واقعيا، تحاول الصين تعزيز علاقاتها مع دول منطقة الشرق الأوسط وإيجاد فرص جيوسياسية تجسد تنامي دورها وقدرتها في تعظيم عمقها الاستراتيجي، عبر تشييد جسور التعاون والشراكات الاستراتيجية باختلاف طبيعتها، وزج نفسها بأزمات المنطقة السياسية، أو التعامل مع قادة أنظمة استبدادية خاضعة للعقوبات الغربية، مثل فلاديمير بوتين في روسيا وبشار الأسد في سوريا، حيث تحرص بكين على إعادة توجيه مواردها الاستراتيجية وخبراتها إلى تحقيق مصالحها القومية وبسط نفوذها إلى أبعد ما يمكن، وهذه المرة عبر طهران.

الصين تتطلع إلى توسعة نشاطها الاقتصادي وأخذ دور ريادي في المنطقة النفطية، والسيطرة على جزء من الممرات الاقتصادية العالمية، خصوصا وأن منطقة الشرق الأوسط تعد ممرا مهما للبضائع الصينية المتجهة إلى أوربا، بوصفها حلقة وصل بين قارتي آسيا وأوروبا، مستغلة بذلك الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأميركي من المنطقة وغياب الاستقرار الأمني والسياسي.

خطط الصين التوسعية دقت باب إيران مؤخرا، مستغلة حاجتها لتطوير منشأتها الحيوية وإنقاذها من العقوبات الأميركية الخانقة، التي تهدف للحد من نشاطات طهران في منطقة الشرق الأوسط، من خلال دفعها إلى توقيع اتفاقيات وشراكات استراتيجية طويلة الأمد، لتكون الصين المستفيد الأكبر منها، مثل ما يجري الآن في عملية استيراد النفط الإيراني، حيث تعمل حكومة الصين على استيراد النفط بأرخص الأسعار من إيران عبر اتباع أساليب وحيل مختلفة لتفادي العقوبات الأميركية، ومع ارتفاع أسعار النفط عالميا أصبحت الإمدادات الإيرانية تشكل جزءا هاما جدا بالنسبة إلى بكين في الوقت الراهن، وبذلك تكون الصين استغلت حليفتها إيران أبشع استغلال.

تأمين موطئ قدم جديد في حليف قديم

لم تكتف حكومة الصين الشيوعية من استغلال أزمة حليفتها إيران والاستحواذ على نفطها بأرخص الأثمان، فقد عادت بكين مرة أخرى إلى تقديم عروض استثمارية جديدة ذات أبعاد جيوسياسية واقتصادية نفعية داخل الأراضي الإيرانية، إذ عملت بكين على إيجاد موطئ قدم جديد على أرض حليفتها القديمة طهران، عبر إقناعها بتوقيع اتفاقية تطوير مطار طهران الدولي، وذلك باستثمار ملياري يورو في بناء المرحلة الثانية من مطار الإمام الخميني (مطار طهران الدولي)، على أن تبدأ المرحلة الأولى من التطوير، باستهداف طاقة استيعابية بـ 6 ملايين مسافر سنويا، وستصل لـ 10 ملايين مسافر حتى مارس/آذار المقبل.

إضافة إلى ذلك، فإن قاعة ركاب “السلام ” تستوعب 5 ملايين مسافر، بالتالي فان طاقة مطار طهران ستبلغ فعليا 15 مليون مسافر، هذا وستشمل أعمال المرحلة التطويرية بناء صالة ركاب جديدة بالمطار بمساحة 40 ألف متر مربع في إطار مرحلتين، الأولية تبلغ طاقتها الاستيعابية 35 مليون مسافر سنويا والمرحلة النهائية 110 ملايين مسافر.

المرحلة الأولى من تطوير مطار الإمام الخميني، استهدفت طاقة استيعابية بنحو 6 ملايين مسافر سنويا، ومن المقرر أن تصل إلى 10 ملايين مسافر حتى آذار/ مارس المقبل، إضافة إلى أن قاعة ركاب “السلام” تستوعب 5 ملايين مسافر بالتالي فإن طاقة مطار الخميني ستبلغ فعليا 15 مليون مسافرا. بحسب ما أفاد به وزير الطرق والبناء الإيراني مهرداد بذرباش.

من المعروف عن استثمار الصين على أنه ذو فوائد عالية جدا، وهناك تجارب في قارة أفريقيا أثبتت ذلك، فقد نتجت الاتفاقيات الاقتصادية بين الصين والدول الأفريقية إلى تعزيز الاقتصاد الصيني على حساب تدمير اقتصاد الدول الأفريقية النامية، فالاتفاقيات الصينية دائما ما تتخللها شروط جائرة، وبالتالي يصعب على الدول ذات الاقتصاد الهش مجاراتها مما يؤدي إلى كوارث اقتصادية جسيمة، وفق ما يرى المحلل السياسي كمال الساعدي في حديثه لـ “الحل نت”.

الصين وفخ الديون

الساعدي يرى، أنه ليس من السهل أن تدخل إيران باتفاقيات استثمارية مع الصين، لأنها تعي ما مدى خطورة عواقب تلك الخطوة، مشيرا إلى أن الاستثمار مع بكين سينعكس سلبا على طهران في المستقبل، فالصين دائما ما تستثمر في المطارات او الموانىء الحيوية من ثم الاستحواذ عليها في نهاية المطاف.

بكين تتبنى أسلوبا ناعما في المد الاستعماري العالمي، من خلال فرض سيطرتها على الدول المختلفة عن طريق إغراقها في الديون وتوريطها في اتفاقيات مجحفة تقضي على سيادتها وتدمر اقتصادها وتنهك مواردها، وبالتالي تكون تلك الدول مستعمرة للشيوعية الصينية، وبذلك يتم ما ترغب به بكين دون اللجوء إلى أساليب الاستعمار الحربي القديم الذي كان يعتمد على قوة الجيوش والصدام المباشر.

استثمار الصين في إيران، يشبه إلى حد كبير ما نفذته بكين مع عدة دول، منها، سريلانكا، وأوغندا، وكينيا، وأستراليا، واليونان، وباكستان، ومونتينيغرو، وليتوانيا، بالسيطرة على مضائق وجسور حيوية ومطارات وموانئ لتلك البلدان، مقابل ديون مستحقة عجزت تلك الدول عن سدادها، فكان الحل التنازل عن أهم أصولها لبكين.

ولعل ميناء غوادار الباكستاني خير مثال على كيفية استغلال حكومة الصين الأزمة المالية التي تمر بها باكستان والتي تعتبر حليفتها الأبرز بوجه الهند في المنطقة، ففي عام 2013 استحوذت الشركات الصينية رسميا على حقوق تطوير وتشغيل ميناء غوادار والمنطقة الحرة التابعة له والتي تبلغ مساحتها 923 هكتارا، في وقت يعد الميناء مهما للمياه العميقة في جنوب آسيا والشرق الأوسط، ويتمتع بموقع استراتيجي بالغ الأهمية باعتباره ثالث أكبر ميناء في باكستان.

الميناء أُنشئ بأموال صينية وتم افتتاحه رسميا عام 2007 على افتراض أن تتولى الصين عملية تشغيل المرفأ، لكن الصين أبعدت الموضوع عن مجال اهتمامها في وقتها بسبب الهند التي تخشى من احتمال تطويقها بالنفوذ العسكري والسياسي الصيني، ولم يمضِ على افتتاحه سوى 6 سنوات حتى استحوذت الصين على معظم الميناء ولمدة 40 عاما.

استثمار محكوم بالفشل

بالعودة إلى مشروع تطوير وتوسعة مطار الإمام الخميني، يؤكد كمال الساعدي في حديث مع  “الحل نت “، أنه حتى وإن كانت أعمال التنفيذ من خلال شركات مقاولة داخلية تابعة للحرس الثوري الإيراني، فإن الأموال تبقى صينية أولا وأخيرا، مما يعني احتمالية تدخل الحكومة الصينية في المشروع واردة وبشكل كبير، هذا ناهيك عن أن الفوائد التي يفرضها الصينيين كالعادة تكون عالية جدا ومكلفة، وقليل من المواني والمطارات التي طُوّرت وأنشأت بأموال صينية فلتت من براثن التنين الصيني.

ويعلل الساعدي دوافع استثمار الصين في الدول النامية عبر فخ الديون، بأنها لا تنظر إلا لمصالحها العليا ولا تراعي مصالح الدول الأخرى، فهي تحاول التوسع في المنطقة من خلال الإنفاق المادي من ثم التدخل السياسي، لذلك نادرا ما نجد لها موقفا واضحا تجاه القضايا العالمية، لافتا إلى أن تجارب الدول مع استثمارات الصين يصعب التخلص من تداعياتها وسيئة جدا إن لم تكن مصيرها الفشل.

سريلانكا التي أعلنت إفلاسها في حزيران/ يونيو 2022، هي من بين الدول التي انطبقت عليها رؤية الاستثمار الصيني المحكوم بالفشل، ففي عام 2017 حصلت منها بكين على حق إدارة مينائها الرئيس “هامبانتوتا” لمدة 99 عاما، لعجزها عن سداد قرض مقداره 8 مليار دولار.

الباحث والمحلل السياسي أياد جليل، يفسّر في حديث لـ “الحل نت ” حرص الصين على تنمية علاقاتها مع الأنظمة الشمولية والديكتاتورية وحكومات الانقلابات العسكرية، لأهداف متعددة ومختلفة، وعلى رأسها جني الأموال، فبكين تواصل إبرام اتفاقياتها مع قادة الأنظمة القمعية، وبذلك تكون قد ضمنت بأن تلك البلدان لا يوجد فيها صوت أو رأي رفض من طرف معارض، وإن وجد فتحرّض على قمعه بحجة التأثير على العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، مشيرا إلى أن الصين تضع حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية في آخر قائمة أولوياتها ما دامت تحقق أرباحا عالية من مشاريع استحوذت عليها من دول مدينة لها.

بمجرد أن تحصل أزمة سياسية في بلد ما وخاصة في البلدان النامية تسارع بكين إلى عقد اتفاقيات فريدة من نوعها وعلى وجه الخصوص تلك الاتفاقيات التي تفضي إلى السيطرة الموانىء والمطارات وآبار النفط، نادرا ما نجد بكين تتوجه لاستثمار أموالها في قطاعات التعليم أو الصحة أو البيئة أو الأمن أو حتى في مجال دعم الديمقراطية، على حد قول جليل.

عبر إيران.. الصين وتكرار استثمار الأزمات

مصر من بين البلدان التي طرأ عليها حدث سياسي وهو الانقلاب الذي قاده الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي عام 2013، على الرئيس السابق في وقتها محمد مرسي، حيث سارعت بكين على تقديم القروض للقاهرة وبعروض تستهدف إنشاء وتطوير مشاريع استراتيجية وحيوية شرط أن تنفذها شركات صينية.

وبحسب نشرة أعدتها “إنتربرايز” الاقتصادية في شهر أيار/ مايو 2020، اقترضت مصر 15 مليار دولار من الصينيين عبر مبادرة الحزام والطريق، 3 مليارات منها من البنك الصناعي والتجاري الصيني المملوك لبكين إلى منطقة الأعمال بالعاصمة الإدارية الجديدة وتنفذها شركة (cscec) الصينية.

القاهرة اقترضت أيضا 3 مليارات دولار من الصين في تشرين الأول/ أكتوبر 2016، فيما أقر السيسي في 9 أيار/ مايو 2019 قرضا بنحو 1.2 مليار دولار لتمويل القطار الكهربائي الذي تنفذه شركة ” إفيك” الصينية ليصل العاصمة الجديدة بالقاهرة.

بخصوص الاستثمار الصيني داخل إيران، يرى الباحث والمحلل السياسي أياد جليل، أن إيران تحظى بذات الأهمية التي تحظى بها باكستان، ولا تقل عنها أهمية، لذا على طهران أن تكون أكثر حذرا من مثل هكذا استثمارات وعليها خلق علاقات متوازنة مع بكين إن أرادت النأي بنفسها عن أي أزمات مستقبلية تنهكها فوق أزماتها الحالية.

أخيرا، يتلخص من كل ما ذُكر فوقا، أن طهران وعبر مطار “الخميني”، على الأرجح مقبلة نحو الغرق ببحر ديون الصين، ولم تستفد من تجربة جارتها باكستان وما جرى لها عندما تعاونت مع بكين بشأن مشروع ميناء غوادار، فالصين وإن كانت حليفة إيران، إلا أن مصلحتها الاقتصادية أهم من كل الاعتبارات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة