بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد منذ ما يقرب من أربعة أشهر مضت وحدوث تغيير سياسي جذري في البلاد، لم يشهد الاقتصاد السوري تغييراً جوهرياً أو تقدماً ملموسا، بل ما يزال يعاني من تحديات رئيسية بالغة التعقيد تعيق أي مساع للتعافي.
يأتي ذلك بينما يبقى مستقبل سوريا الاقتصادي، الذي يرتبط عضوياً بمستقبلها السياسي، مفتوحاً على العديد من السيناريوهات المتباينة، التي تتعلق بمجموعة من عوامل رئيسية مؤثرة، أبرزها العقوبات الدولية والاستقرار السياسي والأمني في البلاد.
وأصدر معهد “ستراتيجكس” ورقة موقف سلط فيها الضوء على التحديات التي تواجه الاقتصاد السوري وسيناريوهات المشهد، والتي تتراوح بين “أقصى التفاؤل وأقصى التشاؤم”.
تحديات رئيسية
يواجه الاقتصاد السوري تحديات رئيسة؛ بعضها قديم وبعضها نشأ نتيجة الثورة التي اندلعت عام 2011، وبعضها بدأت تتبدّى ملامحه في أعقاب تغيير النظام، ولن تكفي الحلول الجزئية بعد أكثر من عقد من الصراع والدمار، ووحدها الإصلاحات الشاملة والبراغماتية، المدعومة بالمشاركة الدولية، كفيلةٌ بتمهيد الطريق للمُضي قدماً.
بحسب ورقة “ستراتيجكس” فإن أولى هذه التحديات تتمثل في غياب الهوية الاقتصادية، إذ إن الاقتصاد السوري يعاني من أزمة هوية هيكلية عميقة، تجلت في غياب رؤية تنموية واضحة وتذبذب النموذج الاقتصادي بين اشتراكية مقيدة وليبرالية مشوهة.
واليوم، تواجه سوريا تحدياً في إعادة تعريف هوية اقتصادها الوطني. فإما أن تبني نموذجاً تنموياً متكاملاً قادراً على استيعاب التحولات العالمية، أو ستستمر في إجراءات التبعية والهشاشة. وهذا يتطلب جرأة في إعادة هندسة النظام الضريبي، والسياسة الصناعية، والبنية التشريعية، وآليات الحوكمة.

أما التحدي الثاني بالغ التعقيد يتمثل في توحيد 4 مناطق اقتصادية مستقلة نشأت خلال سنوات الثورة، لكل منها نظامها المالي وسياساتها التجارية وعملتها الخاصة، مما خلق تفاوتاً حاداً في مستويات المعيشة، وحال دون تحقيق تعافٍ اقتصادي حقيقي.
فمن جهة اعتمدت مناطق سيطرة النظام السوري سابقاً على الليرة السورية فيما تتعامل المناطق الشمالية الخاضعة للنفوذ التركي بالليرة التركية، بينما تفرض الإدارة الذاتية الكردية وحكومة الإنقاذ السورية أنظمة اقتصادية منفصلة. وقد أدى هذا التعدد إلى جملة من الصعوبات في المعاملات التجارية والتحويلات المالية.
توحيد الاقتصاد السوري يمثل اختباراً مصيرياً للحكومة الجديدة، حيث يتطلب حلولاً مبتكرة وإرادة سياسية قوية لتجاوز الانقسامات العميقة. فبدون تبني إصلاحات اقتصادية شاملة، والتوصل إلى تسويات سياسية حقيقية، سيظل التعافي الاقتصادي المستدام هدفاً بعيد المنال، مما يهدد بإطالة أمد المعاناة السورية.
ويواجه الاقتصاد أيضا تحديا في تزايد موجات الجفاف وتفاقم آثار التغير المناخي، مما أثر على الزراعة التي تعتبر ركيزة أساسية في الاقتصاد الوطني، مما يبرز الحاجة الملحة لإعادة تأهيل البنية التحتية الزراعية واعتماد تقنيات ري حديثة، إلى جانب تطوير أنظمة إنذار مبكر وزراعة محاصيل مقاومة للجفاف، باعتبار ذلك مدخلاً حاسماً لاستعادة الأمن الغذائي وضمان الاستقرار الاجتماعي في مرحلة ما بعد الأزمة.
أما فيما يخص العقوبات الاقتصادية الغربية، فإنها تشكل أحد أبرز العوائق أمام أي مساعٍ للتعافي الاقتصادي، حيث أسهمت هذه العقوبات -إلى جانب تداعيات الأزمة-في تعميق الأزمة الإنسانية وتعطيل إعادة الإعمار.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك تحديات أخرى تتمثل في “التجار مقابل التهريب”، إذ تشهد المناطق التي كانت خاضعة للنظام السابق، بما فيها المدن السورية الكبرى، تحولات اقتصادية جذرية حيث تواجه المؤسسات الإنتاجية المحلية، والتجار والصناعيين التقليديين، تحديات وجودية نتيجة سياسة تحرير الاستيراد والتهريب التي تبنتها الإدارة الجديدة. خاصة وأن الإجراءات التحريرية جاءت مفاجئة وإن كان بالإمكان تبريرها بإنعاش سريع للاقتصاد المنهك، إلا أنها قد ترتب عنها تداعيات سلبية على القاعدة الإنتاجية والتجارية المحلية، والتي من المحتمل أن تتفاقم في المديين القريب والمتوسط، وفق “ستراتيجكس”.
وأشار إلى “حبس العملة”، إذتشير المعطيات الميدانية إلى انخفاض في أسعار معظم السلع الاستهلاكية نتيجة انخفاض سعر صرف الدولار إلى حوالي 10 آلاف بعد المئة يوم الأولى للإدارة الجديدة، باستثناء مادة الخبز التي رُفع الدعم عنها وارتفع سعرها نحو عشرة أضعاف. غير أن هذا الانخفاض لم يترجم إلى تحسّن فعلي في القوة الشرائية للمواطنين، في ظل نظام مصرفي يعاني من اختناقات سيولة حادة وتخلف واضح في تبني وسائل الدفع الإلكترونية الحديثة.
3 سيناريوهات للمشهد
خلُصت ورقة موقف “ستراتيجكس” إلى 3 سيناريوهات للاقتصاد السوري، المتشائم، المعتدل، والمتفائل. ففي أسوأ الحالات ستستمر أزمة السيولة وتدهور الليرة السورية في المدى القصير، نتيجة احتمالية فشل الإصلاحات النقدية، وتعثّر مفاوضات إعادة إمدادات النفط بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية”، بما يؤدي إلى تدهور القطاعين الصناعي والزراعي بسبب نقص الوقود والكهرباء، مع استمرار تدفق المساعدات الإنسانية بمستويات غير كافية.

أما في المدى المتوسط، يكون ذلك بتفاقم الانقسام الاقتصادي بين مناطق النفوذ، واستمرار عزلة سوريا المالية بسبب العقوبات الأمريكية، وتدهور البنية التحتية بشكل لا يمكن إصلاحه، يرافقه تصاعد موجات الهجرة الثانوية. وبهذا؛ ستتحول سوريا في المدى البعيد إلى دولة فاشلة اقتصادياً، وتعتمد بشكل كامل على المساعدات الخارجية، مع استمرار التجزئة الإقليمية للاقتصاد وخسارة جيل كامل من الكفاءات.
السيناريو “المعتدل” وهو الأكثر واقعية، فقد تشهد البلاد تحسناً محدوداً في السيولة النقدية مع وصول مساعدات مالية إقليمية، واستئنافاً جزئياً لإمدادات النفط بشروط سياسية، وبدء إصلاحات نقدية وجمركية أولية، وتحسناً طفيفاً في تمويل المنظمات الدولية.
وفي المدى المتوسط، قد يتم رفع جزئي للعقوبات الأمريكية على قطاعات محددة، وبدء مشاريع إعادة إعمار صغيرة ومتوسطة بتمويل إقليمي، وتحسن تدريجي في قطاعي الكهرباء والنقل، وعودة محدودة للنازحين. أما في المدى البعيد، فمن المتوقع إعادة اندماج جزئي في الاقتصاد الإقليمي، ونمو بطيء للقطاع الخاص، وتحسن نسبي في مؤشرات التنمية البشرية، مع استمرار التحديات الهيكلية.
في أفضل الحالات فإن السيناريو “المتفائل”، والذي سيأتي على خلفية اتفاق سياسي شامل في الدى القصير، يؤدي إلى رفع تدريجي للعقوبات، وعودة سريعة لإمدادات النفط والطاقة، وحزمة مساعدات دولية كبيرة، وإصلاحات نقدية وجمركية جذرية.
وفي المدى المتوسط، قد تعود البنوك الدولية للعمل في سوريا، وتبدأ مشاريع إعادة الإعمار، مع نمو سريع للقطاعات الإنتاجية، وعودة واسعة للنازحين واللاجئين. أما في المدى البعيد، فقد تتحول سوريا إلى مركز لوجستي إقليمي، وتشهد نمواً اقتصادياً مستداماً، وإصلاحاً شاملاً للبنية التحتية، واندماجاً كاملاً في الاقتصاد العالمي.
- الخطر الذي يتسلل مجدداً.. عن احتمالات عودة “داعش” إلى سوريا
- هيئتان لـ العدالة الانتقالية والمفقودين… ما المطلوب لضمان عمل مستقل؟
- “الليرة الجديدة”.. هل تنقذ الاقتصاد السوري أم تعمّق أزمته؟
- هل أصبحت سوريا مؤهلة لتلقي التمويلات الجديدة؟.. البنك الدولي يجيب
- وزير الدفاع يعلن دمج كافة الوحدات العسكرية.. ما دور بريطانيا بإعادة هيكلة الجيش؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

“الليرة الجديدة”.. هل تنقذ الاقتصاد السوري أم تعمّق أزمته؟

على طاولة الحكومة السورية زجاجة مياه تركية.. كيف للاقتصاد الوطني أن ينهض؟

5 مهام أساسية أمام الحكومة السورية الانتقالية.. وهذا هو مفتاح إنقاذ الاقتصاد

سعر الصرف الحقيقي لليرة السورية 20 ألفا والصدمة قادمة
الأكثر قراءة

وسط ترقب لانفراجة من واشنطن.. “المركزي السوري” يخفض سعر الدولار مقابل الليرة

وسط اتهام للمقاتلين الأجانب.. الأمن العام يفتح تحقيقا في مقتل أربعة أشخاص باللاذقية

هل تنجح قرارات المركزي الأخيرة في إعادة بناء الثقة بالقطاع المصرفي السوري؟

هل تنتعش جيوب السوريين بعد رفع العقوبات الأميركية.. خبير يوضح

هل تبيع الحكومة الجديدة القطاع العام السوري كاملًا؟.. مستشار وزير الاقتصاد يجيب

نجوم سوريا يتفاعلون مع رفع العقوبات.. فرح وشكر من كل الأطراف!
المزيد من مقالات حول اقتصاد

“الليرة الجديدة”.. هل تنقذ الاقتصاد السوري أم تعمّق أزمته؟

هل أصبحت سوريا مؤهلة لتلقي التمويلات الجديدة؟.. البنك الدولي يجيب

العقوبات تُرفع والمراقبة تبدأ.. هل ينجح “الشرع” في تنفيذ الشروط الأميركية؟

مع دخول الصيف.. أزمة الكهرباء تفاقم الأوضاع في الحسكة ومطالب بالرقابة على “المولدات”

الوجود الأميركي في سوريا: فصل اقتصادي جديد؟

عملة سورية جديدة تطبع في النمسا: ما الفئات والرموز؟

من الرياض إلى أبوظبي.. حصيلة مكاسب “ترامب” الاقتصادية خلال جولته الخليجية
