لقد رسم هجوم “حماس” على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 ملامح جديدة للشرق الأوسط، وامتد تأثيره إلى ما هو أبعد من حدود غزة، على نحو لم يتوقعه الكثيرون. فبعد أن امتدت الحرب إلى غزة ولبنان، وصلت تداعياتها إلى سوريا، ومن غير الواضح ما إذا كان العراق واليمن سيأخذان دورهما التالي.

التطورات الأخيرة في سوريا لم تكن مجرد معركة على مستقبل البلاد، بل هي أيضاً معركة على مستقبل إيران في الشرق الأوسط. والسؤال الرئيسي الآن: هل تمثل هذه التطورات تهديداً خطيراً لمكانة إيران في المنطقة؟ وهل سنشهد قريباً نهاية محور وكلاء طهران؟

تسلسل الأحداث

أدى هجوم “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى فتح “حزب الله” جبهة ضد إسرائيل. بدأت المواجهات بخطوات وضربات متوازنة من الطرفين، مع الحرص على الحفاظ على ميزان الردع. ولكن بعد أحد عشر شهراً، بدأت رسمياً مواجهة مفتوحة بين إسرائيل و”حزب الله”. تضمنت هذه المواجهة عمليات إسرائيلية استهدفت “حزب الله” بقوة، مثل تفجير أجهزة إنذار تابعة له، واستهداف قياداته بعمليات دقيقة، وصولاً إلى اغتيال أمينه العام، حسن نصرالله. هذه الأحداث ألحقت تدهوراً كبيراً بقدرات الحزب وكشفت مدى ضعف طهران وقدرتها على الدفاع عن حلفائها، كما تمثل ذلك في غارة جوية استهدفت إيران مباشرة.

هذا التسلسل للأحداث دفع المعارضة السورية إلى إعادة ترتيب صفوفها، مستغلة الضعف الواضح الذي أصاب ثلاثة من أكبر حلفاء الرئيس السوري بشار الأسد. فقد انشغلت موسكو بحربها في أوكرانيا، بينما كانت إيران و”حزب الله” في أضعف حالاتهما منذ سنوات نتيجة الهجمات الإسرائيلية. وهو ما شكّل فرصة للمعارضة السورية لمهاجمة النظام، وليس من قبيل المصادفة أن تختار المعارضة يوم السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر الفائت للهجوم، وهو نفس اليوم الذي أُعلن فيه وقف إطلاق النار بين “حزب الله” وإسرائيل.

خسائر إيران

كشفت استراتيجية إيران الإقليمية على مدار عقود عن طموحات توسعية تهدف إلى تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، من خلال مشروع أُطلق عليه “الهلال الشيعي”. يسعى هذا المشروع إلى ربط إيران ببعض الدول العربية التي تشهد وجوداً شيعياً، مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن، بهدف تشكيل محور نفوذ إيراني يمتد من طهران إلى بيروت.

نتيجة للهجمات الإسرائيلية على “حماس” و”حزب الله”، اهتزت سيطرة إيران على هذا المحور بشكل كبير. والآن، بعد سقوط نظام الأسد، تلقّى “الهلال الشيعي” ضربة قوية إضافية في الشرق الأوسط.

بالنسبة لإيران، لم تكن سوريا مجرد مساحة جغرافية تخضع لسيطرتها، بل اعتبرتها مركز مشروعها الشيعي، حيث يوازي الحفاظ عليها الحفاظ على مكانتها الإقليمية ومحورها. لذلك استثمرت إيران مليارات الدولارات في سوريا منذ بداية الحرب الأهلية، بهدف تطويق إسرائيل بـ”حلقة من النار” من وكلاء مستعدين لتنفيذ أوامرها.

على مدار عقود، قدّمت إيران الكثير من المال والدماء لدعم الرئيس السوري بشار الأسد، ومساعدته على النجاة من الحرب الأهلية التي كادت تطيح بحكمه. كما أدارت قواعد عسكرية ومستودعات أسلحة ومصانع صواريخ في سوريا، واستخدمتها كخط أنابيب لتسليح حلفائها المتشددين في أنحاء المنطقة.

تصريحات وتحليلات

قال حسن شمشادي، الخبير في الجماعات المسلحة التابعة لإيران، والذي عمل مخرجاً للأفلام الوثائقية في ساحات القتال في سوريا:

“بالنسبة لإيران، كانت سوريا العمود الفقري لوجودنا الإقليمي. كل ما أرسلته إيران إلى المنطقة كان يمر عبر سوريا. والآن أصبح من الصعب للغاية إبقاء هذه القنوات مفتوحة”.

بحسب “نيويورك تايمز”، نقلت الصحيفة عن أفشون أوستوفار، الأستاذ المساعد في شؤون الأمن القومي والخبير في الشؤون العسكرية الإيرانية، قوله:

“إيران في وضع صعب، خاصة مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الرئاسة، وتوقع اتباع سياسة “الضغط الأقصى” على إيران. خسارتها للأرض في سوريا جعلتها تبدو ضعيفة بشكل متزايد أمام أعدائها في تل أبيب وواشنطن”.

من الناحية العسكرية، اعتمد محور إيران على سوريا كممر للأسلحة لـ”حزب الله”، وكمنصة لإنتاج الأسلحة للجماعة اللبنانية. بسقوط الأسد، فقدت إيران هذه القناة الحيوية.

تداعيات جيوسياسية

من الناحية الجغرافية الاستراتيجية، كان التواجد الإيراني في سوريا يضمن لها تواصلاً جغرافياً مع البحر المتوسط، ومواجهة مباشرة مع إسرائيل، إلى جانب كونه مكوناً أساسياً لإعادة بناء القوة العسكرية لـ “حزب الله”. الآن، لم يعد هذا التواجد متاحاً.

عناصر من الفصائل التي دخلت العاصمة دمشق 8 كانون أول/ديسمبر 2024 - أ ف ب
عناصر من الفصائل التي دخلت العاصمة دمشق 8 كانون أول/ديسمبر 2024 – أ ف ب

انهيار الشراكة بين إيران وسوريا يعيد تشكيل توازن القوى في الشرق الأوسط، مما يضعف المحور الذي شكّلته إيران مع حلفائها في لبنان والأراضي الفلسطينية وسوريا والعراق واليمن. وفي المقابل، تتعزز قوة إسرائيل وحلفائها العرب.

إسرائيل الآن أقل خشية من تهديدات “حزب الله”. أما بالنسبة للمعارك في غزة، فالوضع لا يعكس استمرار حركة “حماس” كقوة فعّالة. القدرات العسكرية للحركة تعرضت لتدمير كبير، وما تبقى أقرب إلى حرب عصابات. هناك تقديرات تشير إلى إمكانية التوصل إلى صفقة لوقف إطلاق النار قريباً بين إسرائيل وحماس.

جون راينك، مستشار أول في مجال البحوث الجيوسياسية، أشار إلى أن خسارة حسن نصرالله أدت إلى إضعاف تماسك “حزب الله”، حيث كانت قيادته فعّالة في الحفاظ على تماسك فصائله.

طرق جديدة!

رمضان الشافعي غيث، الباحث في العلاقات الدولية، قال لموقع “الحل نت”: 

“فقدت إيران، في اعتقادي، حليفاً صعب التكرار، إذ كان النظام السوري الحليف العربي لإيران بعد الثورة الإيرانية. جغرافياً، كانت سوريا معبراً للوصول إلى لبنان والبحر المتوسط. وبالتالي، لن تكون إيران قادرة على تقديم الدعم والإمداد لحزب الله كما في السابق، ولن تجد حليفاً يحكم دولة بجوار إسرائيل”.

وأضاف:

“هناك بدائل لإيران، وإن كانت أقل فعالية، مثل التوسع في التدريب وإنتاج السلاح محلياً. هذا ليس جديداً، فمعظم الأسلحة لدى الفصائل الفلسطينية في غزة وكثير من أسلحة حزب الله صناعة محلية، بعد تدريبات إيرانية مكثفة. لكن خطوط الإمداد كانت دائماً عرضة للاستهداف من إسرائيل في سوريا خلال حكم آل الأسد. ومع حالة عدم الاستقرار الحالية، قد تحاول إيران اختبار طرق جديدة للإمداد للوكلاء”.

تهديد ميليشيات العراق

بعد انهيار نظام الأسد، تواجه الميليشيات العراقية معضلة كبيرة. فالعراق ليس مجرد جار لسوريا؛ إذ إن الميليشيات العراقية طالما تدخلت في الحرب الأهلية السورية على مدى العقد الماضي. والآن، بعد إزاحة الأسد، قد تخسر هذه الميليشيات التجارة المربحة المتمثلة في تهريب الأسلحة الإيرانية إلى “حزب الله”، إضافة إلى احتمال فقدانها لنفوذها في سوريا.

اعتمدت هذه الميليشيات على شبكة من المواقع لتأمين طرقها إلى “حزب الله”، وشملت هذه المواقع مدينة البوكمال السورية على الحدود مع العراق، بالإضافة إلى وادي نهر الفرات. كما اعتمدت على مناطق أخرى، منها دير الزور والميادين، وصولاً إلى قاعدة “تي فور” في تدمر.

في الوقت الراهن، يبدو أن الجماعات السورية التي أطاحت بالأسد قد سيطرت على هذه المناطق، إلى جانب “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة. وبذلك، تجد الميليشيات العراقية نفسها في مأزق كبير. علاوة على ذلك، قد تكون التطورات في سوريا بمثابة إلهام للعراقيين للانتفاض ضد الميليشيات المدعومة من إيران.

خطة ترامب حيال العراق

في هذا السياق، تحدث مصدر من “العربية نت” عن بعض ملامح خطة الرئيس السابق دونالد ترامب تجاه العراق، موضحاً أنها لا تركز على العراق فحسب، بل تستهدف إيران بالدرجة الأولى.

صرّح المصدر، الذي فضّل عدم الكشف عن هويته، بأن ترامب ومساعديه عازمون على التصدي لإيران. وأوضح أن الخطوة الأولى ستكون منع إيران من استخدام العراق كوسيلة لتهريب النفط، ومنعها من استغلال النظام المصرفي والمالي العراقي لتهريب الدولار الأميركي. كما أن منع تسرّب الأسلحة الإيرانية إلى العراق وسوريا ولبنان يُعد هدفاً مباشراً للولايات المتحدة.

وأشار المصدر إلى أنه إذا لم تتخذ الولايات المتحدة إجراءات مباشرة لوقف تهريب الأسلحة، فقد يفتح ترامب الباب واسعاً أمام إسرائيل لتوسيع هجماتها على الإيرانيين والفصائل الموالية لهم داخل الأراضي العراقية.

“الحوثيون” على الطريق

بعد التطورات المذكورة سابقًا، تتابع جماعة “الحوثي”، الذراع الإيرانية في شمال اليمن، ما يجري في المنطقة عن كثب، وسط مخاوف متزايدة من العواقب التي قد تلحق بالجماعة نتيجة تصاعد التحركات العسكرية الأميركية والإسرائيلية، مما يعني عمليًا سهولة تضييق الخناق عليهم.

سوريون يرفعون علم الثورة في العاصمة السورية دمشق – وكالات

يسعى “البيت الأبيض”، بقيادة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، إلى تكثيف الضغوط على إيران، وبخاصة على جماعة “الحوثي” في اليمن. وفي حديثه عن سياسة ترامب تجاه إيران، أكد مسعد بولص، كبير مستشاري الرئيس الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، أن هناك تركيزًا واضحًا على ثلاث قضايا أساسية: “منع إيران من الحصول على أسلحة نووية، التصدي لتهديدات الصواريخ الإيرانية الباليستية، ووقف دعم إيران لميليشياتها المسلحة في المنطقة، مثل الحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان”.

هذا الموقف يتفق مع تصريح الجنرال مايكل إريك كوريلا، قائد القيادة المركزية الأميركية، الذي أكد أن الولايات المتحدة ستواصل مكافحة الأنشطة المزعزعة للاستقرار التي تقوم بها جماعة “الحوثي”، سواء في البحر الأحمر أو في مناطق أخرى.

علاوة على ذلك، هناك تنسيق متزايد بين الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى ضمن تحالف “حارس الازدهار” لضمان حماية الملاحة البحرية. هذا يعكس القلق المتزايد لدى القوى الكبرى من تهديدات الحوثيين لممرات التجارة الدولية.

ولا يخفي “الحوثيون” قلقهم. في خطابه الأسبوعي المتلفز، حاول عبدالملك الحوثي، زعيم الجماعة، تهدئة أنصارها، مشيرًا إلى أن أي تحركات أميركية لن تؤثر بشكل كبير على “الحوثيين”. وقال إن الجماعة “تملك خبرة سابقة مع ترامب”، وأنه لم يتمكن من حسم الحرب في اليمن خلال ولايته السابقة.

ومن المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة ضربات أميركية موجهة ضد أهداف “حوثية” استراتيجية، تتسم بدقة وفتك أكبر، بما في ذلك استهداف المنشآت العسكرية والصواريخ والطائرات المسيّرة التي تستخدمها الجماعة.

خطواتها المقبلة

تراقب إيران الآن فشلها الواضح في المنطقة، وفي نهاية المطاف، يدرك الإيرانيون أن ما تبقى لهم بعد الضربات القاسية التي وجهها الجيش الإسرائيلي لـ “حزب الله” وانهيار نظام الأسد هو برنامجهم النووي.

إحراق صورة لرئيس النظام السوري، بشار الأسد، بعد السيطرة على مدينة درعا 6 كانون أول/ديسمبر 2024 – انترنت

وبالتالي، فإنهم سيواجهون قريبًا معضلة كبيرة: هل يمضون قدمًا في المشروع النووي كوسيلة للحماية، أم يسعون إلى التوصل إلى اتفاق مع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب للحصول على أربع سنوات من الهدوء والحصانة من أي هجوم إسرائيلي؟

ويبدو أن طهران سارعت إلى فتح قناة حوار مع الفصائل السورية، حيث تحوّل التلفزيون الرسمي في إيران، ذات الأغلبية الشيعية، من وصف المتمردين السنّة بـ”الإرهابيين الكفار” إلى وصفهم بـ”الجماعات المسلحة”. كما أفاد التلفزيون بأن هذه الفصائل تعاملت حتى الآن بشكل جيد مع الأقليات الشيعية.

وقال مسؤولون إيرانيون إن “هيئة تحرير الشام”، التي قادة المعارك في سوريا، أرسلت إلى إيران رسالة دبلوماسية خاصة هذا الأسبوع. ووعدت الجماعة بحماية المواقع الدينية الشيعية والأقليات الشيعية، وطلبت من إيران عدم قتال قواتها، وفقًا للمسؤولين. وفي المقابل، طلبت إيران من الجماعة السماح بمرور آمن لقواتها خارج سوريا وحماية الأضرحة الشيعية، بحسب ما نقلته صحيفة “نيويورك تايمز”.

وفي السياق، علّق الباحث غيث لموقع “الحل نت”، قائلاً: “طهران لن تُضيّع فرصة للتواصل مع الجماعات المسلحة، حتى قبل سقوط نظام الأسد. وتبرر إيران ذلك بمحاولة منع مسار عدائي من سوريا ضد طهران، لكن في الواقع، هي محاولة لعدم خسارة كل شيء. ولا أستبعد حدوث تفاهم معين بين طهران والنظام الجديد في سوريا. فخروج طهران من معادلة سوريا يتوقف على شكل النظام الجديد وعلاقاته بإسرائيل والقوى الفاعلة في المنطقة”.

وفي الوقت نفسه، تواجه القيادة في طهران استياءً عامًا داخليًا بسبب إخفاقاتها الاقتصادية والاجتماعية. وتنتقد الأجيال الشابة، على وجه الخصوص، تورط إيران في صراعات خارجية مكلفة، ينظرون إليها على أنها تشتيت للانتباه عن الأولويات المحلية الملحة.

لقد شكلت الظروف المتتالية فرصة كبيرة للضغط على وكلاء إيران، مما يمثل تهديدًا حقيقيًا للوجود الإيراني في المنطقة. وما يزال من غير المؤكد ما إذا كانت إيران قادرة على الخروج من مأزقها الاستراتيجي مع الحفاظ على نفوذها الإقليمي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات