القضية الفلسطينية، مع تعقيداتها السياسية والإنسانية، كانت دوماً في وسط الأحداث العربية، وقد استُخدِمت كرمز للوحدة العربية و”المقاومة” ضد الاستعمار وما يليه من صراعات؛ وفي هذا السياق، تظل الحكومة السورية، تحت قيادة الرئيس بشار الأسد، تتخذ موقفاً معقداً ومتناقضاً.
تشكّل العلاقة بين المنظومة السياسية السورية بقيادة بشار الأسد والقضية الفلسطينية دراسة حالة مقنعة في التوتر الفلسفي بين الالتزامات الأيديولوجية المعلنة والبقاء السياسي العملي. فبينما تتبنى المبادئ القومية العربية وتدعم الفلسطينيين بشكل علني، يظهر غياب الأسد عن الصراع تحت بند “وحدة الساحات” أن البقاء السياسي يأتي قبل التوافق الإيديولوجي.
يبحث هذا التحليل في التناقض الجوهري بين موقف سوريا الخطابي كمدافع عن حقوق الفلسطينيين وانسلاخها العملي عن القضية، كاشفًا عن رؤى أعمق حول طبيعة السلطة السياسية والشرعية وتوظيف السرديات الأيديولوجية في السياسة الشرق أوسطية المعاصرة.
الإطار الفلسفي للبقاء السياسي
أولوية البقاء السياسي
استنادًا إلى النظرية السياسية الميكافيلية، يمكننا فهم نهج الأسد من خلال عدسة الواقعية السياسية. إذ يشير مبدأ البقاء السياسي باعتباره الشغل الشاغل لقادة الدولة إلى أن الالتزامات الأيديولوجية، مهما كانت متجذرة في السرد التاريخي أو المشاعر الشعبية، تصبح ثانوية بالنسبة إلى الحفاظ على السلطة. ويساعد هذا الإطار على تفسير التناقض الواضح بين التضامن السوري المعلن مع فلسطين وفك الارتباط العملي بالقضية.
يقول بسام بربندي، الدبلوماسي السوري السابق، لصحيفة “فورين بوليسي”، إن الحكومة السورية تصور نفسها وكأنها تحارب إسرائيل، ولكن هذا كان دائماً كذبة. لقد عقد بشار، ووالده من قبله، اتفاقاً سريا للحفاظ على السلام على الحدود مع إسرائيل، ولهذا السبب لن تتورط سوريا في الصراع في غزة”.
فبالنسبة للحكومة السورية، تعتبر إسرائيل شماعة للعلاقات العامة – أي كبش فداء سهل يمكن اتهامها في تدمير المنطقة بمشروعها، لمحاولة كسب ود سكانها السنة والعرب في مختلف أنحاء المنطقة.
مفهوم إدارة السرد الاستراتيجي
يمكن تحليل مقاربة النظام السوري من خلال المفهوم الفلسفي لإدارة السرد الاستراتيجي، حيث لا تُستخدم المواقف الأيديولوجية كالتزامات حقيقية بل كأدوات لإضفاء الشرعية على النظام. ويستند هذا التفسير إلى المفاهيم الغرامشية للهيمنة والتوافق، حيث يتم الحفاظ على السلطة السياسية من خلال التلاعب بالسرديات الثقافية والأيديولوجية.
حول جدلية القومية العربية وبقاء النظام نجد من خلال السياق التاريخي والأسس الأيديولوجية وضعت البعثية السورية، بتركيزها على القومية العربية والوحدة العربية، القضية الفلسطينية تاريخيًا في صلب هويتها السياسية. وهذا يخلق توترًا فلسفيًا بين:
– الضرورة الأيديولوجية للقومية العربية
– المتطلبات العملية لبقاء النظام
– التلاعب بالرواية من أجل الشرعية السياسية
غياب الأسد عن صراع السابع من أكتوبر 2023 الذي قامت به “حماس” بتخطيط مع إيران و”حزب الله”، كشف عدم الانخراط الفاعل في القضية الفلسطينية، والذي يتجلى بشكل خاص في مفهوم ”وحدة الساحات“، عن تحول جوهري في تراتبية الأولويات السياسية.
ويمكن تحليل ذلك من خلال عدة عدسات فلسفية:
1. إعطاء الأولوية البراغماتية لمصالح النظام الآنية على الاتساق الأيديولوجي
2. تطوّر الشرعية السياسية من الأصالة الأيديولوجية إلى الحفاظ على السلطة البحتة
3. تحوّل التضامن من المشاركة الفعّالة إلى التموضع الرمزي
التداعيات الفلسفية للأدوات الأيديولوجية
تثير الحالة السورية أسئلة جوهرية حول طبيعة الحقيقة السياسية والشرعية في الحكم المعاصر، وأبرزها كيف تحافظ الأنظمة على الشرعية عندما تتناقض أفعالها مع سردياتها التأسيسية؟ وما هي العلاقة بين الأصالة الأيديولوجية والبقاء السياسي؟ وكيف يؤثر استغلال القضايا على صحتها الأخلاقية والسياسية؟
عندما اشتعل الصراع بين إسرائيل و”حماس” في الماضي، شجعت الحكومة السورية الاحتجاجات الكبرى لإظهار الدعم للفلسطينيين، ولكن بعد السابع من أكتوبر 2023 غابت هذه التفاعلات عن الساحة السورية وكان الدعم لـ “المقاومة” في أضعف صوره.
فخلال العام الماضي، لم تسمح الحكومة السورية بأي احتجاجات كبرى ضد إسرائيل، ولم تسمح بأي دعوات لدعم “محور المقاومة”.
هنا يظهر تحول الهوية السياسية العربية لسوريا من العروبة إلى بقاء الدولة، حيث جسدت الحالة السورية الحالية بقيادة الأسد تحولاً أوسع في الهوية الرسمية للدولة التي خلقها والده حافظ الأسد منذ اعتلائه على عرش السلطة.
فمنذ عام، نرى تراجع الأيديولوجية القومية العربية كقوة سياسية حقيقية، وظهور استراتيجيات البقاء المتمحورة حول الدولة، واختزال القضايا الإقليمية إلى أدوات خطابية، ويبدو أن ذلك يعود لما نقله موقع “أكسيوس” الأميركي، ففي غضون أيام من هجوم “حماس” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، حذرت الإمارات الأسد من التورط في الحرب.
هذا التحول يكشف عن واقع سياسي جديد يتسم بـأسبقية بقاء النظام على الاتساق الأيديولوجي، وتسخير القضايا التاريخية لأغراض سياسية معاصرة، والفجوة بين المواقف الخطابية والانخراط السياسي العملي.
مستقبل الشرعية السياسية
لقد ظلت سوريا بعيدة عن الصراع وحاولت عدم إثارة غضب إسرائيل. ولكنها حاولت أيضاً استرضاء إيران بالسماح لها باستخدام الأراضي السورية لتوريد الأسلحة إلى “حزب الله”.
خطابات الأسد في القمم التي عقدتها الدول العربية والإسلامية منذ بدء الحرب بين “حماس” وإسرائيل وآخرها التي عقدت في الرياض، يوم الاثنين الفائت، اكتفى في الأولى بالحديث عن عودة سوريا إلى المشاركة في أعمال القمة وأنشطة الجامعة، بينما فضّل في الثانية عدم الكلام، وفي الأخيرة التي جاءت بعد صدور العديد من التقارير التي كشفت انسحابه من “المحور”، عاد ليمتدح “كلاما” قادة “المقاومة” في لبنان وفلسطين.
لذا تكشف مقاربة الأسد للقضية الفلسطينية عن حقائق أساسية حول السلطة السياسية المعاصرة وشرعيتها. ويوضح التحليل الفلسفي لهذه الحالة كيف أن البقاء السياسي يتفوّق على الاتساق الأيديولوجي في الحكم المعاصر، وأنه يمكن تحويل القضايا التاريخية إلى أدوات لإضفاء الشرعية على النظام، وأن الفجوة بين التموضع الخطابي والانخراط العملي تكشف عن حقائق أعمق حول السلطة السياسية.
يشير هذا التحليل إلى أن الإطار التقليدي للتضامن القومي العربي قد تحوّل جذرياً بفعل ضرورات بقاء الأسد والمنظومة السياسية السورية الحالية، مما خلق أنماطاً جديدة من السلوك السياسي تعطي الأولوية لمصالح الدولة الآنية على الالتزامات الأيديولوجية التاريخية. تمتد آثار هذا التحول إلى ما هو أبعد من سوريا، حيث يقدم رؤى حول الطبيعة المتطورة للشرعية السياسية والسلطة في الشرق الأوسط المعاصر.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.