في ظل التباينات التي تجترح الواقع السياسي والميداني العسكري الليبي، تتسلل روسيا لجهة توطين نفوذها وعسكرة مصالحها في البلد الواقع وسط ساحل إفريقيا الشمالي بينما يطل على جنوب البحر المتوسط، ويتاخم السواحل الأوروبية، وبما يجعل موقعه الجيواستراتيجي نقطة تنافس محموم بين القوى واللاعبين الإقليميين والدوليين. ولهذا تلاحق موسكو في ليبيا النفوذ الغربي والولايات المتحدة، من خلال حشد وتعبئة مرتزقتها وتشكيل قوات تكون بمثابة الحامل لأجندتها السياسية والخارجية، ذلك من خلال قوات “فاغنر” مرة، وقد ظهر، مؤخراً، ما سُمي “الفيلق الإفريقي” .

وبرغم شح المعلومات عن القوات الروسية الجديدة، إلا أن هيكلها وقوامها العسكري يكاد لا يختلف عن سابقه الذي خاض تمرداً فاشلاً ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث تتموقع الأذرع العسكرية لموسكو في ليبيا لتجسير صلات قوية في شرق المتوسط، بما فيها من مصالح حيوية خلفيتها الوجود في ليبيا وسوريا وبوكينا فاسو والنيجر والسودان وإفريقيا الوسطى.

فيما تشير صحيفة “لوموند” الفرنسية، إلى أن روسيا تواصل تمديد نفوذها العسكري وتضاعف من قواتها ومعداتها بشمال إفريقيا منذ مطلع العام، موضحة في تقرير لها أن هناك زيادة لافتة في القوات التي تعتمد عليها روسيا، ويتم نقلها من سوريا. 

وتتضمن المعدات التي تم نقلها في الفترة الأخيرة أسلحة ثقيلة منها مدافع هاون ومركبات نقل مدرعة في طبرق. ونقلت الصحيفة الفرنسية عن مصدر دبلوماسي لم تكشف عن هويته بأن “التحركات الروسية في ليبيا مؤخراً خروق روسي عالمي لجهة تنصيب حكومات تابعة لروسيا في كافة أنحاء شرق وغرب إفريقيا”، ولم تعد هناك سوى تشاد ويكون قد اكتمل الدور الروسي الذي يضطلع بتقسيم إفريقيا إلى شطرين.

ليبيا كـ” ارتكاز مباشر” لروسيا

وفي نهاية العام الماضي لم تخف وزارة الدفاع الروسية تصريحاتها التي تؤكد أن “الخطوات بدأت فعلياً في تشكيل فيلق إفريقيا، وأن الانتهاء من تشكيل الفيلق سيكون خلال عام 2024 في خمس دول إفريقية، هي: ليبيا، وبوركينا فاسو، ومالي، وإفريقيا الوسطى، والنيجر”. موضحة أن “فيلق إفريقيا” يتبع الإدارة العسكرية الروسية مباشرة، وتحت إشراف الجنرال يونس بك إيفكوروف، نائب وزير الدفاع الروسي.

اللواء خليفة حفتر يستقبل وزير الخارجية الروسي لافروف-“الأوروبية”

إذ إن النفوذ العسكري الروسي سواء من خلال شركتها الأمنية الخاصة، أو عبر عناصر ميلشياوية ومرتزقة، ليس أمراً طارئاً، إنما مرتبط بتاريخ الأزمة في ليبيا كما في عدة مناطق أخرى بالشرق الأوسط خلال العقد الأخير، وتتمركز القوات الروسية في شرق البلاد وبالتعاون مع المشير خليفة حفتر، وقد أسفر هذا التعاون عن ظهور ما عرف بـ”فيلق إفريقيا”، مطلع العام الحالي، والذي يتخذ من وجوده في ليبيا ارتكاز مباشر لحماية/ عسكرة مصالح روسيا في إفريقيا.

وفي ما يبدو أنه بعد الأزمة التي تسبب فيها قائد “فاغنز” السابق يفغيني بريغوجين، تجعل من ظهور الفيلق العسكري الروسي الجديد صناعة لبديل يطوق عدة مناطق في إفريقيا الغنية بالموارد الطبيعية بداية من النفط ومروراً بالألماس وحتى الذهب، وهي عوائد تستغلها في حربها ضد أوكرانيا.

غير أن هذا الوجود الروسي الذي يبحث عن بقاء واستمرار استراتيجيين يخلق من ليبيا ساحة لاستمرار الصراع مع الغرب وواشنطن. بل إن تقريراً سابقاً لصحيفة “فيدوموستي” قد أوضح أن هيكل الفيلق اعتمد في قوامه على المقاتلين السابقين في صفوف “فاغنر”، وذلك بحسب تصريحات لمسؤولين روس، وقد أكدوا أن الفيلق سيحصل على تعليماته من وزارة الدفاع بشكل مباشر.

وقد سبق لمنصة “military Africa” المختصة بالشؤون الأمنية والعسكرية بإفريقيا، أن أوضحت عن معدات عسكرية وصلت إلى ليبيا للفيلق الجديد بواسطة سفينتي الإنزال الروسيتين”ألكسندر أوتراكوفسكي” و”إيفان غرين”. 

وتشمل المعدات العسكرية مدرعات ثقيلة وخفيفة، وكذا مدفعية مضادة للطائرات من نوعية “ZU – 23 – 2″، ومركبات “كاماز”.

المخاوف الأوروبية من التوسعات الروسية

ومع المخاوف الأوروبية من تمدد النفوذ الروسي، تضغط أوروبا وواشنطن باتجاه تقليل وجود القوات الأجنبية، حيث طالبت رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني قبل زيارتها ليبيا، في أيار/ مايو الماضي، “تخفيف القوات الأجنبية، وتحديداً القوات الروسية في ليبيا”. وتزامنت التحركات الإيطالية مع نقاشات جمعت القيادة الأميركية بإفريقيا ممثلة في الجنرال مايكل لانغلي، والسفير والمبعوث الأميركي الخاص ريتشارد نورلاند بالمشير حفتر.

وهنا يشير “منبر الدفاع الإفريقي”، المعني بالشؤون العسكرية الإفريقية، إن روسيا قد نشرت حوالي 1,800 مقاتل في شرق ليبيا، وتأمل أن تجعل منها قاعدة لبسط نفوذها في بقاع أخرى من القارة، وبعض هؤلاء المقاتلين جنود روس، وبعضهم كانوا مرتزقة في الفيلق الإفريقي الروسي الذي لا يزال مشهوراً باسمه القديم: مجموعة “فاغنر”.

يبدو أن روسيا توزع قواتها الميلشياوية أو بالأحرى مرتزقتها في السواحل مثل ميناء سرت وبراك الشاطي وتتواجد بها قاعدة عسكرية، حيث إن ساحل المتوسط بالنسبة لبوتين هو ممر حيوي تصل من خلاله خطوط الإمدادات العسكرية.

وقد حدث ذلك بعد أن قامت مجموعة من السفن الروسية بتسليم آلاف الأطنان من الأسلحة والمعدات العسكرية في ميناء طبرق، الواقع في شرق ليبيا، في نيسان/أبريل الماضي، وحدث كلا الأمرين بعد اجتماعات بين يونس بك يفكوروف، نائب وزير الدفاع الروسي، والفريق أول أندريه أفريانوف، رئيس مجموعة “فاغنر” الجديد، والمشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي المتمركز في الشرق. 

كما قدر المحللون أن “فاغنر” كان لديها نحو 2,000 مقاتل على الأرض في ليبيا قبل إرسال المرتزقة إليها مؤخراً، فقد دخلت ليبيا في عام 2018 لدعم حفتر في الحرب الأهلية التي نشبت عقب سقوط الديكتاتور معمر القذافي في عام 2011، وكانت تحصل على مقابل خدماتها من النفط الليبي.

روسيا تسعى لتوسيع نفوذها بإفريقيا

وتأتي الزيارة في وقت تسعى فيه روسيا إلى توسيع نفوذها ووجودها في إفريقيا، وخاصة في منطقة الساحل، حيث أقامت بالفعل علاقات وثيقة مع مالي، جارة النيجر وحليفتها الرئيسية. وتقدم روسيا مساعدات عسكرية وفنية لمالي، فضلاً عن دعم مشاريعها التنموية في مجالات الطاقة والنقل والتعدين. كما شاركت روسيا في جمهورية إفريقيا الوسطى والسودان، حيث نشرت مجموعة “فاغنر”، وهي مجموعة شبه عسكرية تمولها الدولة الروسية، لتوفير الأمن والتدريب للقوات المحلية.

بوتين يستقبل زعيم المجلس العسكري في بوركينا فاسو، إبراهيم تراوري، في قمته الروسية الإفريقية في سان بطرسبرغ في يوليو/تموز 2023.

وعليه، التمركز الروسي بقوات تابعة لوزارة الدفاع وبشكل رسمي في إفريقيا، تتوزع على خمس دول رئيسية ومهمة، يحمل الطابع الاستراتيجي المباشر في بناء أهدافها بما يتجاوز سياستها القديمة القائمة على ملء الفراغ، بل إنها تصطدم بالوجود الغربي والأميركي في نقاط حيوية وتدفع بعض القوى إلى الانزياح ولو بشكل مؤقت، وتعزز موسكو هذا الوجود من خلال تزامن تشكيلها لـ”فيلق إفريقيا” مع تدشين قاعدة بحرية في طبرق. 

ويبدو أن روسيا توزع قواتها الميلشياوية أو بالأحرى مرتزقتها في السواحل مثل ميناء سرت وبراك الشاطي وتتواجد بها قاعدة عسكرية، حيث إن ساحل المتوسط بالنسبة لبوتين هو ممر حيوي تصل من خلاله خطوط الإمدادات العسكرية. 

يتفق والرأي ذاته، “المركز المصري” للفكر والدراسات الاستراتيجية، والذي يقول إن الفيلق الروسي الجديد يعكس سعي موسكو لتوسيع نفوذها العسكري في القارة الإفريقية، مع منحه شرعية الوجود الرسمي والعلني في مواجهة الحضور الأوروبي والأميركي والذي يشهد تراجعاً ملحوظاً، وذلك عن طريق تقديم موسكو نفسها كمناصرة للاستقلال الإفريقي من الاستعمار الأوروبي، عن طريق دعم الأنظمة السياسية الصاعدة المناهضة للوجود الفرنسي مثل بوركينا فاسو والنيجر ومالي وإفريقيا الوسطى.

وقد قامت روسيا بالفعل بنقل مقاتلين وعسكريين روس إلى ليبيا في الفترة من شباط/فبراير إلى نيسان/أبريل من العام الجاري. حيث تشهد الأراضي الليبية وجود 1800 جندي روسي في البلاد خلال الأسبوعين الماضيين. ويتم تجميعهم بشكل رئيسي في شرق ليبيا تم نقل بعضهم إلى النيجر بينما بقي البعض الآخر في ليبيا.

وبحسب المصدر الأمني الروسي، فإن الجنود موجودون في ليبيا بشكل غير رسمي ويتم تقديمهم على أنهم ممثلون لشركة عسكرية خاصة. وأضف إلى ذلك، تم اكتشاف العديد من الأفراد من الجنسية السورية بين الأفراد الروس في القواعد العسكرية. كما ظهر اتجاه موسكو لتعزيز الوجود العسكري منذ أشهر قليلة بعد تأسيس “الفيلق الإفريقي” بعد نقل قوات عسكرية إلى ميناء الحريقة بمدينة طبرق أقصى شرق ليبيا، بوصول دفعة من التجهيزات العسكرية التي تضم أسلحة وذخائر ومعدات وشاحنات عسكرية لتجهيز الفيلق الروسي الإفريقي، والذي نشرته وسائل إعلام محلية وهو ما يثير المخاوف والتحذيرات لدى القوى محلية منذ نهاية نيسان/أبريل الماضي، بل الدولية أيضاً والتي من بينها الولايات المتحدة وأوروبا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات