رجب طيب أردوغان سيد اغتنام الفرص، تبدو سياسته الظاهرة تجاه إفريقيا تقليدية إلى حد كبير، إلا أنه يسعى إلى تحويل أنقرة من لاعب إقليمي إلى قوة مؤثرة في المشهد الدولي عبر التواجد في القارة الإفريقية ولو على حساب سكانها. فقد شهدت العلاقات بين تركيا وإفريقيا تحولًا كبيرًا في العقود الأخيرة، وتسعى تركيا من خلال هذه العلاقات إلى تحقيق أهداف اقتصادية وسياسية واستراتيجية متعددة ساقتها نحو استعمارها بصمت.
قدمت تركيا نفسها للقارة الإفريقية بوصفها منظورًا بديلاً للتعاون، وهذا ما يميزها عن القوى العالمية التقليدية التي تربطها بإفريقيا روابط استعمارية قديمة. وفي هذا الشهر، سيرأس وزير الخارجية التركي هاكان فيدان اجتماعًا لمؤتمر المراجعة الوزاري التركي الإفريقي مع نظرائه من 14 دولة إفريقية، استعدادًا للقمة الرابعة بين تركيا وإفريقيا في عام 2026.
القوة الناعمة التركية في إفريقيا
في إفريقيا، فاجأ أردوغان الجميع عام 2019 عندما تدخلت تركيا في الحرب الأهلية في ليبيا لمنع خليفة حفتر من الاستيلاء على طرابلس، إذ تعتبر تركيا ليبيا جزءًا من المناطق النائية الأوسع في شرق البحر المتوسط وبوابة اقتصادية مهمة للعديد من الموارد الطبيعية التي يجب أن يكون لها حضور فيها.
ومؤخرًا، كان أردوغان يحاول التوفيق بين اثنين من أقرب حلفائه الأفارقة، الصومال وإثيوبيا، اللتين اختلفتا بشأن اعتراف إثيوبيا باستقلال أرض الصومال مقابل الوصول إلى البحر. وتقدّم تركيا سياستها هنا بوصفها وسيطًا بين الدول الإفريقية، مما يساعدها على التقارب والتواجد في إفريقيا بشكل أكبر، ليتحوّل الدور التركي من وسيط محايد إلى صاحب نفوذ وسلطة، معتمدًا في ذلك على أساليب مباشرة تعود إلى التاريخ القديم الذي يربط تركيا بإفريقيا عبر التراث العثماني.
هذا ما وصفه مصطفى النعيمي، باحث مشارك في المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية “أفايب”، في حديثه مع “الحل نت”، بالسياسة الناعمة التركية التي تعتمد على مجموعة من الأدوات والمحددات لتعزيز نفوذها الإقليمي والدولي بشكل غير مباشر ومن دون استخدام القوة العسكرية الصريحة. وتهدف هذه السياسة إلى بناء علاقات إيجابية، وتعزيز صورتها، ودعم مصالحها عبر وسائل القوة الناعمة كالثقافة، والدين، والتعليم، والمساعدات الإنسانية، والإعلام.
تركز تركيا بشكل خاص في على المشروعات التنموية والإنسانية كاستراتيجية واضحة المعالم تطبقها عبر سياسة استعمارها الناعم في إفريقيا عمومًا، وفي الصومال خصوصًا، حيث قدّمت دعمًا إنسانيًا واسع النطاق في المناطق التي تشهد أزمات وجفافًا ومجاعة، إلى جانب دعمها في مجالات التعليم والبنية التحتية، مما يمنحها شعبية تبني من خلالها قاعدة لتوسيع تأثيرها على المستوى الشعبي والسياسي.
توسعت مؤسسة “المعارف” التركية الدينية في إفريقيا لتشمل شبكة تضم 140 مدرسة ومؤسسة تخدم 17 ألف طالب، فيما يبلغ عدد الطلاب الأفارقة في تركيا 60 ألف طالب. وقد عززت مديرية الشؤون الدينية القوية في أنقرة أنشطتها الإنسانية ودعمها للمساجد والتعليم الديني في جميع أنحاء المنطقة.
وتصف قناة “إن آر تي” نفسها بأنها أول قناة تلفزيونية تركية في القارة، وتفتخر على موقعها الإلكتروني بأنها تخدم 49 دولة إفريقية وتنشر اللغة التركية. كما تقدم هيئة الإذاعة والتلفزيون العامة (TRT) برامج باللغات الفرنسية والإنجليزية والسواحيلية والهاوسا، وتعمل على تطوير دورات تدريبية للصحفيين المستقبليين. وتجد النزعة الدينية المحافظة في تركيا صدى في العديد من البلدان الإفريقية، خاصةً في وقت يتم فيه اعتماد قوانين مناهضة للمثليين جنسياً في القارة.
البديل الجديد للغرب
برزت تركيا كقوة مؤثرة، لكنها محيرة ومثيرة للجدل في إفريقيا، وأصبحت اليوم تؤدي دورًا مهمًا في القرن الإفريقي والدول المجاورة. وفي الوقت الذي تبتعد فيه العديد من الدول الإفريقية عن مستعمريها السابقين، تسعى تركيا إلى ملء الفراغ الذي خلّفته هذه القوى.
تقول سيلين جوكوم، مؤلفة دراسة حول المصالح التركية في إفريقيا لصالح “مرصد تركيا المعاصرة” في باريس، إن “أردوغان يقدم نفسه كبديل للغرب”. وأوضحت جوكوم لوكالة “فرانس برس” أن أنقرة تؤكد في كثير من الأحيان على “صدق” وجودها في القارة مقارنة بالوجود الأوروبي الذي يثقل كاهله إرث الاستعمار.
وبحسب تقرير لتيريزا نوغيرا بينتو، المحللة في خدمات الاستخبارات الجيوسياسية حول اتفاقيات الدفاع التركية مع الدول الإفريقية، فإن أردوغان أقل اهتمامًا بالقيود المفروضة على اختيار شركائه. وكتبت بينتو: “على عكس الغرب، لا تجعل تركيا هذه المساعدة مشروطة بالحكم الرشيد أو الالتزامات المتعلقة بحقوق الإنسان”.
ويشير النعيمي إلى أن مستويات النفوذ التركي واسعة النطاق في ظل التموضع الروسي والأميركي، حيث يعتبر النفوذ التركي في إفريقيا تحولًا استراتيجيًا في السياسة الخارجية التركية، إذ تحاول أنقرة الجمع بين القوة الناعمة المدعومة بالقوة العسكرية لتثبيت مكتسباتها الناعمة على الأرض من أجل تحقيق المصالح الاستراتيجية التركية على المدى القصير والمتوسط والبعيد.
وهكذا، تسعى تركيا من خلال نفوذها المتنامي في إفريقيا إلى الظهور كقوة دولية مستعمرة ترسم ملامح مرحلة جديدة من مستقبل تركيا في ظل النظام الدولي أحادي القطبية.
ولهذا، تتنافس تركيا مع دول مثل البرازيل وروسيا وتايلاند واليابان وكوريا على الوصول إلى أسواق إفريقيا ومواردها. وعلى الرغم من أن نفوذ تركيا أقل من نفوذ القوى العالمية الأخرى، إلا أن الدور المتزايد باستمرار الذي تلعبه في القارة يشير إلى أن البلاد تتحرك بالفعل نحو التحول إلى بديل. وسيعتمد النجاح المستقبلي لهذه الاستراتيجية التنويعية على قدرة تركيا على التغلب على التحديات واغتنام الفرص، لتصبح الساحة الأكثر أمانًا للأفارقة.
وقد كثفت تركيا جهودها الدبلوماسية الرسمية؛ إذ يوجد الآن 44 سفارة تركية في إفريقيا، مقارنة باثنتي عشرة سفارة في عام 2002. كما أطلقت أنقرة برامج ثقافية، ومجالس أعمال، وشبكة رحلات جوية واسعة النطاق عبر القارة، حيث تطير الخطوط الجوية التركية الآن إلى أكثر من ستين وجهة إفريقية.
الاستعمار التركي في الدول الإفريقية
في عام 2023، شارك المقاولون الأتراك في مشاريع بلغت قيمتها 85.5 مليار دولار، وفقًا لوزارة التجارة. وفي عام 2012، أصبحت تركيا أول دولة تستأنف رحلاتها الجوية إلى مقديشو، حيث أعيد بناء مطارها بتمويل ومساعدة تركية.
في نهاية عام 2024، عندما يصل عدد سكان العالم إلى 8.2 مليار نسمة، ستتجاوز إفريقيا الهند والصين ليصل عدد سكانها إلى 1.5 مليار نسمة. ويرى النعيمي: “تحاول تركيا كسب حلفاء سياسيين في إفريقيا لدعم مشروعها المتعلق بمنظمة التعاون الإسلامي أو الحصول على مزايا في الأمم المتحدة والمحافل الدولية لمواجهة بعض الضغوط الممارسة ضدها”.
ومن خلال المناخ الذي تحاول تركيا تشكيله مع حلفائها في إفريقيا، تسعى لدعم القوى المحلية وبناء شراكات وصولًا إلى مضيق باب المندب، الذي يعد إحدى أبرز عقد الطرق البحرية الدولية الرابطة بين الشرق والغرب، لتأمين طرق الملاحة البحرية عبر تلك الشراكات التي تتيح لها التمركز بحريًا.
وتعد تركيا واحدة من الدول التي استجابت بشكل فعّال لتحرك الاتحاد الإفريقي، الذي أطلقته دول أخرى في القارة عام 2005، حيث بدأت بغرس علاقاتها الدولية وتوسعت في مجالات متعددة كالتجارة والدفاع والأمن والتنمية والتعليم والصحة والزراعة وتربية الحيوانات.
وتظل إثيوبيا الوجهة الأولى للاستثمار الأجنبي المباشر التركي، حيث تلقت أكثر من 2.5 مليار دولار من إجمالي 6 مليارات دولار مخصصة لإفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، تعد مصر أكبر شريك تجاري ثنائي لتركيا في القارة الإفريقية.
ويتيح الاستثمار التركي في إفريقيا للدول الإفريقية توسيع قاعدتها الاقتصادية، والوصول إلى التقنيات والاستثمارات الجديدة، وتعزيز علاقات أكثر توازنًا. ومن الممكن أن يسهم هذا التنوع في تعزيز قدرتها على الصمود في مواجهة التقلبات الاقتصادية العالمية ودعم مسار التنمية الأكثر شمولًا. إلا أن هذا الأمر جعل من تركيا وصيًا على الاقتصاد والاستثمار الإفريقي، مانحًا إياها اليد العليا في الاتفاقيات الاقتصادية.
شيطنة القارة السمراء
التواجد العسكري التركي في إفريقيا مهما للدبلوماسية التركية بجميع أبعادها ومستوياتها، إلا أن التواجد العسكري هو الأكثر أهمية؛ لأنه الأسرع في التأثير على التركيبة المجتمعية في إفريقيا، التي تقوم في جزء كبير منها على الصراعات والانقسامات.
ولهذا وقعت تركيا اتفاقيات دفاعية مع عدد من الدول في مختلف أنحاء القارة، بما في ذلك الصومال وليبيا وكينيا ورواندا وإثيوبيا ونيجيريا وغانا. وقد فتحت هذه الاتفاقيات الباب أمام عقود لمصنعي الدفاع في تركيا، لا سيما طائراتها بدون طيار.
وتُستخدم الطائرات التركية بدون طيار على نطاق واسع في مناطق الانقلابات، وقد تم تسليمها مؤخرًا إلى تشاد وتوغو ودول الساحل التي يقودها المجلس العسكري، مثل بوركينا فاسو ومالي والنيجر. وتبرز جهود تركيا في زيادة صادراتها من الأسلحة إلى الدول الإفريقية، وتوفير المعدات العسكرية بأسعار تنافسية مع أدنى حد من القيود.
يذهب النعيمي إلى أن “تركيا تسعى إلى تأسيس علاقات على المستوى العسكري مع عدة دول إفريقية من خلال بناء قواعد عسكرية في مقديشو بالصومال، مما يسمح بتعزيز الوجود التركي في الأزمات الدولية كلاعب رئيسي لحلها”.
وتساهم القواعد العسكرية التركية في سرعة الوصول إلى مناطق الأزمات وتوفر لها منصة لزيادة تدريب وتسليح الجيوش المحلية، وذلك من خلال الاعتماد على التكنولوجيا العسكرية التركية كبديل للسلاح الروسي والغربي عمومًا.
وقد أثر التركيز المتزايد على الترتيبات العسكرية في إفريقيا، وخاصة تلك التي تشمل الطائرات بدون طيار والمركبات المدرعة والأجهزة البحرية ومعدات المشاة، بشكل مباشر على صادرات الدفاع والفضاء التركية. ووفقًا لتقرير قدم إلى “DW”، وهي مؤسسة إعلامية ألمانية، سجلت الصادرات التركية إلى إفريقيا زيادة كبيرة، حيث زادت بأكثر من خمسة أضعاف من عام 2020 إلى عام 2021 لتبلغ 460 مليون دولار أميركي.
ويشير التقرير إلى أنه نظرًا لتكلفتها المعقولة نسبيًا، أصبحت الأسلحة التركية موردًا يمكن الوصول إليه للعديد من الدول التي تكافح الصراعات في القارة. فإمكانية تحمل تكاليف المعدات العسكرية التركية وسهولة الحصول عليها تمكن البلدان الإفريقية من تعزيز قدراتها الدفاعية، مما يؤثر في نهاية المطاف على ديناميكيات الأمن الإقليمي.
ومع ذلك، تثار المخاوف بشأن احتمال انتشار الأسلحة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تفاقم الصراعات القائمة أو نشوء صراعات جديدة، مما يترتب عليه عواقب سلبية على القارة. فتركيا تلجأ إلى هذه الوسيلة العسكرية لتجد نفسها في مقدمة الدول المتنافسة على النفوذ في الدول الإفريقية، التي تفتقر غالبًا إلى الاستقرار والأمن العسكري.
وأخيرًا، لم يعد الاستعمار قائمًا على أدواته العسكرية المباشرة، بل أصبح يتشكل وفقًا للمعطيات السياسية المتاحة من خلال الاستغلال الثقافي والاقتصادي والبنيوي للدول. إنه استعمار جديد ينهش في مقدرات الدول الفقيرة برعاية جميع الأطراف، ودون مقاومة تحت وطأة العوز والحاجات الاقتصادية. فلا يمكننا تصديق القول بأن الأتراك قد نسوا القارة الإفريقية، فقد عادوا إلى إفريقيا بقفازات جديدة.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.