التنظيم من الإرهابيين في تنفيذ هجمات مسلحة ضد “قسد” وقوات الجيش السوري التابع لحكومة دمشق.

ووفق “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، مقره لندن، ففي النصف الثاني من شهر آب/ أغسطس الماضي، تم العثور على تسعة جثامين لعناصر من جنود الجيش التابع لحكومة دمشق، في بادية تدمر، وقد تضاعفت أعداد العمليات الإرهابية لتنظيم “داعش” في الشهور الأخيرة. 

وتتفق هذه المعلومات أو تتقاطع مع ما وثقته القيادة المركزية للقوات العسكرية الأميركية “سنتكوم”، بينما قالت إن العمليات العسكرية في تموز/ يوليو الماضي شهدت ارتفاعاً لافتاً وتضاعفت مقارنة بمجموع العمليات خلال العام الماضي كله. فمنذ مطلع العام الحالي وحتى منتصفه في حزيران/ يونيو، بلغت العمليات الإرهابية 153 بين سوريا والعراق، وقد ألمحت القيادة الأميركية إلى أن هذا المؤشر يعني محاولة بناء التنظيم لذاته وإعادة تموضعه في ظل ضعف قدراته وإمكانياته.

محاربة “داعش” على جميع الجبهات

وقبل نحو شهر، قال المرصد إن التنظيم نفذ 18 هجوماً في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا، وقضى فيها خمسة أشخاص، وكذا تسعة هجمات بالبادية بمناطق سيطرة الحكومة بدمشق ونجم عن ذلك مقتل 21 عسكرياً، موضحاً أن مناطق “المعارضة السورية” لا تشهد هجمات للتنظيم، في إشارة لمناطق إدلب وشمال غربي سوريا، وتتوزع نفوذ تلك المناطق بين “هيئة تحرير الشام” وما يعرف بـ”الجيش الوطني السوري” مع القوات التركية.

الهزيمة العسكرية والقبضة الأمنية على تنظيم “داعش” الإرهابي، ليس بمقدورها وحدها فرض السيطرة النهائية-“إنترنت”

ليس ثمة شك في أن “قسد” تباشر دورها الأمني والعسكري نحو غلق الجيوب التي تتوافد منها عناصر التنظيم الإرهابي، فضلاً عن دور “الإدارة الذاتية” لشمال وشرق سوريا من الناحيتين الثقافية والتوعوية والسياسية، لتأميم المجال العام أمام فكر التنظيم الإرهابي، وذلك من خلال المشاركة السياسية القائمة على إدارة التنوع، وعدم تغييب أي مكون بما يتسبب في نزاعات على أسس جهوية أو عقائدية ودينية قومية متشددة، الأمر الذي يتسبب في انبعاث جاذبية الأفكار المتشددة وتبني كرد فعل على الشعور بالمظلومية (السنية) واتخاذها وسيلة دفاعية لاسترداد الحقوق السياسية وغيرها من الاستحقاقات. 

إذ تلعب “الإدارة الذاتية” من خلال تشارك الحكم بتمثيل كُردي وعربي وسرياني وآشوري أي بحسب التنوع القومي والإثني والديني ومساحاته الديمغرافية دوراً باتجاه عمل توازنات في تلك الناحية وبما يحقق تنمية سياسية ومجتمعية، وذلك جنباً إلى جنب مع الدور العسكري والاستخباري الذي تتولاه “قسد” وبمشاركة التحالف الدولي، وما يوفره الأخير من نفوذ استخباري وإسناد جوي.

فالهزيمة العسكرية والقبضة الأمنية على التنظيم الإرهابي، ليس بمقدورها وحدها فرض السيطرة النهائية، وتأمين عدم عودة ظهوره مرة أخرى، بل إن احتمالات العودة وتنفيذ الضربات الهجومية بين الحين والآخر مع تكتيك الكمون، تظل قائمة، في ظل الانسحاب المراوغ والمؤقت لـ”داعش” بحيث يشكل خرائط جديدة له في مناطق آمنة يصعب الوصول له وملاحقته والقضاء التام عليه، كما يحدث في البادية السورية ذات المساحات الجغرافية المعقدة والوعرة والتي تبدو في نطاقات خارج السيطرة، وهي في غالبيتها واقعة تحت سيطرة قوات حكومة دمشق، تحديداً في أجزاء من حماة وحمص ودير الزور والرقة. وتبدو تلك المناطق التي يتخفى فيها عبارة عن ارتكاز لتنفيذ هجماته الإرهابية سواء بالتفجيرات أو نصب كمائن.

ويشير “المرصد السوري” على لسان مديره رامي عبد الرحمن، إلى تواجد عناصر التنظيم الإرهابي، وعددهم نحو ألفي مسلح بعتادهم العسكري، في محيط جبل البشري ريف الرقة والرصافة ومناطق آثريا والرهجان المرتبطة بريف حماة الشرقي، ويقول عبد الرحمن إن التنظيم يستغل الطبيعة الصحراوية للبادية كونها “مناطق مكشوفة تمكنه من تنفيذ الهجمات العسكرية المباغتة ونشر الألغام ونصب المكامن والكر والفر”، وهي تبدو عمليات استنزافية يستعيد خلالها التنظيم قدراتها ويبعث برسائل على أنه يواصل هجماته ولم تكتب شهادة وفاته في الباغوز عام 2019.

وبحسب “المرصد السوري” الحقوقي في لندن، فإن التنظيم الإرهابي المسلح قد عنى في هجماته على قوات “الدفاع الوطني” و”لواء القدس” المدعوم من روسيا بينما يتفادى الاحتكاك بالميلشيات المدعومة من “الحرس الثوري الإيراني”، ويقول مدير المرصد رامي عبد الرحمن إن  الحملات التي تقودها الحكومة بدمشق بالتعاون مع موسكو بحجة محاربة “داعش” ذات أثر محدود مؤكداً أنها “فشلت لدرجة كبيرة في الحد من نشاط التنظيم ولم تتمكن من إيقاع خسائر بشرية في صفوفه على رغم أنها كانت حملات كبيرة بمشاركة فرق وتشكيلات عسكرية عدة”.

تهديدات “داعش”

وبالتزامن مع كل هذه الحوادث، فقد أوضحت القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم)، أن سبعة جنود أميركيين أصيبوا بجروح أثناء “الغارة المشتركة” التي نفذتها مع قوات الأمن العراقية في محافظة الأنبار بغرب العراق أول من أمس الخميس وأدت إلى مقتل 15 من عناصر التنظيم.

يظل وجود وانتشار “داعش” في البادية السورية مجرد ارتكاز تكتيكي لكنه يتخطى ذلك إلى كونه نافذة تطل منها أعراض تفشي ظاهرة الإرهاب المسلح والمتشدد، في نسخه المتباينة، سواء تحت غطاء “داعش” أو غيره.

فيما قال، مطلع الأسبوع، مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية إن خمسة من هؤلاء أصيبوا خلال الغارة، بينما أصيب اثنان بسبب سقوطهما، لافتاً إلى أن حال كل المصابين مستقرة. وجاء في البيان الصادر عن “سنتكوم” أن الجيش الأميركي وقوات الأمن العراقية قد نفذ كل منهما غارة صباح الخميس الماضي غرب العراق أسفرت عن مقتل 15 من عناصر تنظيم “داعش”. وتابعت: “هذه المجموعة من عناصر تنظيم ‘داعش’ كانت مسلحة بعديد من الأسلحة والقنابل والأحزمة المتفجرة”، مضيفة “لا يوجد ما يشير إلى وقوع إصابات بين المدنيين”.

ولفت البيان ذاته إلى أن هذه العملية قد طاولت “قادة في تنظيم ‘داعش’ بغية التعطيل والحد من قدرة التنظيم على التخطيط والتنظيم وتنفيذ هجمات ضد مدنيين في العراق ومواطنين أميركيين وحلفاء وشركاء في كل أنحاء المنطقة وخارجها”، وقالت إن “قوات الأمن العراقية تواصل استكشاف موقع الغارة”، وأن “تنظيم ‘داعش’ لا يزال يشكل تهديداً للمنطقة وحلفائنا، وكذلك لوطننا”. موضحة: “ستواصل القيادة المركزية الأميركية إلى جانب التحالف وشركائنا العراقيين ملاحقة هؤلاء الإرهابيين بقوة”.

وفي تقرير سابق بـ”معهد واشنطن”، أوضح نائب للمبعوث الخاص للتحالف الدولي لهزيمة تنظيم “داعش” في وزارة الخارجية الأميركية، إيان مكاري، بأنه في 23 آذار/مارس 2019، أي قبل خمس سنوات تقريباً، حرر التحالف وشركاؤه المحليون الجزء الأخير من الأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم “داعش” في الباغوز بسوريا. لافتاً إلى أنه ومع الذكرى الخامسة للهزيمة الإقليمية لتنظيم “داعش” الإرهابي ونقترب أيضاً من الذكرى السنوية العاشرة القادمة لقيام التحالف، عرج على عدة عوامل منها الطبيعة المتطورة لتهديد تنظيم “داعش” الإرهابي. 

إن تقليص عدد مخيمات النازحين مثل مخيم “الهول” وبالطبع مراكز الاحتجاز من خلال عمليات العودة إلى الوطن، يعد أمراً ضرورياً لتقليل خطر عودة ظهور التنظيم- “إندبندنت”

وقال “لا زلنا نرى تهديداً حقيقياً في العراق وسوريا، حيث سيطر تنظيم “الدولة الإسلامية” في وقت ما على منطقة يبلغ عدد سكانها حوالي عشرة ملايين نسمة. وقد شهدنا ظهور الجماعة التي تدور في فلك “داعش” – ما يسمى بـ “تنظيم الدولة الإسلامية – ولاية خراسان” داخل أفغانستان، والذي يشكل تهديداً خارجياً واضحاً – وكذلك في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث ظهر العديد من المنتسبين إلى تنظيم “الدولة الإسلامية””.

ويقول التقرير إنه “لا يزال الخط الأول من الجهود ينصب في العراق وسوريا، حيث يواصل التحالف تعزيز وتنسيق المساعدة في تحقيق الاستقرار للمناطق والسكان المحررين. وبالتعاون مع شركائنا، حقق التحالف نجاحاً ملحوظاً في استعادة الاستقرار في المناطق المحررة من تنظيم (داعش)، مع مساعدة منسقة تتبع مباشرة على خطى العمليات العسكرية واستعادة الشعور بالحياة الطبيعية لملايين السوريين والعراقيين. ومع ذلك، لا تزال هناك فجوات خطيرة في الخدمات الأساسية، وانعدام الأمن الغذائي، والتوتر بين الطوائف، والظروف الأمنية الهشة، ونقص الفرص الاقتصادية على الأرض، فضلاً عن القمع الذي يمارسه النظام، وجميعها تؤجج المظالم المحلية التي يتغذى عليها تنظيم (داعش) ويعمل على تجنيد المقاتلين”.

ضرورة تقليص عدد مخيمات عوائل “داعش”

ويردف: “إن تقليص عدد مخيمات النازحين مثل مخيم “الهول” (الذي يضم ما يقرب من 43000 شخص) وبالطبع مراكز الاحتجاز (التي تضم ما يقرب من 9000 مقاتل من تنظيم “داعش”) من خلال عمليات العودة إلى الوطن، يعد أمراً ضرورياً لتقليل خطر عودة ظهور التنظيم”.

وفي عام 2023، تمت إعادة ما يقرب من 5500 شخص إلى أوطانهم الأصلية من شمال شرق سوريا. ويشمل هذا العدد أكثر من 4000 عراقي وأفراد من عشرين دولة أخرى. وفي شباط/فبراير من هذا العام، عاد 99 امرأة وطفل نازح من مخيمَيْ “الهول” و”روج” إلى ديارهم في قيرغيزستان، مما أتاح الدعم التأهيلي وإعادة الاندماج في المجتمع. وعلى الرغم من أننا نحرز تقدماً في عمليات الإعادة إلى الوطن، إلا أننا نواصل دعوة الحكومات إلى إعادة مواطنيها من شمال شرق سوريا – ومرة أخرى، تُعد عمليات الإعادة إلى الوطن أهم أداة لدينا لمنع عودة تنظيم “داعش”، يضيف المعهد الأميركي.

إذاً، يظل وجود وانتشار “داعش” في البادية السورية مجرد ارتكاز تكتيكي لكنه يتخطى ذلك إلى كونه نافذة تطل منها أعراض تفشي ظاهرة الإرهاب المسلح والمتشدد، في نسخه المتباينة، سواء تحت غطاء “داعش” أو غيره، ففي ظل بيئة اجتماعية فقيرة ووضع أمني هش وتفلت عسكري وطبيعة جغرافية معقدة ينجح عناصر التنظيم في فرض الإتاوات وبناء اقتصاديات خاصة لإعادة بناء إمكانياتهم وتجديد مواردهم، حيث إن البادية بمساحاتها الممتدة وفراغاتها التي تشغلها حركة التنظيم الإرهابي، تصنع تقاطعات من خلال نصب الكمائن وتنفيذ الهجمات المسلحة في المناطق المؤدية لدير الزور وحمص ودمشق، وهي خطوط اتصال استراتيجية. 

ومن هنا، توافر للتنظيم الاختباء والقدرة على امتلاك موارد وبناء قدراته المالية فضلاً عن تدشين معسكرات تدريب على القتال وتهيئة على الأفكار التكفيرية. وربما استمرار الدعم من القوى الإقليمية، لا سيما تركيا، وتنفيذ خدمات كما في السابق لحساب أجندتها البراغماتية في سوريا، وتحقيق دورها الوظيفي.

قوات الجيش السوري في البادية السورية في مواجهة “داعش”- (تصوير عمر الديري/ وكالة الأناضول عبر غيتي إيماجز)

وفي تقرير بعنوان: “إعادة تشكيل صفوف تنظيم (داعش) في الصحراء السورية”، بـ”معهد واشنطن”، يقول إن “انفتاح جغرافية الصحراء السورية الوسطى إلى الصحراء العراقية وصولاً إلى جبال حمرين ومناطق مخمور العراقية يُمكن “داعش” من تفعيل شبكات التهريب بسهولة وتوفير الدعم اللوجيستي له في سوريا.

إضافة إلى ذلك، تتيح تركيبة الجماعات المسلحة في شمال غرب سوريا لقيادات الصف الأول في تنظيم “داعش” التحرك وإدارة التنظيم بسهولة حيث إن معظم المجموعات المسلحة التي تشغل شمال غرب سوريا بما فيها “داعش” خرجت من رحم تنظيم القاعدة وتتشارك في نفس الأيديولوجية. ولتسهيل عودته مرة أخرى، يقوم التنظيم حالياً بتطوير هيكليات أمنية (ولايات أمنية) تنطلق من الصحراء السورية وتنتشر على شكل خلايا أمنية تنشط في مناطق مختلفة من سوريا وبالأخص في أرياف كل من دير الزور والرقة والسويداء.

وتكمن مهمة التنظيم عبر هذه الخلايا بضرب قيادات الحكم المحلي في شرق الفرات والعمل على بث الرعب بين العشائر العربية هناك لضمان عدم الانضمام إلى صفوف “قوات سوريا الديمقراطية” وكذلك لتأمين شبكات التهريب لجلب العناصر الجدد إلى الصحراء السورية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة