بعد أزمة فصل الموظفين.. القطاع العام السوري نحو تقليص العدد أم إعادة الهيكلة؟

تواجه “الإدارة السورية الجديدة” مشكلة جديدة من نوعها بعد مرور نحو شهرين على سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، والتي ترتبط بتسريح آلاف الموظفين في القطاع العام. 

يأتي ذلك في ظل تنفيذ خططٍ لإعادة هيكلة إدارية لموظفي الحكومة والقطاع العام في البلاد، كأحد القرارات الحكومية المثيرة للجدل في الأوساط السورية خلال الفترة الأخيرة. 

أزمة القطاع العام

في غضون شهرين على تعيين “حكومة تصريف الأعمال” في سوريا منذ سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر الماضي، أقدمت الحكومة على تسريح آلاف الموظفين في مؤسسات عديدة تتبع القطاع العام في مقدمتها المؤسسات الخدمية كقطاع الصحة والكهرباء والاتصالات والتجارة، هذا كما تم منح الآلاف منهم إجازات مدفوعة الأجر، بهدف إجراء إصلاحات جذرية لاقتصاد البلاد المنهك. 

رواتب موظفي القطاع العام

حتى الآن لا تتوافر احصاءات دقيقة بشأن عدد الموظفين الذين تم تسريحهم، لكن هناك تقييمًا حكوميًا أفاد بأن هناك 300 إلى 400 ألف موظف يُطلق عليهم تسمية “الموظفون الأشباح”، يمكن الاستغناء عنهم من ضمن 1.3 مليون موظف في قطاعات الدولة، بزعم أنهم يتقاضون رواتب مقابل عمل قليل أو لا يقومون بأي عمل. 

يأتي ذلك تزامناً مع إجراء الحكومة السورية تقييماً شاملاً لما يصل إلى 1.3 مليون موظف مسجل في القطاع العام “بهدف حذف أسماء موظفين وهميين من كشوف الرواتب”، بحسب وكالة “رويترز” للأنباء. 

ففي حين أن مؤسسات القطاع العام السوري تعاني من تفشي الفساد المُمنهج الذي تغلغل فيها على مدار عقود من حكم آل الأسد، فإنها تعاني أيضًا تضخمًا في عدد العاملين بها، حيث طغى على إدارتها الفساد والمحسوبيات والهدر وسرقة المال العام. 

كبح الفساد وزيادة الرواتب 

وفق تصريحات أدلى بها وزير المالية السوري محمد أبا زيد، فإن بعض الشركات المملوكة للدولة كانت موجودة فقط لسرقة الموارد وسيتم إغلاقها، وهو ما طُبّق مؤخرا مع “المؤسسة السورية للتجارة”. 

الحكومة السورية كانت تتوقع تفشي الفساد لكن ليس إلى هذا الحد، فما يقارب من 900 ألف فقط من أصل 1.3 مليون موظف يتقاضون رواتب من الحكومة يأتون إلى العمل بالفعل، وفق مراجعة أولية، مما يعني أن هناك 400 ألف من “الموظفين الأشباح”، والتخلص من هذه الأسماء من شأنه توفير موارد كبيرة. 

وزير المالية السوري محمد أبا زيد

تزامنت الإجراءات الحكومية مع مساعي “الإدارة السورية” نحو تدبير موارد من أجل تنفيذ تعهدها برفع رواتب موظفي القطاع العام في البلاد بنسبة 400%، وقال وزير المالية السوري، في تصريحات نقلتها عنه وكالة “رويترز”، إن الحكومة ستزيد رواتب العديد من موظفي القطاع العام 400% بعد استكمال إعادة الهيكلة الإدارية للوزارات لتعزيز الكفاءة والمساءلة، واستعادة الأصول السورية المجمدة في الخارج. 

وتقدر تكلفة تلك زيادة بنحو 1.65 تريليون ليرة سورية (ما يعادل نحو 127 مليون دولار)، وبحسب الوكالة، سيتم تمويلها من خزانة الدولة، بالإضافة إلى مساعدات إقليمية واستثمارات جديدة، إلى جانب التعويل على فك تجميد الأصول السورية الموجودة حالياً في الخارج. 

تفاقم المعيشة وتهديد ملايين الأسر 

حتى الآن لم يتم صرف الزيادة التي تعهدت الحكومة بإقرارها ضمن رواتب شهر شباط/ فبراير الجاري، إضافة إلى صرف رواتب عشرات الآلاف من العاملين والمتقاعدين بمن فيهم عناصر الجيش السابق.  

ذلك في ظل تفاقم الوضع المعيشي للسوريين وعدم وجود نظام إعانة اجتماعية أو تعويض بطالة، ما يزيد المخاوف من تهديد قرار تسريح الموظفين ملايين الأسر السورية، خاصة وأن 80% من السوريين يعانون الفقر وفقًا للبنك الدولي. 

الخطوات التي تتخذها الحكومة وبدأت تطبيقها بالفعل، تجعل واقع ومستقبل موظفي القطاع العام في سوريا ضبابيا إلى حدّ بعيد. 

وأثار التوجه الحكومي الجديد،  الذي تبرره السلطات بأنه جزء من جهود إعادة الهيكلة الرامية إلى مكافحة الفساد وتقليص الفائض من الموظفين في مؤسسات الدولة، احتجاجات في مدن كدمشق وطرطوس واللاذقية حيث تظاهر موظفون سابقون للمطالبة بعودتهم للعمل واستلام مرتباتهم. 

احتجاجات المُتضررين 

شهدت سوريا تظاهرة يوم التاسع من كانون الثاني/ يناير الماضي لموظفين بالقطاع الصحي أمام مديرية الصحة بمدينة طرطوس تهدف لمطالبة الحكومة بإعادة النظر في قرارها بإعطائهم إجازة بأجر، وإيضاح المعايير التي تم بناءً عليها تقييم هؤلاء الموظفين. 

قال المتظاهرون إن نحو ستة آلاف موظف تضرروا من قرارات “الحكومة السورية الجديدة”، التي يرون فيها أنها “فصلاً تعسفياً”، وإنه “من غير المقبول” إلغاء المراكز الصحية الخدمية التي يبلغ عددها أكثر من 20 مركزاً. 

تقارير إعلامية محلية

جاء ذلك بعد يوم من تظاهر العشرات في درعا احتجاجاً على ما وصفوه بفصل نحو 700 موظف بمديرية الصحة التابعة للمحافظة، وحملوا لافتات مكتوب عليها “لا للقرارات الجائرة بحق الموظفين الذين مازالوا على رأس عملهم” و”قطع الأعناق لا قطع الأرزاق”. 

وأشار الموظفون إلى أن عدد العاملين الفعليين وصل بعد إجراء الدراسة إلى 1781 موظفاً، لكن الوزارة طالبت بتخفيف العدد إلى 900 موظف، “وهو ما لا يكفي” للوفاء بالأعمال في الجهات التابعة للمديرية في درعا، والتي تتضمن 91 مركزاً صحياً، وثلاثة مجمعات طبية، وستة مستشفيات إلى جانب المقر المركزي للمديرية.  

وفي الثالث من شباط/ فبراير الجاري، نفذ العشرات من العمال اعتصاماً، أمام مبنى الشركة العامة لكهرباء طرطوس، احتجاجاً على قرار الشركة إنهاء عقود 762 عاملاً مؤقتاً. 

مطالب بالتراجع عن القرار

كما صدر قرار آخر بالتزامن يقضي بمنح 137 موظفاً إجازة مدفوعة الأجر لمدة ثلاثة أشهر، ورفع المتظاهرون لافتات كتب عليها “الرجاء إعادة النظر في القرار” و”نداء من أجل سوريا موحدة”، مطالبين السلطات بالتراجع عن القرار وإعادة تقييم أداء الموظفين قبل أي فصل. 

وحذر المحتجون من أن هذه الخطوة ستؤثر سلباً على المواطنين وقطاع الكهرباء، مؤكداً أن أغلب عمل الشركة ميداني، وأن تقليص القوى العاملة سيؤدي إلى نقص كبير في العمالة. 

وفي اليوم ذاته، نفذ موظفو القطاع العام في قطاع الاتصالات وقفة احتجاجية في دمشق، احتجاجاً على قرارات الفصل التعسفي، مطالبين بتحقيق العدالة لهم وإعادتهم إلى وظائفهم. 

زعم المحتجون في التظاهرات المختلفة أن عمليات الفصل غير قانونية، لأنها صدرت عن حكومة انتقالية تفتقر إلى الشرعية الانتخابية، مؤكدين أن غياب الدستور والبرلمان المنتخب من شأنه أن يقوض سلطة “الإدارة الحالية” في اتخاذ مثل هذه القرارات المهمة التي تؤثر على موظفي القطاع العام. 

فيما تعكس تلك الاحتجاجات استياءً واسع النطاق بين العاملين في القطاع العام في سوريا، مما يسلط الضوء على تأثير قرارات الحكومة على الأسر التي تواجه صعوبات اقتصادية وسط تدهور الظروف المعيشية، كما تعكس أيضًا حالة الإحباط المتزايدة بين شريحة كبرى من السوريين فيما يتصل بالاستقرار الاقتصادي.  

قاعدة بيانات لموظفي الحكومة 

في الوقت الراهن، ليس لدى “الإدارة السورية” سجل موثوق به لموظفي الحكومة، حيث تعمل على بناء قاعدة بيانات لموظفي القطاع العام وتطلب من الموظفين استكمال نموذج على الإنترنت. 

في السياق قال وزير التنمية الإدارية، خلال تصريحات إعلامية سابقة، إن سجل موظفي الحكومة سيحتاج إلى نحو ستة أشهر لبنائه، مع وجود فريق من 50 شخصًا يتولى المهمة، كما أقر وزير العمل، فادي القاسم، بصعوبة المهمة المقبلة، قائلاً إن أعمال التجديد تكون أكثر صعوبة من البناء الجديد. 

الحكومة تخطط أيضاً لرقمنة سجلات الموظفين المخزنة حالياً في نحو 60 غرفة مهملة يكسوها الغبار وتحتوي على أكثر من مليون مجلد، الكثير منها مربوط بالخيوط ويعود تاريخها إلى العصر العثماني الذي انتهى منذ أكثر من قرن. 

وفي الوقت الذي يواجه السوريون حالة من انعدام الأمن المالي، حيث أصبحت الرواتب شحيحة منذ سقوط النظام، فإن “حكومة تسيير الأعمال” في “الإدارة الجديدة” تواجه أيضًا تحد مواجهة الترهل الإداري في كافة مؤسسات الدولة، والبطالة المقنعة، وتركة الفساد الثقيلة التي خلفها نظام الأسد في القطاع العام. 

ومما لا شك فيه أن الاقتصاد السوري يحتاج إلى إصلاحات جذرية تشمل تسريح فائض العمالة فيه، لكن تسريح العاملين ينبغي ألا يتم دون إيجاد مصادر دخل بديلة أو إعانات اجتماعية لهم، وضمان وظائف غالبية العاملين، وفيما عدا ذلك سيكون هناك عدم استقرار اجتماعي في ظل عدم توفر نظام دعم اجتماعي وتعويض بطالة يقي الناس المزيد من العوز والحرمان والجوع. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات