التضخم يبتلع الاقتصاد السوري.. ما علاقة الدولار الجمركي والبنك “المركزي”؟

من أصعب المشكلات التي تواجه الحكومة السورية، المشكلات الاقتصادية؛ لأنها بمثابة القياس المباشر على السياسات الخاطئة بالإضافة إلى ضعف الموارد الطبيعية، مع توقف عجلة الإنتاج، وغياب الاحتياطات النقدية الأجنبية، مع الانهيار الصناعي كل هذا مصحوباً بمناخٍ عام من العقوبات الدولية التي تحجم عمليات الاستثمار، مع وجود جملة من السياسات النقدية الخاطئة التي تكون لحساب فئة على الأخرى. 

وفقا لتقرير اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن نحو 90 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر وأكثر من 15 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية. وتحاول دمشق معالجة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة ولكن بطريقة تعمّق الشعور لدى السوريين بكارثة الأزمة الاقتصادية التي باتت خانقة.

بنك “سوريا” المركزي، في 21 من نيسان/أبريل الفائت، رفع سعر الدولار الجمركي في سوريا أمام العملات الأجنبية بنسبة تقارب 6 بالمئة، وذلك بعد نحو أربعة أشهر على رفع قيمته بنسبة 30 بالمئة. وحدد البنك سعر مبيع الدولار بـ 9090 ليرة سورية وسعر شرائه بـ 9000 ليرة، بينما حدد سعر مبيع اليورو بـ 9685 وسعر شرائه بـ 9589 ليرة. 

تباين ردود الفعل

عادة ما يحدّث “المركزي” نشرة “الجمارك” كل أسبوع، دون نشرها على الموقع الرسمي، بينما تتداولها وسائل إعلام محلية. وهنا يذهب الخبير الاقتصادي، خالد تركاوي، في حديثه لـ”الحل نت”، أن رفع سعر الدولار الجمركي يعني أن حكومة دمشق لديها استجابة لسعر الأسواق التي تعني هنا انخفاض قيمة الليرة السورية، وانخفاضها يعني ارتفاع في سعر البضائع والسلع.

من جهته، الخبير الاقتصادي جورج خزام، لفت إلى أن رفع سعر صرف الدولار الجمركي في سوريا هو “اغتيال” للاقتصاد الوطني. وفي منشور كتبه الخبير الاقتصادي على منصة “فيسبوك”، ذكر أنه لم يكن ينقص جريمة اغتيال الاقتصاد الوطني عن سابق الإصرار والترصّد سوى رفع سعر صرف الدولار الجمركي بمقدار 5.88 بالمئة من 8500 ليرة إلى 9000 ليرة بالتزامن مع ارتفاع سعر صرف الدولار بالسوق السوداء.

وأكد خزام، أن رفع سعر الدولار الجمركي يعني أيضا زيادة في الرسوم الجمركية والمالية، مما يؤدي إلى زيادةٍ بتكاليف المستوردات والإنتاج الوطني مع مزيد من ارتفاع الأسعار والتكاليف، وحذّر من أن رفع سعر الدولار الجمركي سيدفع إلى تصفية قريبة للمصانع والورشات بسبب سوء إدارة السياسات النقدية والاقتصادية بـ”المركزي” السوري.

بل وطالب الخبير الاقتصادي، بإلغاء منصة تمويل المستوردات لأنها رفعت تكاليف الاستيراد للمواد الأولية بمقدار 35 بالمئة، وطالب بتشكيل لجنة من المختصين بالاقتصاد من خارج اللجنة الاقتصادية للوقوف على الأسباب الحقيقية ومعرفة ما يجري للتمسك المفرط بالمنصة على حساب انهيار الاقتصاد الوطني.

في حين حاولت مديرية الجمارك التابعة لدمشق تبرير رفع سعر صرف الدولار الجمركي 6 بالمئة، بأنه يأتي في إطار التعديل الذي يجريه “المركزي” في النشرات الخاصة. وكما خففت الصحافة المقربة المحلية في دمشق من تداعيات القرار في تحليلات.

تلك المؤسسات الصحفية، ادعت أنها تنقلها عن بعض العاملين في قطاع الأعمال، وأن أثر تعديل نشرة الجمارك ليس كبير، لأن حالة المنافسة والعرض في السوق تسهم في تحقيق حالة توازن في الأسعار وعدم حدوث شطحات سعرية غير حقيقية. إضافة إلى حالة التحوط التي بالأصل يلحظها معظم التجار والصناعيين لضمان عدم خسارتهم في حال حصلت تغيرات على سعر الصرف، بينما رأى عدد من الأكاديميين في الاقتصاد أن الإجراء يمثل حلقة تضخم جديدة في دورة الاقتصاد السوري وسيكون لها أثر مباشر في الأسعار لأن كلف المستوردات ارتفعت.

ماذا يعني الدولار الجمركي؟

الدولار الجمركي، هو سعر الدولار الذي يدفع به المستورد المبالغ المالية بالعملة المحلية مقابل الإفراج عن البضاعة المستوردة والمحجوزة في المنافذ الجمركية أي أنه يعني سعر صرف الدولار الذي بموجبه يتم تقييم قيمة البضاعة بالليرة السورية لفرض عليها الضرائب والرسوم بنسبة مئوية.

البنك المركزي السوري في دمشق - إنترنت
البنك المركزي السوري في دمشق – إنترنت

على سبيل المثال، بضاعة مستوردة سعرها 100 ألف دولار، سعر الدولار الجمركي 8.500 ليرة أي أن تقييم قيمة البضاعة 850 مليون ليرة بفرض الرسوم الجمركية 10 بالمئة أي أن الرسوم الجمركية هي 85 مليون ليرة في حال ارتفاع الدولار الجمركي إلى 9.000 ليرة أي أن قيمة البضاعة تصبح 900 مليون ليرة والرسوم الجمركية تصبح 90 مليون ليرة.

توجد في سوريا عدة نشرات لأسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الليرة، منها نشرتان منها يعلَن عنهما بشكل يومي، هما نشرة “السوق الرسمي” ونشرة “الحوالات والصرافة”، بالإضافة إلى سعر إضافي غير رسمي هو سعر “السوق السوداء”. 

وخلال السنوات الماضية، لجأت الحكومة السورية إلى خلق عدة أرقام لسعر صرف الدولار في سوريا لجملة أسباب، أبرزها الاستفادة من الفروق بين الأسعار التي يفرضها والأرقام الواقعية لقيمة الليرة السورية أمام الدولار في السوق “الموازية”. 

وبحسب موقع “الليرة اليوم” المتخصص بأسعار الصرف والعملات النقدية، وصل سعر مبيع الدولار إلى 14850 ليرة سورية، وسعر شرائه إلى 14700 ليرة. ومنذ مطلع العام الماضي، اتخذ بنك “سوريا” المركزي عددًا من القرارات، مبرّراً ذلك بأنه “خطوة باتجاه تقليص عدد نشرات أسعار الصرف الصادرة عنه، ضمن سعيه لتوحيدها.

بالنظرة الاقتصادية، يرى تركاوي أن الاختلافات بين سعر الدولار (الجمركي، الحوالات، الرسمي) يؤدي إلى مشاكل في التخطيط الاقتصادي، أو خلل في الفهم المنظومة الاقتصادية لدى العوام، وكذلك صعوبة جلب الاستثمارات، لأن المستثمر لا يدرك في حالة الاختلافات في سعر الدولار- وهي مشكلة يعاني منها الاقتصاد السوري – بأي سعر للدولار سيتمكن من دخول السوق.

معظم الخبراء السوريين المستقلين سواء داخل البلاد أم خارجها، يؤكدون أن تكرار رفع سعر صرف الدولار الجمركي سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار وكل مادة حسب نسبة رسومها، حيث أعلنت مديرية الجمارك رفع المبالغ المالية والغرامات المقررة في قانون الجمارك رقم 38 لعام 2006، حيث سيتم احتساب الغرامات الآن وفقًا لسعر الصرف الحالي. 

هذا وتسجل الليرة السورية في السوق الرائجة بين 14.500 إلى 15.500 مقابل الدولار الأميركي الواحد، وحسب مراجع اقتصادية فإن التداولات الحقيقية تزيد عن سعر الصرف الرسمي والرائج بنسبة كبيرة، حيث يجري بيع وشراء الدولار بين التجار بأسعار أعلى من المحددة.

الباحثة المختصة في الاقتصاد السياسي، نوال عمران، أشارت في حديثها لـ”الحل نت”، إلى أن العرض المعدوم من المواد المنتجة مع ارتفاع الاستهلاك الناتج عن توفر الليرة دون قيمة اقتصادية حقيقية سيؤدي إلى انخفاض سعر الليرة أكثر مع الزيادة على الطلب على الدولار من التجار، هذا مع تراجع استيراد المواد الأولية الداخلة بالإنتاج أدى إلى توفر رأس مال والذي تم توظيفه بالمضاربة على الليرة السورية ما أدى إلى انخفاض قيمتها فضلا عن تراجع الإنتاج.

وحش التضخم يطارد السوريين

يتنافى رفع سعر الدولار الجمركي مع سياسة ضبط معدلات التضخم التي يقول بنك “سوريا” المركزي إنه يعمل وفقها. وهنا تؤكد عمران أن من أخطر النتائج التي ستترتب على رفع سعر الدولار الجمركي من “المركزي” السوري هو “التضخم الاقتصادي”.

وفقا للباحثة المختصة في الاقتصاد السياسي، فإن التضخم ظاهرة مركّبة ومعقّدة ويصاحبها مزيد من العمليات الاقتصادية المهلكة للاقتصاد، لأن التضخم يبتلع أي دعم من الحكومات نتيجة لارتفاع الأسعار، وهذا بدوره سيؤدي إلى عجز الميزان التجاري، الذي سيؤدي إلى ارتفاع قيمة الدين الخارجي. 

والحل الوحيد الذي يمكنه أن يقضي على التضخم بشكل تدريجي هو إعادة عجلة الإنتاج هو ما تفتقده سوريا في ظل الحرب المستمر مما يدفع إلى الانتحار المبكّر المتمثل في القروض عالية الفائدة، أو إلى رفع سعر الموارد النفطية وهذا أيضاً مأزق آخر للاقتصاد السوري لأن هذا الأخير يعتمد على النفط المستورد من الأسواق الدولية الأمر الذي سيساهم في ارتفاع معدلات التضخم لأنه هناك ارتفاع في سعر الدولار الجمركي “.

وتؤكد عمران، على أن رفع سعر الدولار الجمركي سيؤثّر على الأسواق وهذا يرجع إلى أن الأسواق السورية تعتمد بشكل كبير على الاستيراد خاصة فيما يتعلق بالمواد الأولية في عجلة الإنتاج. كما أن هناك دائما فجوة كبيرة بين المنتج الثابت وسعره غير المستقر مما يخلق حالة من الكساد الاقتصادي وعدم الإقبال على حالات البيع أو الشراء في الأسواق. ومن ناحية أخرى ترى عمران أن رفع سعر الدولار الجمركي على قدر قدرته الهائلة على التأثير في الاقتصاد الشعبي أي ما يشعر به المواطن البسيط في أقل حركات البيع والشراء اليومية إلا أنه أيضاً يؤدي إلى انحطاط قيمة العملة المحلية “الليرة السورية” ويزيد من فرص انهيارها وخاص مع غيب الإنتاج المحلي. 

بحسب تقرير صادر في 10 من آب/أغسطس 2023، سجلت سوريا المرتبة الثالثة عالمياً بمستوى التضخم بنسبة 238 بالمئة على أساس سنوي، بعد زيمبابوي وفنزويلا، وفقاً للوحة “هانكي” لقياس التضخم الاقتصادي في عديد من البلدان، دون الاعتماد على الإحصائيات الحكومية.

من جهة أخرى، قد يؤدي رفع سعر الدولار الجمركي إلى تقليل قدرة الشركات والمصانع على الإنتاج، خاصة إذا كانت تعتمد بشكل كبير على المواد الخام المستوردة أو المعدات والآلات الصناعية المستوردة، الأمر الذي يؤثر سلباً على القطاع الصناعي ويقلل من حجم الإنتاج المحلي، ما يزيد من الاعتماد على الواردات ويؤثر على استقلالية الاقتصاد. 

وطبقا للمحللين الاقتصاديين، فإن معدلات التضخم الموجودة في سوريا معدلات كبيرة جدّاً رغم عدم اعتراف دمشق بذلك بسبب غياب أساسيات السوق الحر الذي يحدد وفقه معدل التضخم بشكل دقيق. وتتعامل الحكومة السورية مع ملف ضبط معدلات التضخم وفق قرارات آنية غير مدروسة لا تبنى على أساسيات اقتصادية.

وأخيراً، إن حالة الارتباك التي يعاني منها الاقتصاد السوري مقترنة اقتراناً شرطي بالارتباك السياسي، فإذا ما حدث استقرار في المشهد السياسي لن يتحقق انضباط اقتصادي آمنا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات